أعلن الاتحاد الأوروبي استعداده للرد بالمثل على سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية، في إشارة إلى رغبته في ترسيخ مكانته كقوة أكثر استقلالاً، إلا أن ردود الفعل اللاحقة كشفت أن أوروبا تفتقر إلى القدرة اللازمة للمواجهة الفعلية.
لقد شكّلت سياسة الرسوم الجمركية الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرصة لإعادة تعريف العلاقات بين أوروبا وأمريكا، وبالرغم من إعلان الاتحاد الأوروبي استعداده للرد بالمثل، فإن الضغوط الأمريكية المستمرة أبرزت أن أوروبا ما زالت ــ خصوصاً في الملفات ذات الصفة الإستراتيجية ــ تفتقر إلى الإمكانات التي تمكنها من المواجهة المستقلة.
ولعل هذا ما يطرح سؤالاً أساسياً: لماذا لم تتمكن أوروبا، بالرغم من رغبتها الظاهرة في الاستقلال، من اتخاذ خطوات عملية فعّالة في هذا المسار؟!
الاعتماد العسكري الأوروبي على أمريكا
تعد التبعية العسكرية لأوروبا تجاه أمريكا إرثا من الحرب الباردة، حين وضعت الولايات المتحدة النظام الأمني الأوروبي تحت سيطرتها بحجة الحماية من تهديد الاتحاد السوفييتي، وكان من المتوقع أن تقلل أوروبا تدريجياً من هذه التبعية بعد نهاية الحرب الباردة، لكن التطورات الأخيرة، وخصوصاً حرب أوكرانيا، أثبتت العكس إذ تزايد اعتماد الأوروبيين على منظومات الدفاع الجوي والتكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتقدمة.
ولقد أظهرت الحرب في أوكرانيا أن الأوروبيين يعتمدون بشكل كبير على الأسلحة والدعم الاستخباراتي الأمريكي، وأنهم غير قادرين على مواجهة روسيا بفاعلية من دون هذه المساعدات، كما تؤكد طبيعة المساعدات المرسلة إلى أوكرانيا هذه الحقيقة، إذ يغلب على الدعم الأوروبي الطابع الإنساني، في حين تتمثل المساعدات الأمريكية في تكنولوجيا عسكرية متطورة.
من ناحية أخرى، لم تنفق أوروبا في عام 2023 سوى نحو 13 مليار يورو على الأبحاث العسكرية، بينما بلغت نفقات الصين 21 مليار يورو، وأمريكا 129 مليار يورو في هذا المجال، ولعل هذا يُظهر بوضوح أن التكنولوجيا العسكرية الأوروبية متأخرة كثيراً عن نظيرتيها الصينية والأمريكية.
وبالرغم من محاولات الصناعات العسكرية الأوروبية تقليل هذا الاعتماد في السنوات الأخيرة، فإن بطء الإنتاج، والاعتماد على المواد الخام الأمريكية والصينية، والتكاليف المرتفعة حال من دون تحقيق تقدم ملموس؛ ولهذا فإن أوروبا، في المدى المتوسط، لن تتمكن من تحقيق استقلال حقيقي في المجالات العسكرية المتقدمة مثل أنظمة الدفاع الصاروخي أو الإنترنت الفضائي، أما الأهداف المعلنة، مثل تخصيص 5% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع العسكري، فتواجه قيوداً اقتصادية واجتماعية، وقد تساهم، في أحسن الأحوال، في تقليص التبعية للأسلحة التقليدية فقط.
الاعتماد الاقتصادي: توازن هش وهيمنة أمريكية
ترتبط اقتصادات أوروبا وأمريكا بعلاقات متشابكة، وبالرغم من محاولات أوروبية لتقليص التبعية، فإن اليد العليا تبقى لأمريكا، فقد أدت الأزمات الاقتصادية الأخيرة في أوروبا وحرب أوكرانيا إلى تعميق هذا الخلل في التوازن، إذ تعتمد أوروبا اليوم بشكل كبير على السوق الأمريكية في تصدير منتجاتها، وعلى الشركات المالية وخدمات التكنولوجيا الأمريكية.
