في الأيام والأسابيع الأخيرة ردد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أكثر من مرة، اعتقاده أن إيران ستنضم إلى عمليات التسوية السياسية الشاملة الأوسع في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن ترامب لديه قناعة مستقاة عن معلومات غير معلنة بطبيعة الحال أن إيران تتجه بكامل ثقلها كي تتحول من “دولة قضية” إلى “دولة وطنية”، على عكس ما ذهب إليه البعض حول أن معنى كلامه هو سعيه لإسقاط النظام في طهران.
عين إيران على شرم الشيخ
ينظر كثير من السياسيين في إيران اليوم إلى الاتفاق الشامل الجاري بين إسرائيل وحماس برعاية مصرية ــ أمريكية ــ قطرية في شرم الشيخ على أنه فرصة تاريخية يمكن أن تفتح نافذة أمام حل دبلوماسي للأزمة بين إيران والغرب تماما كمثل الفرصة التاريخية القدرية التي منحت لبقاء النظام الإيراني عام 1917م، حين اندلعت الثورة البلشفية في روسيا والتي لو لم تقم لكان القيصر الروسي نيكولاي الثاني، احتل إيران وأسقط نظام القاجار.
وفي ذلك الوقت من عام 1917م، لم تكن الثورة البلشفية نتيجة إرادة الحكومة الإيرانية أو سعيها، بل جاءت كمنحة قدرية تاريخية، وبما أن الوضع في غزة ترتبت عليه نتائج لم تكن تحسبها إيران في الحسبان؛ فإن التسوية السياسية الآن هي فرصة لاندماج إيران في المجتمع الدولي في ظل زخم شرم الشيخ الراهن الذي تضع طهران عليه ليس إحدى عينيها بل عينيها الاثنتين.
ويشير الواقع الراهن إلى أن الدكتور مسعود بزشكيان الذي يتولى السلطة في قصر الباستور الرئاسي، يمكنه إقناع المرشد الأعلى للبلاد، باستثمار هذه اللحظة لإخراج البلاد من المأزق الدبلوماسي الراهن، لأنها مقبلة على حرب لا مراء فيها إن استمر إخفاق الدبلوماسية على ما هو عليه، إذ سعت أمريكا لوضع إيران أمام خيارين إما التفاوض تحت الضغط أو الحرب، وفق ما كتبه، جلال خوش جهره، في مقال نشره بموقع “دبلوماسي إيراني” يوم الأربعاء 8 أكتوبر 2025م، تحت عنوان “مفهوم سیاست راهبردی واشنگتن – اروپا در برابر تهران” (بالعربية: مفهوم السياسة الإستراتيجية لواشنطن وأوروبا في مواجهة طهران).
أزمة إيران الداخلية
تكمن أزمة إيران الداخلية في أن كثيرا من الجهات الضاغطة والتي تؤثر في صنع القرار الأعلى تعاني من الجهل التام بالملفات الدولية المختلفة، وهو ما ذهب إليه الدكتور محمد جواد ظريف (انظر: كتاب “صمود الدبلوماسية” ص351) فضلا عن أن هذه الجهات منفصلة عن الواقع الدولي تمام الانفصال وما تزال حتى الآن متشبثة بالقيم الثورية لعام 1979م، بمعنى أنها لم تتحرك قيد خطوة واحدة إلى الأمام بعد هذا العام الثوري الرهيب.
من المسلم به أن السياسيين المحنكين في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وعلى رأسهم الدكتور علي لاريجاني يدركون تعقيدات الأوضاع الداخلية في إيران والإقليمية خارجها بوضوح ودقة، مع ورود أنباء شبه مؤكدة عن أزمة مائية هائلة ستجتاح إيران قريبا بفعل الضغط عليها من دول الجوار لاسيما أفغانستان.
بالتالي فإن إيران التي عودت المراقبين على قدرتها على البقاء على قيد الحياة سياسيا يمكنها التغلب على تلك التيارات الداخلية المتشددة والخروج إلى العالم في ظل رغبتها في الحفاظ على وحدة البلاد وعدم إسقاط النظام بالقوة العسكرية، وهو أمر صرح به علنا وزير الأمن حجة الإسلام والمسلمين إسماعيل خطيب يوم الخميس 9 سبتمبر 2025.
