أخذت احتمالات قيام حملة إسرائيلية جديدة على إيران منحناها التصاعدي بعد عودة كل عقوبات الأممية على البلاد، لاسيما مع التصريح الدال جدا الذي أدلى به الرئيس الإيراني الدكتور مسعود پزشيكان يوم الإثنين 29 سبتمبر 2025م، إذ قال: “لا شك أن إسرائيل ستهاجمنا مرة أخرى، والتقارير الاستخباراتية تؤكد ذلك، ولقد أعددنا خططا للتعامل مع العدوان”.
ضجة حول الدعم الروسي لإيران
في تلك الأثناء ثارت ضجة من نوع خاص حول الدعم الخارجي الذي يمكن أن تتلقاه إيران من جانب الضامنين الدوليين الكبيرين، وهما: روسيا والصين، حال اندلعت مواجهة موسعة مع الولايات المتحدة الأمريكية سواء بشكل مباشر أو حتى بأياد إسرائيلية.
اقرأ أيضا:
غير أن الأوساط السياسية الإيرانية ركزت هذه المرة على حقيقة التخاذل الروسي عن دعم إيران، خاصة أن طهران ساعدت ــ بلا تخاذل ولا تكاسل ودون هوادة ــ روسيا في حربها ضد أوكرانيا ومن المفترض أن ترد لها موسكو الدَين والجميل، غير أن ذلك لم ــ ولن ــ يحدث في أي مواجهة مع إسرائيل.
في الفيديو المرفق مقابلة مع سفير إيران في موسكو، كاظم جلالي، نشرها موقع “انتخاب” ويقول فيها بالحرف الواحد: “يعتقد الإيرانيون أنهم فقط من يقول إن الروس غير جديرين بالثقة، بينما الروس أيضا لا يعتبرون الإيرانيين جديرين بالثقة ويقولون إن إيران بمجرد إشارة من الغرب ستهرول نحو الغرب”.
العقدة الإيرانية من روسيا
ولقد أثار هذا التصريح حالة من السجال والجدال داخل إيران في اليومين الماضيين؛ لأن كثيرا من المتابعين للسياسات الإيرانية بداخل البلاد وخارجها لديهم علامة استفهام كبرى، وهي: لماذا لم تتدخل روسيا عسكريا لدعم إيران في حرب الاثني عشر يوما الإسرائيلية على إيران التي سميت باسم “الأسد الصاعد” (13 ــ 24 يونيو) 2025؟!
تكمن الإجابة ببساطة في أن روسيا تعاني من صورة شديدة السلبية في الذهنية الإستراتيجية التاريخية لدى الإيرانيين، خاصة أنها (أي روسيا) لم تقم حتى بإدانة عملية “أيام التوبة” الإسرائيلية على إيران يوم السادس والعشرين من أكتوبر 2024م.
فضلا عن أن العقلية الإيرانية تعاني من عقدة تاريخية متأصلة تجاه روسيا؛ لأن روسيا احتلت كثيرا من الأراضي الإيرانية، بل وهزمت الجيوش الإيرانية على عهد الدولة القاجارية (1789 ــ 1925م) وأذلت البلاد وأجبرتها على التوقيع على اتفاقيتين مهينتين تعرفان في التاريخ باسم “جلستان 1813م”، و”تركمانجاي 1828م”، كما أن روسيا اشتركت في الغزو الأنجلوسوفيتي على إيران عام 1941م، وعزلت رضا خان بهلوي، وعينت ابنه محمد رضا بهلوي بدلا منه شاها للبلاد.
الإدراك الروسي لإيران
تدرك روسيا أن السيكولوجية الإيرانية “الآرية” تميل ميلا چينيا إلى الغرب أكثر بكثير من ميلها إلى الشرق، حتى مع الصدام والعداء مع هذا الغرب بعد الثورة الإسلامية لعام 1979م، ومعنى ما سبق أن الروس لا يثقون بالإيرانيين، إلا إذا قطعوا علاقات بلادهم مع كل دول العالم وأصبحوا بالكامل تحت إرادة موسكو وتحت سطوة نفوذها.
