“يبدو أنكم لا تدركوا جيدًا آليات صنع القرار وصنع السياسات في إيران”، بتلك الجملة رد علي لاريجاني على صحفي إيطالي سأله عن استقالته كمسؤول عن الملف النووي الإيراني عام 2007، وما إذا كان ذلك يعد تحولًا إيرانيًا إلى سياسة أكثر تشددًا تجاه ذلك الملف، خاصة أن لاريجاني وقتها تحول إلى خوض الانتخابات البرلمانية، وخاض نزالًا تشريعيًا عن مدينة “قم” ثم بات رئيسًا لمجلس الشورى الإسلامي على الرغم من كونه ليس من علماء الدين.
اقرأ أيضا:
وقد باتت تلك الجملة كجرس يرن في أسماع كل من يتابع الشؤون الإيرانية حتى اليوم الذي أصدر فيه المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي قراره بتعيين لاريجاني ممثله الخاص في المجلس الأعلى للأمن القومي، وقبلها بيوم واحد أصدر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قراره بتولي لاريجاني منصب الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني وهو أعلى منصب أمني في البلاد، بعد حرب استمرت اثني عشر يومًا مع إسرائيل.
حكم الفلاسفة والأسر الشريفة
لاريجاني هو سليل لإحدى الأسر النافذة في إيران، والتي تتمتع بنفوذ واسع في السلطة التي يشبه تكوينها السياسي نظيره عند اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، وهو القرن الذي سيطرت فيه الأسر الشريفة في أثينا، والتي كانت محصورة في 20 أسرة فقط، على مقاليد الأمور في البلاد لأن المواطنين وقتها كانوا يعيشون تحت هيمنة الدين، أو بمعنى أدق تحت سلطة رجال الدين، طبقًا لما ذكره الفيلسوف الإيراني علي شريعتي في كتابه “دين ضد الدين”.
لكن في كل الأحوال فإن لاريحاني على الرغم من كونه ليس جنرالًا أو رجل دين من فقهاء الحوزة، إلا أنه ابن أحد رجال الدين في الحوزة وهو آية الله ميرزا هاشم أمولي، وأمه ابنة آية الله سيد محسن أشرفي، وهو صهر الفيلسوف الأبرز في إيران مرتضى مطهري، صاحب الشبكة الواسعة من المؤلفات التأصيلية والعقائدية والفلسفية الإسلامية، وهو أحد مؤسسي الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحديثة بصحبة الفيلسوف الأشهر محمود طالقاني المفكر اليساري والماركسي الشهير في إيران، وهو نفسه – أي لاريجاني – قال عن نفسه: “إنني أنتمى إلى أسرة دينية لها صلات وثيقة بجميع المراجع”.
وقد كانت مصاهرة لاريجاني لأسرة الفيلسوف مرتضى مطهري على وجه التحديد هي ما عزز علاقته بأية الله علي خامنئي الذي كان صديقًا لأسرة مطهري.
أما عن لاريحاني المفكر فهو الفيلسوف الذي يدرك جيدًا كيف يفكر الغرب، إذ إنه حصد درجتي الماجستير والدكتوراة في الفلسفة الغربية وله مؤلفات بارزة عن الفيلسوف الألماني الأشهر إيمانويل كانط الذي يحبه الإيرانيون، والفيلسوف وعالم المنطق الأمريكي شاول كريبك وفيلسوف ما وراء الطبيعة الأمريكي ديفيد لويس، وكأن النظام الإيراني يعلي من شأن من يدرك جيدًا كيف يفكر الغرب وأمريكا بالتحديد ويدرك كيف يتم التعامل معها.
إيران من أفكار أفلاطون إلى لاريجاني
ولعل هذا هو المسار الذي يستند على أفكار أفلاطون الفلسفية في بناء المدينة الفاضلة، حين رفع الفلاسفة والمفكرين في مصاف الحكام وأصحاب القرار النهائي، إذ يقول أفلاطون في محاورة الجمهورية: “إن علينا أن نلزم فلاسفتنا أن يقدموا الرعاية وحسن الإدارة للآخرين… وقد جئنا بهم إلى العالم كي يكونوا حكامًا للخليقة، ملوكًا لأنفسهم وللمواطنين الآخرين، وإنهم قادرين على المساهمة في الواجب المضاعف”.