إدراك إيران لما يحدث في غزة
يعتقد كثير من الخبراء الإيرانيين ومنهم الكاتب أحمد زيد أبادي في صحيفة هم ميهن الإصلاحية، أن القضية الفلسطينية كانت على الدوام محور النزاع بين الجمهورية الإسلامية والغرب، منذ اللحظة الأولى لنجاح الثورة قبل 46 عاما، حتى لو كانت غطاء لإخفاء صراع من نوع آخر بين الطرفين، فإنها كانت التجسيد العملي لهذا الصراع.
وعليه فإن حل القضية الفلسطينية بإقامة دولة للشعب الفلسطيني سواء على حدود الخامس من يونيو لعام 1967م، أو غيرها، سيؤدي بالتبعية إلى تغيير السياسات الإقليمية للجمهورية الإسلامية، لأنها ستفقد مبرر عدائها لأمريكا الراعية الرسمية لدولة الاحتلال الإسرائيلي؛ ولهذا ترفض إيران مرارا وتكرارا حل الدولتين برغم الإجماع العربي والدولي عليه.
غير أن طوفان الأقصى وما فرضه من حرب عدوانية تدميرية إسرائيلية وفشل تل أبيب في تحقيق أهدافها من عدوانها على مدار عامين أقنع الجميع حتى في داخل أكثر الأوساط إجراما في إسرائيل بضرورة التوصل إلى حل، والجلوس على طاول المفاوضات سواء تم هذا برضاها أو بالإكراه السياسي الإقليمي الذي قادته مصر أو بالإكراه السياسي الدولي الذي قادته أوروبا وأمريكا.
وبالتالي تدرك إيران هذه الحقائق ومن المفترض أن لديها الفطنة للتعاطي معها بما يحفظ الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، والحد الأدنى من مصالحها الوطنية البرجماتية، لا سيما أن كل جهود الحل السياسي النهائي فشلت منذ أوسلو ومدريد حتى طوفان السابع من أكتوبر 2023.
تداعيات حرب غزة على إيران
لقد استمرت الحرب لعامين كاملين وخلفت جرحا غائرا في جسد فلسطين وفي وعي الإسرائيليين، إلى درجة جعلت الطرفين عاجزين عن التوصل إلى اتفاق بإرادتهما، أما الاتفاق الحالي الذي تشكل في شرم الشيخ، فلم يأت اختيارا، بل فرض عليهما بضغط القوى الدولية والإقليمية.
لكن ما يعني إيران في هذه الحرب وفي هذا الاتفاق أن طوفان الأقصى أفقدها نفوذها الإقليمي كليا في إقليم غربي أسيا، إذ نجحت إسرائيل في إسقاط أطراف محور المقاومة واحدا واحدا وانفردت بهذه الأطراف كل على حدة وأخرجته من المعادلة الإقليمية، ولعل أبرز مثال على ذلك انزواء حزب الله، وسقوط بشار الأسد، وتحييد العراق، وأخيرا تسليم سلاح حماس طواعية إثر اتفاق شرم الشيخ.
ووفقا لهذه الحقيقة السياسية فإن اعتراض إيران على تسوية شرم الشيخ العلني أمر غير ممكن وليس عقلانيا بالمرة، ولذلك أيدت الاتفاق في بيان رسمي لها مساء الخميس 9 أكتوبر 2025م، وسيكون على طهران التأقلم مع نتائج ما يحدث في شرم الشيخ ومحاولة استثماره لإنهاء النزاع مع الغرب حول تلك القضية الإسلامية وترك الدولة صاحبة الدور التاريخي فيها كي تديرها بمعرفتها، ووفقا لخبراتها وتجاربها الناجحة في هذا الصدد.
خاتمة
تراقب إيران عن كثب تطورات العملية السياسية في شرم الشيخ، وتعرف أن الحرب على غزة قد انتهت بخروج حماس من المشهد، وأدت إلى إخراج محور المقاومة من التاريخ الإقليمي المعاصر، وبالتالي فإنها في لحظة مفصلية لو أحسنت استثمارها فقد ينجم عنها حل كل مشاكلها مع الغرب دفعة واحدة، إذ فطنت طهران، أخيرا وبعد كل هذه العقود من عمر الجمهورية الإسلامية، إلى أن 99 بالمئة من أوراق اللعب العالمي ما تزال في يد أمريكا، وأن تعدد الأقطاب وطموحات دول الجنوب العالمي ما تزال بعيدة المنال، خاصة بعد إدراكها أن روسيا والصين لن تتدخلا إن حاول ترامب تغییر النظام في طهران بقوة السلاح، بعد أن مهد لعملياته العسكرية بقوة العقوبات.