ألقى الرئيس الإيراني الدكتور مسعود بزشكيان خطابا مهما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثمانين يوم الأربعاء 24 سبتمبر 2025، في لحظة إقليمية ودولية بالغة الحساسية، فقد جاء خطابه بعد أشهر قليلة من تعرض إيران لضربات جوية أمريكية وإسرائيلية استهدفت مدنا وبنى تحتية داخل أراضيها، في وقت كانت فيه طهران منخرطة في مسار تفاوضي دبلوماسي، مع احتمالات بتجدد الحرب الإسرائيلية على البلاد مرة أخرى، ولعل هذا السياق جعل الخطاب يتسم بحدة لغوية واضحة، ممزوجة بتركيز على الدفاع عن الذات الوطنية من جهة، وعلى استدعاء القيم الأخلاقية والدينية من جهة أخرى، على اعتبار أن الدين الرسمي الذي تدين به الجمهورية الإسلامية يحمل رسالة عالمية إلى كل الأمم والشعوب.
اقرأ أيضا:
وفيما يلي تحليل لأهم ما ورد في الخطاب في ضوء منهج تحليل الخطاب النقدي.
أولا: إيران لن تسعى لامتلاك القنبلة على عكس رغبة الأمة
يمكن ملاحظة أن بزشكيان اعتمد على بنية لغوية تقوم على التكرار والنفي والاستدعاء الرمزي، فقد كرر أكثر من مرة أن إيران “لم ولن تسعى أبدًا إلى امتلاك قنبلة نووية”، في محاولة لترسيخ صورة بلاده كفاعل ملتزم بالقانون الدولي، ولتفكيك السردية الغربية التي تعتبر إيران تهديدًا نوويا، على الرغم من علمه أن هذا المبدأ الآن هو العكس تماما من رغبة الأمة الإيرانية التي نادى أبناؤها على منصات التواصل المختلفة كما نادى 71 نائبا في برلمانها بحتمية أن تسعى إيران لامتلاك السلاح النووي.
اقرأ أيضا:
كما لجأ جراح القلب إلى مفردات مشحونة بالقوة العاطفية مثل “إبادة جماعية” و”ذبح الأطفال” و”خيانة جسيمة للدبلوماسية”، وهي مفردات تهدف إلى استثارة الضمير العالمي وإكساب الموقف الإيراني بعدا أخلاقيا يتجاوز منطق السياسة الواقعية البحتة، وهو هنا يحاول أن يستثمر النفور العالمي من أمريكا وإسرائيل إثر اعتراف كثير من دول العالم بالدولة الفلسطينية على غير رغبة واشنطن وتل أبيب.
لعل أحد أهم أبعاد ما جاء الخطاب هو استدعاء القاعدة الذهبية للأخلاق الإنسانية عبر نصوص من المسيحية واليهودية والإسلام والتقاليد الشرقية، فضلًا عن الفلسفات الأخلاقية الوضعية، ولذلك نجد أن الرئيس الذي ينحدر من مزيج عرقي أذري وكردي استحضر أبيات من الشعر الفارسي لحافظ وسعدي.
ولقد أراد الرئيس الإيراني بذلك أن يقدم نفسه وموقف بلاده باعتبارهما امتدادًا لميراث إنساني عالمي يقوم على قاعدة “لا تحب لأخيك ما لا تحبه لنفسك”، وهنا تعمد أن يستهدف بهذا التوظيف الديني ــ الأخلاقي الحاضرين في قاعة الأمم المتحدة، سواء بسواء مع الرأي العام العالمي الذي يتابع القضية الفلسطينية وما يرتبط بها من صور مروعة للضحايا المدنيين إثر عدوان إسرائيلي لم يسبق له مثيل في الحضارة البشرية بالعصر الحديث.