وكأن خامنئي يرفع شعار أفلاطون حين يقول: “متى استُخدمت الفلسفة ولم تفلح؟”، يزيد على ذلك أن الإيرانيين متأثرين بتشبيه كيسنجر للثورة الإيرانية بالثورة الفرنسية في قوله إن “رغبة قوة واحدة في تحقيق الأمن الكامل لنفسها تعني الأمن غير المستقر للآخرين”.
اقرأ أيضا:
لكن ما يهم ويؤثر على المفاوضات النووية الإيرانية هو أن قرار وضع لاريجاني على رأس أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي للبلاد، وهو بالمناسبة الجهاز الذي يحدد سياسة إيران النووية على وجه التحديد كأحد أهم اختصاصاته، يضع سلطة التفاوض على برنامج إيران النووي في يد المجلس الأعلى للأمن القومي، خاصة وأن ذلك الملف على وجه التحديد كان في يد وزارة الخارجية الإيرانية، والتي كانت تحدد فريق التفاوض مع واشنطن والقوى الغربية في أوقات كثيرة.
علاوة على أن لاريجاني ماهر في التحول من العمل التنفيذي إلى العمل التشريعي ومن العمل التشريعي إلى العمل التنفيذي، ولعل أبرز دليل على ذلك أنه تحول إلى البرلمان بعد استقالته من رئاسة فريق التفاوض النووي عام 2007، ثم تحول إلى العمل التنفيذي بتوليه أمانة المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني مؤخرًا.
التنسيق بين الميتافيزيقا والبرجماتية
على هذا النحو يمكن القول إن تصعيد لاريجاني على قمة مثل هكذا مؤسسة في مثل تلك الظروف يعكس لغة جديدة للخطاب البرجماتي مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مستقبلًا بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني، وهي البرجماتية التي تتخذ من فكر فلاسفة أمريكيين مثل تشارلز بيرس ووليم جيمس وجون ديوي أسلوبًا للعمل والممارسة، وتتحول من الميتافيزيقا “البعد الديني” إلى إيجاد طريق للعمل والممارسة بما يفيد في الحياة العملية.
وترى البرجماتية أن الميتافيزيقا سواء تم ترجمتها في سياق “الدين” أو “العقيدة” أو “المذهب” لم توجد لتعوق العقل عن التفكير فيما يساعد الإنسان في الانتفاع بأفكار تُصلح وتنفع حياته العملية، خاصة إذا اعتبرنا مثلًا أن فكرة ميتافيزيقة كـ”وجود الله” يمكن التدليل عليها برجماتيًا إذا اعتبرنا أنها باعثة على سلوك عملي نافع للأفراد وتكرس للإصلاح والتقوى والمعاملة الحسنة بين الشعوب، وهنا تكون فكرة صحيحة وصادقة وذات نفع على الإنسان ويمكن أن تكون مشروعا أو خطة عمل مستقبلية تحقق أهدافًا عليا.
اقرأ أيضا:
ويمكن أن نعتبر أن تصعيد لاريجاني يمثل نهجًا إيرانيًا برجماتيًا يجري التجهيز له بعد الحرب بين إيران وإسرائيل، تلك التي استخدمت فيها واشنطن تل أبيب كعصا لتأديب إيران على تصلبها خلال المحادثات التي جرت في مسقط أحيانًا وفي روما أحيانًا أخرى بشأن عملية تخصيب اليورانيوم الإيراني.
إذ برزت مؤخرًا جماعات ضغط أمريكية كانت أبرزها منظمة Arms control association والتي يرمز لها اختصارًا بـ”ACA” أو جمعية مراقبة الأسلحة، والتي دعت البيت الأبيض لتعطيل العقوبات على إيران وبدء التفاوض معها، كمحاولة لمواجهة نفوذ منظمة “AIPAC” الصهيونية المتوغلة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تؤثر على صناعة القرار الأمريكي، والتي كانت سببًا في تحول موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ودخوله على خط المواجهة بضرب المفاعلات النووية الإيرانية بقنابل GBU، وهي الضربة التي اعتبرتها منظمة ACA خطأ إستراتيجي.