ففي قطاع الطاقة، يستورد الأوروبيون نحو 20% من احتياجاتهم من الولايات المتحدة، وتصل نسبة الاعتماد الأوروبي على الغاز الطبيعي المسال إلى نحو 50%، وبالرغم من أن أوروبا حاولت في السنوات الأخيرة تنويع شركائها التجاريين عبر تعزيز علاقاتها مع آسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية، إلا أن هذه الجهود لم تؤد إلى استقلال اقتصادي فعلي.
وتختلف درجة التبعية الاقتصادية لأمريكا بين الدول الأوروبية؛ فالمملكة المتحدة وفرنسا أكثر استقلالاً نسبياً، بينما تعتمد ألمانيا وإيطاليا بشكل أكبر على التكنولوجيا والسوق الأمريكية، وهو ما يعني أن الاعتماد الأوروبي على أمريكا ليس مطلقاً بنسبة مئة بالمئة، لكن أي اضطراب في العلاقات الاقتصادية قد يسبب أضراراً بالغة لاقتصادات أوروبا الضعيفة، وهي أضرار غالباً ما تكون أشد وطأة على الأوروبيين مقارنة بالأمريكيين.
الخلافات الداخلية في أوروبا
نجحت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بذكاء في إبقاء أوروبا تحت مظلتها الأمنية، إلا أن دخول القرن الحادي والعشرين، ولا سيما منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة، أظهر للأوروبيين أن الاعتماد على الدعم الأمريكي لم يعد مضموناً.
وقد كشف مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2024 عن تراجع القيم المشتركة التي كانت أساس التحالف بين أوروبا وأمريكا، كما أن دعم الولايات المتحدة لتيارات اليمين المتطرف يمثل تهديداً خطيراً لاستقرار الدول الأوروبية.
أمام هذه المعطيات، فكرت أوروبا في تقليص تبعيتها لأمريكا، لكن الخلافات العميقة بين الدول الأوروبية عرقلت ذلك، فبعض الدول مثل ألمانيا وإيطاليا ترى أن الشراكة مع أمريكا تحقق لها فوائد، بينما تميل فرنسا وبريطانيا إلى السعي نحو استقلال أكبر.
ولقد كرست هذه الانقسامات الداخلية الوضع القائم المختل لصالح أمريكا، وأعاقت صياغة إستراتيجية أوروبية موحدة وفعالة، كما أن السياسيين الأوروبيين يخشون من الأزمات الاقتصادية وتراجع مستويات الرفاه، إذا تم تقليص الاعتماد على أمريكا، في حين يدركون الحاجة إلى استقلال سياسي وأمني أكبر، ولعل هذا التناقض في المصالح يجعل المشهد السياسي الأوروبي أكثر تعقيداً ويحول دون خطوات هيكلية جادة، كما أن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا في الثامن من يوليو 2025م، وتصريحاته حول ضرورة استعداد أوروبا لتقليل الاعتماد على الصين وأمريكا مثال واضح على هذا التوجه.
الخلاصة
ما زالت أوروبا تعتمد بدرجة كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية، وبالرغم من وجود محاولات لتقليص هذه التبعية، إلا أن حرب أوكرانيا والتغيرات الجيوسياسية والبنية الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن غياب الإرادة السياسية المشتركة والمكاسب المتحققة من هذه التبعية، تقف جميعها عائقاً أمام أي تقدم جوهري.
ومع عودة سياسات ترامب الأحادية، باتت الأمور أكثر تعقيداً، لكن هذا التحدي يمكن أن يكون حافزاً لأوروبا للسير بجدية أكبر نحو تحقيق الاستقلال، شرط توفر الوحدة والإرادة السياسية القوية، وفي غياب ذلك، ستبقى أوروبا عالقة في فخ التبعية لأمريكا، ما سيحد من قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة في سياساتها الداخلية والخارجية.
*****
مادة مترجمة عن مركز طهران للأبحاث تحت عنوان “معمای استقلال اروپا از آمریکا؛ آرزو یا چشمانداز دستیافتنی؟“