ثانيا: الشعبان الإيراني والفلسطيني تحت نيران عدوان واحد
شأنه شأن أي رئيس إصلاحي اعتمد بزشكيان على الدلالات البلاغية الفلسفية التي تذخر بها اللغة الفارسية، فمن الناحية الخطابية، خاطب الرجل الذي عمل وزيرا للصحة سابقا جماهير متعددة في آن واحد، إذ توجه إلى الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مطالبا إياها بالالتزام بالقانون الدولي، وخاطب الرأي العام الدولي عبر تصوير إيران كضحية عدوان خارجي، كما خاطب الداخل الإيراني بتأكيده على وحدة الشعب وصموده في مواجهة التهديدات والعقوبات.
اقرأ أيضا:
الملاحظ في تلك الدقائق أنه تعمد رفع صور الضحايا من نساء وأطفال وقادة عسكريين وعلماء، قضوا نتيجة العدوان الإسرائيلي على بلاده، وقد مثل ذلك وسيلة رمزية لتحويل الخطاب من مجرد جدل سياسي إلى سردية إنسانية قادرة على حشد التعاطف والتأييد والإقناع بالصور البصرية وليس بمجرد العبارات البلاغية.
على المستوى الأيديولوجي، أعاد بزشكيان إنتاج ثنائية “نحن” مقابل “هم”، فـ”نحن الإيرانيون” نمثل أمة قديمة الحضارة، متمسكة بالقانون الدولي، راسخة في الأخلاق والعدالة، أما “هم”، أي الولايات المتحدة وإسرائيل، فمعتدون منتهكون للقانون الدولي، متورطون في الإبادة والاغتيالات وانتهاك السيادة الوطنية.
ومن يعرف إيران ومن درس خطابات رؤسائها على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ 1979 حتى الآن يدرك أن هذا الاستقطاب لم يكن مجرد أداة للدفاع عن الذات، بل كان محاولة لبناء تحالف عاطفي وأخلاقي مع شعوب الجنوب العالمي، ومع الرأي العام الدولي المتعاطف أصلا مع الفلسطينيين، ثم وضع الشعب الإيراني في البوتقة نفسها التي يوجد فيها الشعب الفلسطيني، بمعنى آخر حاول بزشكيان تقريب استثمار التعاطف العالمي مع الفلسطينيين لصالح الشعب الإيراني الذي عانى هو الآخر من عدوان إسرائيلي.
ثالثا: الحوامل الدلالية السياسية المباشرة تجاه الداخل والخارج
تكشف القراءة النقدية المتأنية للخطاب عن مجموعة من الدلالات السياسية المهمة، فمن جهة، سعى بزشكيان إلى إعادة إنتاج صورة إيران كضحية لا كتهديد، بما يضعف مبررات العقوبات أو الضغوط الدولية، لاسيما ونحن بصدد تطبيق عقوبات آلية الزناد “سناب باك” على طهران، ومن جهة ثانية، حاول توسيع قاعدة الدعم الدولي من خلال الربط بين معاناة غزة والهجمات على إيران باعتبارهما وجهين لمشروع واحد يقوم على العدوانية الإسرائيلية والازدواجية الغربية.
الواقع أن بزشكيان حرص على التأكيد مجددا على العقيدة النووية الإيرانية التي تنفي السعي وراء السلاح النووي، في محاولة لاستعادة الثقة المفقودة بسبب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي عام 2018م، وإخفاق الأوروبيين في الالتزام بتعهداتهم.
اقرأ أيضا:
اللافت للنظر في الرسائل السياسية أن الخطاب جاء متماشيا مع ــ أو بالأحرى مكملا ــ لخطاب المرشد الإيراني على خامنئي يوم الثلاثاء 23 سبتمبر 2025م، من حيث إن عملية “الأسد الصاعد” الإسرائيلية في 13 يونيو 2025م، استهدفت تأليب الشارع على النظام، لكن هذا الشارع اصطف وراء نظام بلاده حتى وإن لم يكن عنه راضٍ، وبالتالي حمل الخطاب دلالة على كونه أداة تعبئة داخلية، إذ عزز سردية الصمود والوحدة الوطنية في مواجهة الحصار والعقوبات الواردة من قوى خارجية تعاني منها الذاكرة الجمعية للأمة الإيرانية.