لعل ذلك أحد أسباب محاولة سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي عرقلة الاتفاق النووي لعام 2015م، حتى يبعد إيران قدر المستطاع عن المحور الغربي وعن دائرة نفوذه.
وقد يندهش من يقرأ هذه السطور حتى ذرى الدهشة حين يعرف أن وزير الخارجية الإيرانية الأسبق محمد جواد ظريف كتب في مذكراته “صمود الدبلوماسية” أن آلية الزناد “سناب باك” التي تعاني منها إيران اليوم، والتي أعادت البلاد تحت وطأة كل العقوبات الأممية هي “من بنات أفكار روسيا” في أثناء المباحثات النووية بين عامي 2013 ــ 2015م.
اقرأ أيضا:
هنا أنقل عن المحلل السياسي الإيراني في صحيفة “هم ميهن” الإصلاحية، أحمد زيد أبادي، تشبيهه لنظرة روسيا تجاه إيران بـ”عاشق طلب من معشوقته أن تفقأ عينيها حتى لا ترى غيره وإلا لن يثق فيها”. وهو مثل فارسي يقابله في الثقافة المصرية مقولة “شيبوب” لحبيبته في فيلم عنترة: “إنتي تجلعيلي عين وأنا أجلعلك عين ونعيش عور إحنا الإتنين”.
التاريخ الإيراني يفسر الواقع
في خلال أربعة قرون من تاريخ إيران الحديث والمعاصر، ركزت كل جهود الحكومات الإيرانية على خلق تنوع في العلاقات الخارجية للبلاد بحيث يتم الحد من تدخل قوة مهيمنة في الشؤون الداخلية والتحكم فيها، لكن ذلك أثار غضب الروس على نحو بالغ ولم يقبلوا به في أي فترة من فترات التاريخ ولا حتى في السياسة المعاصرة.
اقرأ أيضا:
ففي عهد القاجاريين، كان الروس يعارضون الانفتاح الإيراني على العالم بشدة، ويريدون أن تكون إيران منطقة نفوذ حصرية لهم، تسهيلا للتخلص من العقدة الروسية التاريخية وهي الوصول إلى المياه الدفيئة التي تطل عليها إيران من الجنوب والغرب، وحتى بعد الثورة الدستورية “المشروطية 1906م”، لم يتحمل الروس توظيف مستشار مالي أمريكي لتنظيم الأمور المالية لإيران.
من يعود إلى التاريخ ليفهم الواقع يعرف أنه في عام 1906م، قامت ثورة دستورية شهيرة في تاريخ إيران، لكن بعد الفراغ منها اكتشف الشاه القاجاري، أحمد شاه، أن بلاده في حاجة إلى خبير أجنبي يتولى تنظيم موازنة البلاد، وبالفعل استقدم مورجان شوستر لهذه المهمة.
ومورجان شوستر هو مصرفي أمريكي ويعد شخصية مهمة وشهيرة في تاريخ إيران الحديث، ارتبط اسمه بشكل رئيسي بفترة المشروطية (1906 – 1911م) والإصلاحات المالية التي حاولت الحكومة الإيرانية القيام بها بعد دستور 1906م.
غير أن روسيا القيصرية على عهد نيكولاي الثاني (1894 ــ 1917م) قدمت للحكومة الفارسية في طهران إنذارا نهائيا، وهو إما طرد مورجان شوستر من البلاد، أو أن تحتل تبريز، عاصمة محافظة أذربيجان الشرقية.
روسيا وإيران في السياسة المعاصرة
تمضي السنون ويشهد التاريخ المعاصر على استمرارية النهج الروسي في التعامل مع إيران، إذ ساعدت روسيا العراق في حربه ضد إيران (1980 ــ 1988م) ولم تقدم أي مساعدة تذكر لإيران.
