من المسلم به أنه لا يمكن لأوروبا أن تكون وسيطًا فعالًا أو ممثلًا مستقلًا على الصعيد الدولي، ما لم تحتفظ بنهجٍ قائمٍ على الحوار والتعددية، وفي الوقت نفسه تتمتع بـقدرٍ من الاستقلال العسكري والإستراتيجي عن أمريكا.
لقد كان الاتحاد الأوروبي، منذ زمن بعيد، يؤدي دورًا مؤثرًا في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وهو یجد نفسه الآن في موقعٍ بلا تأثيرٍ ملموس على هذه القضية، وفي المقابل، تدخلت إدارة دونالد ترامب على نحوٍ متزايد في تفاصيل هذه الأزمة وتولت زمام المبادرة التي تتعارض في مجملها مع المقاربات الأوروبية، وتحاول أوروبا حاليًا استعادة مكانتها في عملية السلام والوساطة الدولية من خلال إعادة طرح مشروع “حل الدولتين” والسعي إلى أداء دور أكثر فاعلية.
أهداف مختلفة وراء السلام
تری أوروبا أن السلام الدائم يمكن أن يتحقق من خلال تطبيق مشروع حل الدولتين الذي يضمن لإسرائيل أعلى درجات الأمان الممكنة، وفي سبيل ذلك تسعى إلى تعزيز دورها كوسيطٍ متوازن.
من وجهة نظر الأوروبيين أنفسهم فإن كبح النزعة الحربية والمطامع التوسعية لـحكومة نتنياهو، والإشراف على نزع سلاح حركة حماس وإقامة دولةٍ فلسطينية هو المسار الرئيسي نحو تحقيق سلامٍ دائم في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، مع الحفاظ على وحدة الموقف الأوروبي الداخلي.
في المقابل كانت أهداف ترامب من الاتفاق تحقيق مكسب سياسي على الساحة الدولية، وإضفاء الشرعية على حكومة نتنياهو، وترسيخ صورته كرئيسٍ للسلام، من دون إبداء أي إهتمام جدي بـحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، وهذا التباين في الأهداف يمثل جوهر الاختلاف في تعامل كلا الطرفين مع قضية السلام.
القوات الدولية لحفظ السلام
قدمت فرنسا وألمانيا اقتراحًا بتشكيل قوة حفظ سلامٍ دوليةٍ تخضع لإشراف الأمم المتحدة، بـهدف ضمان الاستقرار في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، لكن نظرًا لإدارة لجنة السلام من قِبل ترامب وسجله السابق في انعدام الثقة في المؤسسات الدولية، فـمن المستبعد أن توافق إدارته على مثل هذا المقترح، لكن من المرجح أن تسعى إلى إرسال قوات من دولٍ حليفة لتـتولى هذه المهمة.
ولقد كانت إدارة ترامب تسعى لتحقيق إنجازٍ استعراضي كبير، ولـهذا السبب وافقت على عقد لقاءٍ مباشر بين مفاوضي حركة حماس ومسؤولين أمريكيين، ولم تكتف بذلك فحسب، بل أبدت استعدادها للقبول بدورٍ أمني مؤقت لحماس خلال مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، غير أن هذه الإدارة لا تملك خطة دقيقة لاستمرار عملية السلام وهو الجزء الأهم من المرحلة الأولى.
أما بقية الأطراف الأوروبية فتؤكد على أهمية المراحل اللاحقة؛ إذ ترى أنه من دون ضمان عدم شن إسرائيل هجماتٍ جديدة والكف عن محاولات ضم الضفة الغربية، ونزع سلاح حركة حماس وإعادة إعمار غزة، فـلن يكون السلام القائم حاليًا سلامًا دائمًا، وفي هذا السياق تحديدًا تأتي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب مؤتمر السلام، والتي شدد فيها على ضرورة فرض رقابةٍ دوليةٍ صارمةٍ على قطاع غزة.
افتقار أوروبا للاستقلال الإستراتيجي
كانت أوروبا تعتقد أنها قادرة على استعادة مكانتها لدى الجانبين من خلال ممارسة بعض الضغوط الرمزية على إسرائيل، لكنها لم تفقد ثقة الجانب الفلسطيني فحسب بل واجهت أيضًا ردّ فعلٍ سلبيًا من حكومة نتنياهو، وقد أدى هذا الوضع إلى تقويض شرعية أوروبا كوسيطٍ على كلا الجبهتين.
على الرغم من الخلافات الجادة مع أمريكا بشأن هذه القضية، إلا أن الاتحاد الأوروبي لم يتمكن عمليًا من أن يكون له دور مؤثر في هذا الصراع؛ بسبب تراجع نفوذه لدى طرفي النزاع واعتماده الأمني على واشنطن.
كما أقر مسؤولون بريطانيون في غير مرة بأن الحكومة الأمريكية وخاصة في عهد دونالد ترامب تسعى إلى إدارة كل شيء بنفسها، من دون أن تترك مجالًا لأي طرفٍ آخر لأداء دورٍ فعال لا سيما الجانب الأوروبي الذي كان يعتبر شريكا أمريكيا موثوقا في العقود السابقة.
خلاصة
سعت أوروبا من خلال المشاركة الفاعلة في عملية السلام، إلى أن تقدم نفسها كممثلٍ موثوق على الصعيدين الإقليمي والدولي، غير أنها عمليًا لم تنجح في أداء أي دورٍ فعال بسبب الانقسامات الداخلية وافتقارها إلى الاستقلال الإستراتيجي عن أمريكا، وتراجع نفوذها لدى طرفي النزاع.
عليه، يمكن القول إن أوروبا لن تتمكن أبدا من أن تصبح وسيطًا أو فاعلًا مستقلًا في المحافل الدولية ما لم تمتلك قدرًا كافيًا من الاستقلال العسكري والإستراتيجي عن الولايات المتحدة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على نهجها القائم على الحوار والتعددية.
ـــــــــــــــــــــــ
تحليل مترجم بعنوان: “انتظارات متفاوت اروپا و آمریکا از آتشبس غزه (بالعربية: اختلاف توقعات أوروبا والولايات المتحدة بشأن وقف إطلاق النار في غزة) نُشر على موقع “انديشكده تهران” (بالعربية: معهد طهران) بتاريخ 16 أكتوبر 2025م.
