إن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة من العقوبات على إيران هو كبح القوة الاقتصادية والجيوسياسية لإيران ومنعها من لعب دور مؤثر في صياغة الأنظمة الإقليمية والدولية الجديدة، كما أن الإجابة عن السؤال المتعلّق باستخدام الولايات المتحدة للملف النووي الإيراني كأداة لإعاقة التنمية في إيران، لا تكمن في التفاصيل الفنية للبرنامج النووي الإيراني، ولا في المخاوف الحقيقية من انتشار الأسلحة، بل في الحسابات الإستراتيجية الكبرى لواشنطن.
فالملف النووي بالنسبة للولايات المتحدة ليس «قضية» بحدّ ذاتها، بل «أداة» فاعلة ومتجددة تتيح لها تحقيق هدفها الأهم، وهو: منع صعود القوة الاقتصادية والجيوسياسية لإيران عبر تقييد أهم محرّك لهذا الصعود، أي صناعة النفط.
إن تطبيع هذا الملف يعني فقدان تلك «الرافعة الذهبية»، ولذلك فإن الولايات المتحدة، من خلال إبقاء الوضع الراهن للملف النووي، تمتلك ذريعة دائمة لفرض العقوبات والضغط والتحكم في النظام الإقليمي الذي تريده.
ومن هذا المنطلق يمكن فهم تأكيد قائد الثورة الإسلامية في لقائه مع أعضاء الحكومة على ضرورة تطوير إنتاج النفط وصادراته، باعتباره الردّ المباشر على هذا المخطط الأمريكي.
تتناول هذه المقالة الأسباب الأساسية لهذا النهج ضمن أربعة محاور رئيسية:
المحور الأول: كبح النفط الإيراني باعتباره المحرّك الرئيسي للتنمية والقوة الإقليمية
لعل أبرز سبب يجعل الولايات المتحدة تُبقي الملف النووي في إطار أمني هو منع «النهضة النفطية الإيرانية».
فالعودة الكاملة وغير المقيّدة للنفط الإيراني إلى الأسواق العالمية ستترتب عليها نتائج تتعارض مباشرة مع المصالح الإستراتيجية لواشنطن.
وتدرك الولايات المتحدة أن تطبيع العلاقات النفطية مع إيران سيمنح طهران مكاسب حيوية تسعى واشنطن بكل قوة لمنعها، منها:
1ــ الاستقرار الاقتصادي وتحييد أثر العقوبات
إن الإيرادات النفطية المستقرة تعزّز ميزان المدفوعات، وتضبط سوق العملة، وتحقق استقراراً اقتصادياً عاماً، وإيران المستقرة اقتصادياً ستكون أكثر مقاومة للضغوط والعقوبات المستقبلية.
2ــ طفرة في التنمية الصناعية
تمكن العملة الصعبة المتأتية من النفط إيران من الاستثمار في البنى التحتية وإطلاق الصناعات غير النفطية، ما يحوّلها إلى قوة صناعية متنوعة.
3ــ جذب الاستثمار الشرقي
تعمق زيادة صادرات النفط إلى الصين الشراكة الإستراتيجية بين طهران وبين بكين، وتشجع الأخيرة على توسيع استثماراتها في المشاريع الكبرى داخل إيران، بما يطيح سياسة عزل إيران اقتصادياً.
4ــ تعزيز محور المقاومة
يمكن تدفق الموارد المالية إيران من تقديم دعم لوجستي وسياسي أكبر لحلفائها في المنطقة، وهو ما يغيّر موازين القوى بما يضرّ بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية.
بناءً على ذلك، فإن «أمننة» الملف النووي تمثل للأمريكيين أداة لا غنى عنها لمنع كل هذه التطورات، ولفرض «غروب دائم» على صناعة النفط والاقتصاد الإيراني.
المحور الثاني: منع إيران من ترسيخ موقعها في الأنظمة العالمية المنافسة للولايات المتحدة
يشهد العالم اليوم تنافساً بين نموذجين لنظام اقتصادي – أمني عالمي، وهما: «مبادرة الحزام والطريق» الصينية BRI حيث تشكل إيران بحكم موقعها الجغرافي ومواردها النفطية ركناً أساسياً فيها، وممرّ «الهند – الشرق الأوسط – أوروبا» IMEC وهو مشروع أمريكي يربط الهند بالإمارات والسعودية والكيان الصهيوني وأوروبا، بهدف الالتفاف على إيران وتهميشها.
