أعاد خبر تفعيل أكثر من 80 ألف آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر في محافظة طهران قضية “الرقابة الاجتماعية من الأعلى” إلى مركز النقاش العام مرة أخرى، إذ يهدف هذا الإجراء إلى “تحقيق القيم الدينية” و”منع المنكرات الثقافية”، قد يكون في الواقع علامة على أزمة الشرعية، وانعدام الثقة، وخاصة تحديد الأولويات بشكل خاطئ في السياسات العامة الإيرانية.
وقد أثار نشر هذا الخبر وسط مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية التي فرضتها الجمهورية الإسلامية على المجتمع الإيراني موجة من الدهشة وعدم التصديق بين الناس.
تحديد الأولويات بالمقلوب
تواجه إيران اليوم أزمة شاملة، من حيث التضخم الجامح، والفجوة الطبقية، وهجرة النخب على نطاق واسع، وبطالة الشباب، وتآكل رأس المال الاجتماعي، والأهم من ذلك، أزمة الثقة العامة في المؤسسات الرسمية.
وفي مثل هذه البيئة، يُعد تخصيص الموارد البشرية لمشروع يركز على “الأمر بالمعروف” أكثر دلالة على هروب السلطة من مواجهة القضايا الجوهرية للمجتمع منه كحل لها، وعندما تقل موارد الناس يومًا بعد يوم ويعيش ملايين تحت خط الفقر، فإن تفعيل عشرات الآلاف من القوى الرقابية بدل خلق فرص عمل أو السيطرة على التضخم يُعتبر تجاهلًا كاملًا للأولويات الحقيقية للمجتمع.
في الواقع، يعد المشروع أداة لإعادة إنتاج النظام الإيديولوجي في زمن أصبح هذا النظام هشًا من الداخل، أكثر منه محاولة لـ”إصلاح اجتماعي”.
من واجب أخلاقي إلى رقابة حكومية
في الفقه الإسلامي، يُعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبًا عامًا وأخلاقيًا يركز على الحوار اللطيف، والنية الحسنة، وتجنب الإكراه، لكن عندما يُؤطر هذا الواجب في شكل “لجنة”، أو “ضابط قضائي”، أو “غرفة وضع”، فإن طبيعته تتغير تمامًا.
وما كان في النصوص الدينية فعلًا تطوعيًا وشخصيًا للمؤمنين، أصبح في البنية الحالية لإيران نظامًا للرقابة الاجتماعية وتحوّل إلى جانب بوليسي في المجال العام.
بدقة أكثر، في هذا المشروع، لم يعد “الأمر بالمعروف” مجرد توصية أخلاقية، بل أصبح نوعًا من الرقابة الإيديولوجية على أجساد وسلوك المواطنين؛ وأصبحت هذه الرقابة مثيرة للجدل بشكل خاص حين تتدخل في مجالات مثل اللباس، وأسلوب الحياة، وحضور النساء في المجتمع.
وليس مبالغة إذا اعتُبر الهدف الرئيسي لهذا النظام الرقابي هو الحضور الاجتماعي للنساء، هذا على الرغم من أن أحد أهم مبادئ الأمر بالمعروف هو تجنب الإفساد، إلا أن التجربة أظهرت أن التطبيق الصارم والأمر المباشر في السنوات الأخيرة كان أكثر ما يكون مفسدًا، من الاشتباكات في الشوارع إلى فقدان الثقة العامة وتصاعد التوتر بين الأجيال.
لنستذكر حركة مهسا ـ ژينا أميني التي اندلعت بعد مقتل فتاة كردية إيرانية في أثناء احتجازها على يد “دوريات الإرشاد”.
أزمة الشرعية والبحث عن الرقابة من الأسفل
تتحدث الحكومة والمؤسسات الحاكمة عن مشاريع مثل هذا في وقت تضعف فيه أسس شرعيتها السياسية لدى الرأي العام بشكل حاد، فالاستطلاعات، وانخفاض معدلات المشاركة في الانتخابات، والاحتجاجات الاجتماعية المتفرقة كلها تشير إلى أن الرابط بين السلطة والشعب أصبح هشًا أكثر من أي وقت مضى، بل يراه بعض المراقبين كأنه قد انهار.
في هذا الوضع، فإن تفعيل عشرات الآلاف من القوى المدربة في إطار الأمر بالمعروف يمثل في الواقع محاولة لإنشاء شبكة للرقابة الاجتماعية من الأسفل، وهي شبكة تبدو تطوعية، لكنها في الواقع مرتبطة بالمؤسسات الرسمية.
