مع الإعلان الرسمي من دول الترويكا الأوروبية (ألمانيا، فرنسا، وبريطانيا) بشأن تفعيل آلية “العودة التلقائية للعقوبات” (المعروفة بآلية الزناد)، عاد مستقبل البرنامج النووي الإيراني مجددًا إلى صدارة الاهتمام، وارتفعت وتيرة التكهنات إلى أقصى حد.
اقرأ أيضا:
هذه الآلية تتيح لأوروبا، خلال ثلاثين يومًا، إعادة فرض جميع عقوبات مجلس الأمن على إيران، ما لم يتم التوصل إلى اتفاق جديد، ويعني مثل هذا التهديد بالنسبة إلى نظام يقف اقتصاده على حافة الانهيار، الدخول في مرحلة جديدة من الأزمات.
ولعل هذا العد التنازلي جعل الأجواء في إيران شديدة التوتر، وجعل التنبؤ برد فعل طهران أكثر صعوبة، إذ تتراوح الاحتمالات بين اللجوء إلى “المرونة التكتيكية” (أو “المرونة البطولية” كما يسميها المرشد الإيراني) وبين الانسحاب الكامل من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالحد من الانتشار النووي.
مواجهة بين التشدد والدبلوماسية في طهران
في حين ما زال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي وأعضاء الجهاز الدبلوماسي الإيراني يتحدثون عن إمكانية الحوار وإيجاد مخرج لخفض التوترات، فإن الجبهة المتشددة في البرلمان والمؤسسات الأمنية وضعت سيناريوهات راديكالية على الطاولة.
فقد تحوّل الحديث عن الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) إلى أحد الشعارات الرئيسة للنواب المتشددين، بل ذهب بعضهم إلى المطالبة بطرد السفراء الأوروبيين فورًا وإغلاق السفارات في طهران، كما طرحت أيضا تهديدات بإغلاق مضيق هرمز الإستراتيجي.
اقرأ أيضا:
والواقع أن هذا الوضع يذكر بمحطات تاريخية أخرى حينما وقعت السياسة الخارجية الإيرانية أسيرة صراعات داخلية وقرارات متسرعة، وكانت النتيجة أن البلاد واجهت مزيدًا من الانقسامات الداخلية والأعباء الثقيلة، وهي تبعات تطال الشعب الإيراني أولًا.
رفض عمليات التفتيش وتفاقم الضغوط الاقتصادية
بالتوازي مع هذه التطورات، أقدمت طهران على حجب وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى بعض منشآتها النووية؛ وهو إجراء فسّرته القوى الكبرى باعتباره مؤشرًا على ميل إيران نحو المزيد من التشدد وعدم رغبتها في حل الخلافات بالطرق السلمية.
وعلى الرغم من أن بعض السياسيين في الداخل قللوا من أهمية إعادة فرض العقوبات، إلا أن مهدي سنائي، المستشار السياسي للرئيس، رأى أن هذه العقوبات ستؤدي حتى إلى عدم توازن في العلاقات مع القوى الشرقية، بينما أشار النائب السابق حشمت الله فلاحت بيشه إلى أن 84% من صادرات النفط الإيراني مرتبطة بشرقي آسيا ولا سيما الصين، معتبرًا أن أي ذريعة تضعها المجموعات الراديكالية في هذا المسار تصب في مصلحة إسرائيل.
في الخارج أيضًا تصاعدت الضغوط، ومن ذلك طرد سفير الجمهورية الإسلامية من أستراليا بسبب اتهامه بالتورط في عمليات تخريبية ضد مراكز يهودية، أما داخليًا، فقد دخل الاقتصاد الإيراني مرحلة جديدة من الأزمة النقدية حتى قبل التنفيذ العملي لآلية “سناب باك”.
فقد أدّت الزيادة اللحظية في سعر الدولار والتقلبات الحادة في السوق إلى دفع معيشة الناس إلى حافة الفوضى الكاملة، وأشعلت موجة من انعدام الثقة النفسي في المجتمع، ولعل هذا الدوران المفرغ ــ ضغط خارجي، انفعال أو ردود فعل متشددة داخليًا، وأزمة اقتصادية ــ قضم خلال السنوات الأخيرة من رصيد الثقة العامة بالنظام، وزاد وفق تعبير كثيرين من خطر الانهيار يومًا بعد يوم.
شبح الاحتجاجات ومأزق العقلانية في الحكم
تحدث كل هذه الأزمات في وقت دخلت فيه إيران الذكرى السنوية لحركة “مهسا أميني”، تلك الحركة التي اندلعت إثر مقتل الشابة الكردية، مهسا أميني، على يد جهاز يُعرف بـ”دوريات الإرشاد”، وأطلقت موجة غير مسبوقة من المواجهة بين الشعب والنظام.
وبالرغم من أن هذه الاحتجاجات خمدت بفعل القمع الأمني والعسكري ضد المتظاهرين، فإنها استمرت بأشكال مختلفة من العصيان المدني، وفي هذه الأيام، تعيد شبكات التواصل الاجتماعي نشر الصور والذكريات وقوائم قتلى احتجاجات سبتمبر 2022، الأمر الذي ضاعف حساسية الرأي العام تجاه أداء النظام.
اقرأ أيضا:
كما أدّت الأجواء الأمنية المشددة في البلاد إلى موجة جديدة من الاستدعاءات واعتقال عشرات النشطاء السياسيين والمدنيين، وفي مثل هذا الوضع، يمكن لأي قرار متسرّع أو رد فعل متطرف أن يشعل شرارة موجة جديدة من السخط.
حتى في إسرائيل، ظهرت تكهّنات عن جولة ثانية من الهجمات، وهو ما اعتبره وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف جالانت احتمالًا قريبًا جدًا.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن السبيل الوحيدة لتجاوز الأزمة يكمن في الاعتماد على العقلانية السياسية وتجنب تكرار أخطاء الماضي، غير أن المؤشرات تدل على أن صوت التعصب ما زال أعلى من صوت الحكمة، ونتيجة لذلك، تجد إيران نفسها عالقة في واحد من أصعب المآزق في تاريخ الجمهورية الإسلامية، حيث يقف البقاء والاستسلام معًا في مواجهة نظام الحكم.
خلاصة
تقف الجمهورية الإسلامية عند مفترق طرق بالغ الخطورة ومصيري، فمن جهة، قد يؤدي تفعيل آلية الزناد إلى عودة العقوبات وما يرافقها من ضغوط اقتصادية ودبلوماسية غير مسبوقة، ومن جهة أخرى، يعمّق الانقسام الداخلي داخل هياكل الحكم من صعوبة التوصل إلى إستراتيجية موحدة وفاعلة.
اقرأ أيضا:
وفي الوقت ذاته، يجد المجتمع الإيراني نفسه أكثر إنهاكًا وتعبًا وفقدانًا للثقة والاطمئنان، مع استحضار ذكريات جراح الاحتجاجات الأخيرة وتفاقم الأزمة المعيشية اليومية، وبينما أدت أكبر صدمة نقدية منذ ثورة 1979 إلى تسريع انهيار قيمة الريال، فإن غياب العقلانية والدبلوماسية قد يدفع بالجمهورية الإسلامية إلى واحدة من أخطر المنعطفات في تاريخها المعاصر.