ولضمان نجاح مشروع IMEC وإضعاف BRI تحتاج الولايات المتحدة إلى إيران ضعيفة ومعزولة وغير جديرة بالثقة.
هنا تؤدي «أمننة» الملف النووي دوراً محورياً؛ فهي تمنع إيران من أن تصبح مركزاً مستقراً للطاقة والترانزيت ضمن المبادرة الصينية، وتساعد واشنطن على حشد حلفائها حول مشروع إقليمي مضاد لإيران.
أما تطبيع الملف النووي، فسيُفشل هذه الإستراتيجية من جذورها، لأن إيران القوية والنفطية ستكون ركيزة أساسية لنظام الحزام والطريق.
المحور الثالث: تطبيق «نموذج السيطرة» على الموارد الإيرانية
لفهم النموذج الذي تفضّله الولايات المتحدة للدول النفطية، يكفي النظر إلى العراق، فبعد احتلاله، وبموجب الأمر التنفيذي الأمريكي رقم 13303، أصبحت جميع إيرادات النفط العراقي تُحوَّل إلى حساب تحت سيطرة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي.
وتستخدم واشنطن هذا الحساب كأداة ضغط كلما أرادت محاسبة بغداد سياسياً.
وبالرغم من أن الولايات المتحدة لا تستطيع فرض هذا النموذج عسكرياً على إيران، إلا أن “أمننة” الملف النووي والعقوبات النفطية تُعدّ البديل المناسب له.
والهدف هو: سلب إيران السيطرة على أهم مصدر دخل لديها، وتحويل هذا المصدر نفسه إلى نقطة ضعف تستخدم للضغط السياسي المستمر.
فطالما بقي الملف النووي «أمنياً»، تستطيع الولايات المتحدة مواصلة الضغط بشكل قانوني وبدرجة من الإجماع الدولي.
المحور الرابع: النتيجة الإستراتيجية.. أداة واحدة بفاعلية مزدوجة
إن السبب الجوهري وراء رفض الولايات المتحدة تطبيع الملف النووي الإيراني هو أن هذا الملف يشكل بالنسبة لها أداة واحدة ذات وظيفتين حيويتين:
1ــ وظيفة داخلية (ضد إيران)
تتمثل في عرقلة التنمية الصناعية، وإبقاء الاقتصاد الإيراني في حالة عدم استقرار، ومنع إيران من لعب دور فاعل في تشكيل النظام الإقليمي الجديد.
2ــ وظيفة خارجية (لأجل الحلفاء)
تسويق «فزاعة إيران النووية» لتبرير بيع مليارات الدولارات من الأسلحة للدول الإقليمية، وتقديم ضمانات أمنية لها، وفي المقابل، تحصل واشنطن من هذه الدول على «التزام» بالحفاظ على أسعار النفط منخفضة عبر زيادة إنتاجها لسدّ غياب النفط الإيراني، وبالتالي استمرار السيطرة الأمريكية على سوق الطاقة العالمية.
الخلاصة
إن الولايات المتحدة لا تطبّع الملف النووي الإيراني لأنه يشكّل رصيداً إستراتيجياً بالنسبة لطهران، فهو ذريعة جاهزة لوقف محرك التنمية في إيران (النفط)، ولإضعاف الأنظمة الاقتصادية المنافسة مثل BRI ولبيع الأمن لحلفائها، وللتحكم في سوق الطاقة العالمية.
وأي مسؤول يتصور أن منح التنازلات النووية سيؤدي إلى رفع دائم للعقوبات النفطية وضمان التنمية الاقتصادية، فإنه لا يدرك المنطق العميق للإستراتيجية الأمريكية ودور هذا الملف في هندسة الهيمنة الأمريكية في المنطقة، وطالما بقيت واشنطن مصممة على كبح إيران والحفاظ على تفوقها الإقليمي، فإن الملف النووي سيظل ملفاً “أمنياً” لا ملفاً “تقنياً”.
ــــــــــــــــــــ
مقالة بعنوان: “جنگ پیشرفت” (بالعربية: حرب التقدم) للکاتب: محمد طاهر رحیمی، بجریدة: “وطن امروز” الأصولية (بالعربية: الوطن اليوم) منشورة بتاريخ ٣٠ آبان ١٤٠٤ هـ. ش. الموافق ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥م.