خاتمة
لقد أصبح علي لاريجاني “أمينا” لمجلس الأمن القومي في إيران وليس “رئيسا” للمجلس؛ لأن رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران هو رئيس الجمهورية وفقا للمادة 176 من الدستور، وهو الذي يعين الأمين العام للمجلس، وإذا كان من ملخص لكل ما تقدم فهو كالتالي:
أولًا: صدق لاريجاني في قوله إن كثيرين لا يدركوا كيفية صناعة القرار في إيران، لكن الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني شرح بجزء من التفصيل تلك العملية المعقدة قائلًا: “لدينا مشاكل في اتخاذ القرار فيما يتعلق بجمع المعلومات وتحليلها، وفي كثير من الأحيان وفي قضايا السياسة الدولية والخارجية نحتاج إلى اجتياز مراحل من العلم والمعرفة الأكادينية والجامعية لتجاوز تلك المشكلات”. وبالتالي كان لاريجاني الفيلسوف الذي درس الحضارة الغربية وفلسفتها ونظرياتها التي قامت عليها أحد أبرز الوجوه الماهرة في صياغة مرحلة جديدة أكثر برجماتية تجاه التفاعل مع تلك القوى المناوئة لإيران، وقد وضعت السلطات الإيرانية مسألة تحديد مصير مستقبل البرنامج النووي الإيراني بهذا القرار في يد المجلس الأعلى للامن القومي، فضلًا عن دراسة قرار نهائي يتعلق بمصير علاقات إيران مع القوى المناوئة لها مستقبلًا.
اقرأ أيضا:
ثانيًا: يعكس تصعيد لاريجاني لهذا المنصب بالفعل قربه من المرشد الأعلى علي خامنئي وقربه من بيت القيادة، وكون لاريجاني سليل إحدى العائلات النافذة جعله من “أهل الثقة والكفاءة معًا” في ظل تزايد عدد العملاء الذين يعملون لحساب الموساد الإسرائيلي في إيران، وهم من شخصيات ورموز الصف الأول في هرم السلطة الإيراني ومن أبرزهم نائب وزير الدفاع الإيراني علي رضا أكبري، الذي اعترف بالتجسس لصالح جهاز الاستخبارات البريطانية والموساد الإسرائيلي والذي أعدمته السلطات الإيرانية بتلك التهمة. فضلا عن الدكتور “روزبه وادي” الذي كان عضوًا في معهد أبحاث العلوم والتكنولوجيا النووية التابع لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، والذي أعدم أيضًا يوم الأربعاء 6 أغسطس 2025م، لتجسسه لصالح إسرائيل.
ثالثَا: إن إيران – برغم أي تحفظات عليها – تعتمد على الفلاسفة بقدر ما لا تعتمد عليهم أنظمة أخرى، وتضعهم في المقدمة بقدر ما تحط من قدرهم أنظمة أخرى، وتفتح أمامهم آفاق المشاركة في رسم سياسات الدولة بقدر ما تتجاهلهم الأنظمة ذاتها، وهم الأجدر على التفكير في السياسة ورسم خارطة المستقبل مهما كانت الظروف، وذلك يأتي استنادًا على أن أطروحات الفلاسفة والمفكرين على مر الزمان بجانب أنها كانت تفسر الوجود وحقيقة الإنسان ودوره في هذا العالم، إلا أنها وضعت أسسا وقواعد قيام الدول، إذ أسس أفلاطون لـ”المدينة الفاضلة” بفكرة “الأكاديمية”، ورسخ أرسطو للأفكار التوسعية واستعباد الآخرين بجانب أنه أول من تحدث عن الدستور في كتابه الأشهر والأهم “السياسة”، كما لم يتوقف التنظير الفلسفي اليوناني وغير اليوناني عند تلك الحقبة، بل تعداه إلى فلاسفة العصور الوسطى كما جاء في فلسفة أوغسطين وتوما الإكويني، على الرغم مما تسببا فيه، مرورًا بالفلسفة الحديثة حيث ديفيد هيوم وجون لوك وجان جاك روسو من أصحاب نظريات العقد الاجتماعي ونظريات السياسة الحداثية، وفولتير أحد منظري الثورة الفرنسية.
________
للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S