تعد موافقة حماس الدقيقة للغاية، والمصحوبة بإعلان مواقفها المنطقية والسياسية، التي تخلو حتى من الشعارات المثالية والثورية، إحدى نقاط الغموض في الخطة الأمريكية المطروحة للسلام في غزة، بحيث ألقت الحركة بالكرة في ملعب الطرف الآخر، وهذه سياسة شجاعة وواقعية شهدناها سابقا في سلوك حزب الله اللبناني.
إن أحدا لم يكن يتوقع أدنى احتمال أن تقاوم حركة حماس وأهالي غزة لمدة عامين كاملين بمثل هذه الشجاعة الهجمات والجرائم الإسرائيلية في غزة وخارجها، خاصة بعد أن تم اغتيال معظم قادتها الرئيسيين في الداخل والخارج، وخلال هذه الـ730 يومًا كانوا تحت حصار دائم وكامل، ورفضوا جميع المقترحات السابقة التي كانت تحمل عنوان الاستسلام أو السلام.
وعلى الرغم من ذلك، كانوا ينظرون دائمًا بإيجابية إلى الاتفاقات المحدودة؛ لذلك، لا شك في صمودهم ومقاومتهم المثالية، وبالطبع، يجب ألا ننسى أن هذه المقاومة هي في مواجهة إرادة نظام عنصري هدفه الأول والأخير هو إبادة هذا الشعب واحتلال أرضه، وعليه، يجب تحليل مقاومتهم وتقييمها وفهمها في ضوء سلوك هذا العدو.
فمنذ أن عاد ترامب إلى البيت الأبيض مجددا، أطلق تصريحات ملتوية ومشوهة كثيرة حول غزة، ففي البداية، كانت لديه مواقف غريبة بشأن الطرد والتهجير الدائم للفلسطينيين والسيادة الأمريكية الكاملة على غزة، ورفض العودة إلى الأوضاع السابقة.
لكن في مواقفه الأخيرة وخطته للسلام، مال أكثر نحو الحلول المؤقتة والوساطة ووقف إطلاق النار وتبادل الرهائن.
بالنظر إلى خطة ترامب المقترحة لإنهاء حرب غزة، كان من المنطقي أن ترفضها حماس، ولكن خلافا للتوقعات، فاجأت حماس الجميع بتقديم رد إيجابي ظاهريا، والأهم من ذلك، رد دبلوماسي ومهذب وشجاع، تضمن حتى إشادة بترامب.
لماذا نقول إيجابيا ظاهريا؟ لأن خطة ترامب تحتوي على نقاط غامضة، وكأنها طريق لا يتضح مقصده النهائي فحسب، بل يمتلئ حتى الوصول إلى نهايته بمختلف الطرق الفرعية والمخارج التي يمكن لإسرائيل، بالاعتماد على قوتها، أن تستخدمها لتغيير مسارها والخروج عن الطريق الرئيسي.
علاوة على ذلك، لم ولن تنسى حماس، ولا أي طرف آخر، مواقف ترامب خلال الأشهر التسعة الماضية وتحالفه الكامل مع نتنياهو، وكذلك استخدامه لحق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لصالح إسرائيل.
كما يعلم الجميع أن خطة ترامب غامضة تماما من جوانب مختلفة، بما في ذلك الوضع النهائي لغزة من حيث كونها تحت سيطرة حكومة فلسطينية أو مصرية أو حتى أمريكية، كما أنها أغفلت قضية اللاجئين وحقهم في العودة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن دور الولايات المتحدة وحلفاءها في إعادة إعمار غزة غامض تماما، على الرغم من أنه قال إن أمريكا “ستعيد إعمار غزة”، إلا أنه لم يحدد أي آلية مالية أو إدارية أو أمنية أو قانونية واضحة.
كما أن خطته غامضة في تحديد مكانة “حماس”، والأهم من ذلك أنه لا توجد أي آلية لضمان تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، فبدون آلية رقابة قوية، تظل الخطة مجرد حبر على ورق.
كل هذه النقاط الغامضة هي إستراتيجية وأساسية، كما أن تكاليف قبول هذه الخطة بالنسبة لحماس والفلسطينيين هي تكاليف نقدية يجب دفعها فورًا، لكن فوائدها كلها محتملة ومؤجلة، فلماذا قبلتها حماس؟!
إن أحد أهم الأسباب هو قبول نتنياهو لها، فهو يتعرض لضغوط شديدة داخلية وخارجية، ويسعى أيضا للحفاظ على علاقته بترامب، كما أن نقاط الغموض المختلفة في هذه الخطة تصب في مصلحة إسرائيل، حيث يمكنها أن تقدم تفسيرها الخاص لها.
وبذلك، وبهدف نزع فتيل الضغوط، سيتمكن من تحقيق حل فوري لأزمة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، ثم يغير مساره لاحقا من خلال تفسيراته الخاصة للاتفاق.
السبب المهم الآخر هو رغبة أهالي غزة، وهو ما رأيناه في فرحتهم بعد إعلان حماس موافقتها، كما أن الدعم العالمي لهذه الخطة الغامضة هو سبب آخر في هذه القضية، فلقد دخل كل شخص وكل دولة في هذه العملية الداعمة بهدف معين، حتى الروس سلكوا نفس الطريق، ومن المثير للاهتمام أن الحوثيين في اليمن أيضا أيدوا قرار حماس دون شروط.
إن موافقة حماس الدقيقة للغاية، والمصحوبة بإعلان مواقفها المنطقية والسياسية، التي تخلو حتى من الشعارات المثالية والثورية، تعد إحدى نقاط الغموض في الخطة المطروحة، بحيث ألقت بالكرة في ملعب الطرف الآخر، وهذه سياسة شجاعة وواقعية شهدناها سابقا في سلوك حزب الله اللبناني.
ليس من المفترض أن تكون هذه هي نهاية العالم في السياسة. سيظل البشر يعيشون على هذه الأرض إلى مستقبل غير معلوم. جاء العديد من المدّعين وذهبوا، ولم ينتهِ العالم، ويبدو أنه لن ينتهي قريبًا. إن الطريق الطبيعي للحياة وممارسة السياسة يكمن في إطار معقول واحترام الناس وإرادتهم.
دعونا لا ننسى أننا، لا نحن ولا ترامب ولا أي دولة أو أمة أخرى، من يكتب نهاية التاريخ. فكما أن بدايته لم يكتبها أحد. كلنا مجرد ذرة صغيرة جدًا من التاريخ.
لاحقًا، لن يُكتب سوى في زاوية صغيرة من كتب التاريخ كم كان واهمًا أولئك الذين ظنوا أنهم في لحظة تقرير مصير البشرية، وأن مواقفهم هي التي تحدد إلى أين ستتجه البشرية أو لا تتجه. لا يحق لنا أن نرهن حياة الناس لأسر أوهامنا وأفكارنا. الحياة تستمر.
ـــــــــــــــــ
مقالة مترجمة من “سر مقاله” (بالعربية: الافتتاحية) في صحيفة هم ميهن بعنوان “حماس وسياست واقع گرا” (بالعربية: حماس وسياسة الواقعية) يوم ١٣ مهر ١٤٠٣ هـ. ش. الموافق ٥ أكتوبر ٢٠٢٥م.
