مع احتدام المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل خلال حرب الإثني عشر يومًا التي جرت في شهر يونيو الماضي، ومع احتمالات نشوب صراع جديد بعد أن ضغطت دول أوروبا على زناد “سناب باك” المدرج ضمن الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وهو الإجراء الذي له ما بعده على إيران، خاصة إذا ما دفعت دول المواجهة بضرورة القيام بعمل عنيف ضد طهران استنادا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يبرز التساؤل الملح حول حقيقة الدعم الصيني لإيران إذا ما اندلعت حرب جديد قد تكون أشد في وطأتها من حرب يونيو الماضي.
الموقف الصيني من الحرب على إيران
قبل أسبوع واحد من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة قدمت روسيا والصين – الدولتان الداعمتان ظاهريا لإيران – مشروع قانون يهدف إلى مد العمل بالقرار الأممي رقم 2231 الصادر في 2015 وهو القرار المعني بالاتفاق النووي لإعطاء الفرصة للجهود الدبلوماسية بين إيران والدول الأوروبية الثلاث من جانب وبين إيران وأمريكا من جانب آخر قبل الضغط على آلية الزنادز
غير أن الملاحظ أن المشروع الصيني لم يحظ بقبول في مجلس الأمن، ولم تصوت لصالحه سوى 4 دول، واتسع نطاق المعارضين له، ما يبرهن على عدم قدرة الصين وروسيا على وقف الموقف الدولي الرافض لسياسات إيران وبرنامجها النووي.
لكن التساؤل البارز والذي طفا على سطح الموج المتلاطم الذي يمثل حالة الصراع الظاهري والدفين بين إيران القوى الكبرى، يتمثل في طبيعة الدعم الصيني الذي يمكن أن يقدم إلى إيران حال نشوب مواجهة جديدة مع إسرائيل أو بين إيران وأمريكا، على الرغم من أن ذلك التساؤل أجابت عنه الصين عمليا خلال حرب الإثني عشر يوما التي جرت بين (13 و 24 يونيو 2025)، إذ لم تقدم أي دعم عسكري أو استخباراتي لإيران في هذه المواجهة.
إيران شريكة اقتصادية فقط
تؤكد الكثير من مراكز الفكر والبحوث الإستراتيجية في الصين إنه لا يمكن التعويل على إيران إلا في مستوى الشراكة الاقتصادية، إذ تعتبر الصين أكبر مشتر للنفط الإيراني على الإطلاق، وقد أظهرت بيانات شركة “كيبلر” لتحليلات الطاقة أن واردات بكين من نفط طهران تضاعفت خلال العام المنصرم 2024 لتصل إلى 17.8 مليون برميل يومياً، إذ تعتبر إيران أن تلك الشراكة تسهل لها الالتفاف على العقوبات الأمريكية وتستغل حالة الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، كما تستغل حالة الصراع الإستراتيجي بين بكين وواشنطن بشأن جزيرة تايوان.
وترى الصين أن مشترياتها من النفط الإيراني هي الأرخص على الإطلاق إذا ما قورنت بسعر مشتريات الصين من النفط الروسي والسعودي، حيث تشير الإحصاءات إلى أنه في عام 2024 استوردت الصين من روسيا 105.6 مليون طن من النفط بمتوسط سعر 4045 يوان للطن، فيما استوردت من السعودية 78.64 مليون طن بمتوسط سعر 7027 يوان للطن، كما استوردت بكين النفط الإيراني المحول إليها من ماليزيا حوالي 70.38 مليون طن بمتوسط سعر 3851 يوان للطن.
ولعل ما سبق يشير إلى أن النفط الإيراني هو الأرخص على الإطلاق إذا ما قورن حتى بالنفط الروسي الذي يباع بسعر منخفض في الأساس، وبالتالي فالحاجة الصينية لإيران هي حاجة برجماتية اقتصادية في الأساس ولا تبنى على علاقات إستراتيجية أو عسكرية.
عدم الثقة الصينية في إيران
في الصين هناك حالة من عدم الثقة في الإيرانيين لعدة أسباب لها وجاهتها، فمن الناحية التاريخية، لم تعترف إيران بالصين إلا في 17 أغسطس عام 1971 وتلتها بالطبع حقبة انهيار الدولة البهلوية، وفي عام 1978 قبيل انهيار البهلوية بشهور قليلة زار عدد من المسؤولين الصينيين إيران، وهو ما اعتبره رجال الدين آنذاك جهدا لدعم الملك محمد رضا بهلوي ضد أصوات رجال الدين الثائرة، وتحديدا صوت آية الله الخميني الذي كان يصدح على أشرطة الكاسيت، فما كان من رجال الدين بعد نجاح ثورتهم إلا أن قطعوا العلاقات مع الصين بل وتنظيم مظاهرات مناهضة للصين وسياساتها حيال إيران.
كما تزخر الذاكرة الصينية بواقعتين تعرضت فيهما بكين لخديعة من إيران، وهما:
الأولى: حينما تم اعتقال المسؤولين التنفيذيين لشركة “هواوي” الصينية في كندا وعلى رأسهم منج وانزو في عام 2019، وهو الحادث الذي اعتبرته الصين بمثابة خيانة إيرانية، إذ تم اعتقال وانزو بعد أن وقعت إيران عقدا مع الشركة الصينية لتطوير البنية التحتية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بما يسهل الالتفاف على العقوبات الإيرانية، وعلمت الصين وقتها أن من باع تلك المعلومة للولايات المتحدة الأمريكية كانوا الإيرانيين، وأصدرت وزارة العدل الأمريكية وقتها قائمة من 23 تهمة رسمية ضد شركة هواوي، شملت تهما بالتحايل وسرقة أسرار تكنولوجية من الشركات الأمريكية لدعم إيران.