وتذكرنا هذه البنية بالنماذج الكلاسيكية للتعبئة الإيديولوجية في الدول الاستبدادية، حيث يحول النظام جزءًا من الناس إلى أداة لمراقبة الآخرين للحفاظ على السيطرة، ولهذا السبب يرى العديد من علماء الاجتماع أن مثل هذه المشاريع علامة على تراجع القوة الناعمة للحكومة والتحول من الإقناع إلى الإكراه، فضلاً عن أن استخدام الناس لمراقبة بعضهم البعض يزيد من تفكك المجتمع الإيراني.
إعادة إنتاج “دوريات الإرشاد”
رغم تأكيد مسؤولي لجنة الأمر بالمعروف أن المشروع “ثقافي وتعليمي”، إلا أن بنيته لا تختلف كثيرًا عن تجربة دوريات الإرشاد الفاشلة، فنفس منطق الرقابة على مظهر المواطنين، ونفس التمييز بين “الذاتي” و”الغيري”، ونفس التبرير الديني للتدخل في الحياة الخاصة.
ولدى الرأي العام، لا يُنظر إلى هذا المشروع سوى على أنه إعادة إنتاج لدوريات الإرشاد، وقد أظهرت التجربة أنه في غياب الرقابة الفعالة والشفافية، تنهار الحدود بين الأمر بالمعروف والعنف اللفظي أو الجسدي بسرعة.
في مجتمع يكثر فيه التوتر النفسي وأصبح تحمل الناس للضغوط منخفضا، يمكن لمثل هذه المشاريع أن تشعل النزاعات اليومية أكثر، وهذه التجربة بالذات تجعل إعادة إنتاج الرقابة الإيديولوجية، حتى بصياغة جديدة، أمرًا غير معقول ويبدو بعيدًا عن العقلانية!
إذ إنه نهج وصاية يرى نفسه ملزمًا بـ”توجيه الناس” ولا يتردد في استخدام العنف وفرض القوة لتحقيق ذلك.
الآثار الاجتماعية والنفسية
حتى لو لم يكن هؤلاء الـ80 ألف ضابطًا قضائيًا، فإن وجودهم الواسع والمنظم في الفضاء العام بحد ذاته يمكن أن يولد قلقًا اجتماعيًا، وسوف تعتبر النساء، اللواتي يتعرضن أكثر للتأثر بهذه المشاريع، تهديدًا لحريتهن.
ففي مجتمع منخفض التحمل ومتزايد الفجوات بين الأجيال، يمكن لوجود هؤلاء “الآمرين بالمعروف” أن يفرض ضغطًا نفسيًا شديدًا على المواطنين، لا سيما على النساء والفتيات اللواتي كن محور السياسات الانضباطية في السنوات الأخيرة.
إن شعورا بعدم الأمان، والرقابة الذاتية في اللباس والكلام، والخوف من التنبيهات في الشوارع، يمكن أن يحول الفضاء العام من مساحة للمشاركة الاجتماعية إلى ساحة صراع دائم.
من جهة أخرى، يعزز المشروع شعور النساء بعدم الثقة في السلطة، لأنهن يعتبرنه محاولة لفرض نمط حياة معين على المجتمع كله، خصوصًا وأن تطلعات وتجارب الجيل الجديد أكثر تنوعًا واختلافًا عن النموذج الرسمي.
الخلاصة
إن تفعيل 80 ألف آمر بالمعروف وناه عن المنكر في طهران علامة على عجز السياسات الثقافية في إيران، فبدل الإصلاح الاقتصادي الضروري في هذه المرحلة، والحوار الاجتماعي، وإعادة بناء الثقة العامة، لجأت الحكومة إلى الرقابة الأخلاقية والمظهرية.
والواقع أن هذه الوصفة فشلت مرارًا وتكرارًا على مدار السنوات الماضية، فالمجتمع الإيراني اليوم يحتاج ليس إلى مراقبين جدد، بل إلى آذان صاغية، وحرية التعبير، وعدالة اجتماعية.
كما أن أي مشروع قائم على التنبيه والإكراه لا يمكنه معالجة الأزمة الأخلاقية، لأن جذورها ليست في “سوء الحجاب” أو “سلوك الناس”، بل في شعورهم بالظلم، والتمييز، وفقدان الثقة في الحكومة.
وما لم تُعالَج هذه الجذور، فإن أي محاولة للرقابة على الناس ستؤدي إلى مزيد من الانقسام.