بل والأخطر من كل ذلك في السياسة الراهنة أن روسيا لم تستخدم حق النقض الفيتو ضد العقوبات الأممية على إيران في عهد الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد (2005 ــ 2013م) وسمحت للغرب بفرض 5 حزم عقوبات شديدة القسوة، وسمحت للغرب بفرض أقصى الضغوط السياسية والاقتصادية على طهران.
اقرأ أيضا:
ثم تطورت دراما الأحداث وهبط الليل على العلاقات الإيرانية ــ الروسية، وتحديدا في مساء الأحد 24 أغسطس 2025م، حين أكد عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، محمد صدر، أن روسيا زودت إسرائيل بمعلومات حول مواقع دفاعية إيرانية خلال الحرب الأخيرة التي استمرت 12 يوما، وكذلك في عملية “أيام التوبة” التي سبقتها.
محمد صدر أكد أن روسيا سلمت منظومة صواريخ إس-400 إلى تركيا العضو في حلف الناتو، لكنها رفضت منحها لإيران رغم الشراكة الإستراتيجية بين البلدين كما تماطل موسكو أيما مماطلة في بيع مقاتلات سوخوي 35 لطهران.
رد الفعل الروسي ضد الأوساط الإيرانية
ما سبق أدى بالخارجية الروسية والسفارة الروسية في طهران إلى أن تصدر بيانا تستنكر فيه تصريحات على هذا النحو من الخطورة، وتؤكد عدم تعاونها مع إسرائيل ضد إيران، بالرغم من أن كل الشواهد تؤكد ما ذهب إليه محمد صدر، بل وتؤكد أن إسرائيل ما كان لها أن تواصل قصف الأهداف الإيرانية أسبوعيا في سوريا على مدى سنوات إلا بضوء أخضر من روسيا التي كانت تتحكم في المجال الجوي السوري بالكامل!
ولعل هذه الأمور إذا وضعت في مصفوفة متراصة للفهم والشرح والتحليل تدلل على أن هناك شعورا متزايدا في طهران بالخيانة من جانب روسيا، خاصة في ظل ما يعتبر تفضيلا لمصالحها مع دول أخرى على حساب علاقتها مع إيران.
وتدرك طهران في أعماقها الإستراتيجية رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مقايضة أوكرانيا بإيران عند تسويات الحل النهائي للحرب الأوكرانية على طاولة المفاوضات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولعل هذا ما حدث بالفعل في قمة آلاسكا التي جمعت بين الزعيمين يوم 15 أغسطس 2025م.
خاتمة
نفهم من كل ما سبق أن الأدبيات السياسية الإيرانية تتعامل مع روسيا بتوجس وشك وريبة يصل إلى حد التخوين، كما نفهم أن طهران تدرك في أعماقها أن موسكو لا يعنيها إلا مصالحها الشخصية، وهو نص ما قاله وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين عبد اللهيان في مذكراته “صبح شام”.
اقرأ أيضا:
ويدرك من يجلسون في المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران أن موسكو لن تقدم لطهران أي إسناد عسكري من أي نوع حال اندلعت عملية إسرائيلية جديدة على إيران.
وهنا يفطن من يجلس في قصر الپاستور الرئاسي بطهران إلى أن بلاده ارتكبت خطأ إستراتيجيا بالغا حين قررت معاداة أوروبا، من خلال دعم موسكو بالسلاح في حربها ضد أوكرانيا.
ـــــــــــــــ
🛑 للانضمام إلى النشرة البريدية للمنتدى على واتساب من خلال الرابط التالي:
https://chat.whatsapp.com/HRhAtd7IrydFFx6i1zSI7S
🛑 رابط قناة الدكتور محمد محسن أبو النور على تليجرام:
https://t.me/iran_with_egyptian_eyes
🛑 رابط الحساب الرسمي للدكتور محمد محسن أبو النور على فيسبوك:
https://www.facebook.com/mohammedmohsenaboelnour1