الثانية: فما يتعلق بالعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على شركة ZTE الصينية، إذ تم توقيع بروتوكول تعاون بين الشركة وبين إيران لبناء شبكة كهرباء وطنية في عدة مدن إيرانية، وقد تسربت تلك المعلومات إلى الولايات المتحدة من إيران نفسها، وهو ما ضاعف من عدم الثقة في المجتمع السياسي الإيراني لدى الصين، خاصة وأن هناك اعتقادا صينيا مفاده أن الإيرانيين أنفسهم هم من يبيعون المعلومات الحساسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على بلادهم.
وقد جعلت تلك الحوادث الكثير من المدونين الصينيين يصفون إيران بـ”البيدق”، وفي اللغة فإن “البيدق” هو العسكري على رقعة الشطرنج، كثير العدد قليل التأثير، وهو دائما ما يتم استخدامه لتحقيق أهداف معينة ولحماية الرؤوس الكبرى (الملك والوزير) من الحركة المكلفة على رقعة الشطرنج، وعادة ما يكون العسكري أو “البيدق” في الحياة العسكرية تابعا لشخص آخر وينقاد من دون تفكير.
إيران لا تثق في الصين
من الناحية الإيرانية، فإن طهران لا تقدم الثقة المطلقة للصين على طبق من ذهب، خاصة وأن الصين ليست داعما إستراتيجيا لإيران، ودلالة ذلك أن الصين تبنت موقفا رافضا لاحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى – طنب الصغرى – أبو موسى)، وقد عززت الصين موقفها الرافض من سيطرة إيران على الجزر الثلاث مرتين، الأولى كانت في ديسمبر 2022، حين أصدرت بكين بيانا مشتركا مع مجلس التعاون الخليجي بشأن الجزر الثلاث واعترفت بحق دولة الإمارات العربية المتحدة في السيادة على هذه الجزر، ووقتها استدعت إيران سفير الصين لديها وسلمته مذكرة احتجاج على ذلك الموقف.
والمرة الثانية كانت في شهر يونيو من عام 2024 حين أعربت الصين مرة أخرى عن دعمها لموقف أبو ظبي فيما يتعلق بالجزر الثلاث المتنازع عليها مع إيران، ووقتها صدر بيان في ختام منتدى التعاون الصيني ــ العربي الذي عقد في العاصمة الصينية بكين، أكد على دعم الصين للإمارات في التوصل لحل سلمي بشأن الجزر الثلاث، وأحقية الإمارات في السيادة عليها، وهو بالطبع ما أغضب إيران بشكل كبير.
لكن على أية حال، تنظر إيران إلى الصين نظرة برجماتية، إذ إن الصين باعتبارها إحدى الدول العظمى التي تمتلك حق العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، كما أن إيران ترى أنه بإمكانها الاعتماد على الصين حتى ولو كان ذلك بالقدر القليل في سياق الضغط الدبلوماسي في مجلس الأمن بجانب روسيا.
وعلى الرغم من ضآلة ذلك التأثير الثنائي لدولتين قلما دعمتا إيران فعليا، إلا أن الأخيرة ما تزال تعمل على ربط أواصر العلاقات الإستراتيجية حتى لا تكون قد خسرت العالم كله، بصرف النظر عن وجود نظام سياسي ثيوقراطي في إيران، ونظام علماني يتبنى الإشتراكية في الصين، ونظام برجماتي رأس مالي علماني في روسيا.
خاتمة
على الرغم من أن إيران تنظر إلى علاقاتها مع الصين بنظرة برجماتية، وتعتمد عليها في التنسيق التكتيكي مع القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية في المؤسسات العالمية، إلا أن الصينيين ينظرون إلى الإيرانيين باعتبار أنها مجتمع مليء بالخونة والجواسيس الذين يقدمون المعلومات الحساسة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد ما حدث في حرب الإثني عشر يوما من استهداف العلماء النوويين والقادة العسكريين، الذين تم استهدافهم بناء على وجود جواسيس سواء إسرائيليين في الداخل الإيراني، أو حتى إيرانيين يعملون مع الموساد، وهي المعلومات التي يؤكدها الإعلام الإيراني يوميا بإعلانه إعدام عدد من الجواسيس النافذين في مجالات مختلفة لصالح الموساد الإسرائيلي.
وتدرك الصين أن هناك مواجهة قد تحتدم مستقبلا، وتدرك جيدا أن تلك المواجهة ستكون مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب أزمة جزيرة تايوان، وهناك استعدادات عسكرية مكثفة تجريها الصين في هذا الإطار، ولذلك فهي ترى أن الدخول في معترك مواجهة عسكرية مبكرة مع واشنطن أو إسرائيل بسبب إيران قد يخصم من رصيدها الإستراتيجي والعسكري إذا ما اندلعت المواجهة الصينية بشأن جزيرة تايوان.
ولتلك الاعتبارات لا ترى الصين أية ضرورة لدخولها في معترك عسكري لحماية إيران، التي يمكن أن تستدير تجاه الولايات المتحدة، إذا ما فتحت والغرب الباب أمام مفاوضات جادة، حيث يدرك الصينيون أن إيران ستوجه وجهها إلى المعسكر الغربي فورا بدون النظر إلى مصالحها مع الصين، خاصة أن النخب الإيرانية غربية التوجه، علاوة على نظرة الصين إلى الإيرانيين الذين يحصلون على البطاقة الخضراء لدخول أراضي الولايات المتحدة، ويتحولون عمليا إلى تابعين للولايات المتحدة ضد بلادهم.