رابعا: دروس خطاب بزشكيان بالنسبة لصانع القرار العربي
يمكن من خلال تحليل ما ورد في الخطاب استخلاص دروس تمكن صانع القرار العربي من التعامل مع إيران في الفترة المقبلة، إذ يتضح من بين سطور الخطاب أن إيران تسعى لإعادة بناء صورتها الدولية كدولة ملتزمة بالقانون الدولي، بالرغم من الاتهامات الغربية المستمرة، وآية ذلك أن بزشكيان حرص في الخطاب على دعم الدولة في مواجهة عدوان تل أبيب عليها، وهو ما يعني أن أي تعامل عربي مع الملف الإيراني يجب أن يأخذ بعين الاعتبار هذه الإستراتيجية الإيرانية، ويوازن بين الضغوط السياسية والدبلوماسية وبين الحفاظ على حوار متواصل مع طهران.
اقرأ أيضا:
ويلاحظ من خلال الخطاب استخدام رئيس إيران للبعد الأخلاقي والإنساني لتعزيز شرعية بلاده الدولية، ما يشير إلى أهمية مصفوفة الدول العربية في بناء هذه الصورة، إذ لن تتمكن إيران من ترسيخ بعديها الأخلاقي والإنساني إلا بعلاقات وطيدة مع الجوار العربي، وهو ما يمكن صانعي القرار العرب من التفاعل مع هذه الرسائل من خلال إبراز موقفهم تجاه القضايا الإنسانية، خصوصا القضية الفلسطينية، لتعزيز دورهم الوسيط والمستقل أخذا في الاعتبار أن جامعة الدول العربية أنشئت أصلا من أجل القضية الفلسطينية وبالتالي فهي الأحق بتحمل المسؤولية الأخلاقية عن الشعب الفلسطيني من دون غيرها.
يمكن استنتاج أن إيران تحاول دمج سياستها الإقليمية مع إستراتيجياتها الداخلية عبر خطاب يربط بين الوحدة الوطنية والصمود في مواجهة الضغوط الخارجية؛ لذلك، فإن أي مقاربة إقليمية من الدول العربية سواء مجتمعة تحت إطار الجامعة العربية أو مجلس التعاون الخليجي أو منفردة في علاقاتها الثنائية مع طهران يجب أن تراعي البعد الداخلي الإيراني وتأثيره على مواقف إيران الخارجية.
وبالنسبة للعواصم العربية يوفر الخطاب مؤشرا واضح الدلالة على أن إيران تسعى لإرساء مفهوم “الأمن عبر التعاون والثقة وليس القوة وحدها”، ما يفتح المجال أمام مبادرات عربية تشترك فيها إيران في إطار حوار أمني إقليمي متعدد الأطراف يقوم على احترام السيادة الوطنية وحقوق الإنسان، بعيدا عن العلاقات الأحادية، لاسيما في عصر عودة التحالفات والتكتلات إلى المشهد الدولي، أخذا في الحسبان أن إيران تشترك مع عدد من الدول العربية في عضوية منظمات دولية ــ مثل بريكس ــ يتوقع أن تعيد تشكيل النظام العالمي.
خاتمة
في المحصلة، جاء خطاب الرئيس الإيراني كمرافعة سياسية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكمحاولة متكاملة لإعادة صياغة السردية الإيرانية على الساحة الدولية، إذ إن الجمع بين البعد الأخلاقي، والبعد القانوني، والبعد الإنساني شكل محاولة واضحة لتقويض السردية الغربية، وإعادة إدماج إيران كفاعل شرعي في النظام الدولي، وبذلك، فإن الخطاب يمكن اعتباره جزءا من إستراتيجية أوسع تسعى من خلالها طهران إلى موازنة الضغوط الغربية عبر استدعاء أدوات القوة الناعمة إلى جانب صمودها العسكري والسياسي في مواجهة مثلث أمريكي أوروبي إسرائيلي متساوي الأضلاع يستهدف تركيع إيران اقتصاديا ثم سياسيا ثم عسكريا.
ــــــــــــــــــــــــ
🛑 للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S
🛑 رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على تليجرام:
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes
🛑 رابط الحساب الرسمي للدكتور محمد محسن أبو النور على فيسبوك:
https://www.facebook.com/mohammedmohsenaboelnour1