مقدمة[1]
كان وصول الرئيس محمد أنور السادات (1970 ــ 1981م) إلى سدة الحكم في مصر إيذانا بتغيير جذري في سياسة مصر الخارجية تجاه إيران لأنه ـ أي السادات ـ عمل على تحجيم الفكرة العروبية الناصرية وبدأ في التفكير الجاد لجهة تحرير سيناء التي احتلتها إسرائيل بالكامل في أعقاب حرب 5 يونيو 1967م.
وبالرغم من أن السادات كان رفيق عبد الناصر (1952 ــ 1970م) في كل مراحله الثورية وكان شريكا في الأفكار القومية العربية ودعم حركات التحرر؛ إلا أنه كان يؤمن بنهج آخر مفاده أن تحرير سيناء مرهون بالإصلاح الاقتصادي الذي كان بدوره رهنا بتغيير السياسات العامة للنظام في مصر.
مع هذا وضع في خطته إحداث تطور محوري في السياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية كافة وبشكل تدريجي، وعلى هذا النحو كانت فترة بداية العهد الساداتي هي البداية الحقيقية في تحسن العلاقات المصرية ـ الإيرانية.

غلاف كتاب “الاتحادية والپاستور.. العلاقات المصرية ــ الإيرانية من عبد الناصر إلى پزشكيان 1952 ــ 2025” للدكتور محمد محسن أبو النور، من تصميم الفنان التشكيلي، حسين جبيل.
وتعتبر السياسات التي اتبعها السادات في بداية فترته هي ما دفعت الشاه محمد رضا بهلوي (1941 ــ 1979م) للإعجاب بالرئيس المصري الجديد؛ لأنه ـ أي السادات ـ لم يكن يسعى إلى تحقيق الأحلام القومية العربية، ولا نشر الحركات التحررية التي لطالما أزعجت الشاه، فقد كان السادات ينظر إلى هذه الأحلام على أنها غير ممكنة، أو غير مفيدة، وهذا بالطبع إلى جانب أن السادات لم يكن يتمتع بالمقومات الشخصية التي كان يتمتع بها سلفه جمال عبد الناصر من ناحية الكاريزما والقدرة على التأثير في ــ والسيطرة على ــ الآخرين.([2])
وبعد تولي السادات الحكم أصبح حضور مصر في مجموعة دول عدم الانحياز ضروريا باعتبارها أحد مؤسسي الحركة وأصبح الدور المصري أقل تأثيرا من ذي قبل، وقد بدا للعالم والشاه أن مصر بزعامة السادات قد بدأت تغير دفتها تدريجيا إلى الغرب، وهي السياسة التي يتم التعبير عنها في الأدبيات السياسية بأنها “واقعية السادات في مواجهة مثالية عبد الناصر”.
وبالفعل كان تعارض هاتين النظريتين ناجما عن قومية عبد الناصر العربية وقومية السادات المصرية، وكان معنى هذا أن السادات كان يؤمن بعكس ما كان يؤمن به عبد الناصر وأن زعامة مصر للعالم العربي هي أصل بنيوي وليست مجرد علاقات سلوكية؛ ولهذا فإن أي قرار تتخذه مصر سوف يقبله العالم العربي([3])
والحق أن وفاة جمال عبد الناصر وحلول السادات محله في الرئاسة المصرية أدى إلى التخفيف من حدة التوتر بين مصر وإيران؛ إذ اتخذ الرئيس السادات سياسة التهدئة بوقف الحملات الإعلامية والإذاعات الموجهة إلى إيران، ثم قام بزيارة إيران بعد عدة أشهر من توليه السلطة، وهو ما دفع الشاه إلى اتخاذ إجراءات أكثر دعما لمصر في كل المناسبات.([4])
أولا: موقف إيران من حرب أكتوبر 1973 وحقيقة دعمه لمصر
كانت الأيام السابقة لحرب أكتوبر مفيدة للشاه بعد أن أغلقت قناة السويس أمام الإمدادات البترولية العربية للغرب وكانت إيران هي المستفيد الأعظم من الحرب المصرية ـ الإسرائيلية حتى إن مجلة “تايم” الأمريكية وضعت صورة الشاه على غلافها وكتبت تعليقا مختصرا يؤكد المعنى نفسه: “إمبراطور البترول”.
يقول أسد الله علم في مذكراته السرية إن الحرب بين العرب وإسرائيل تسببت في زيادة كبيرة في أسعار البترول على مستوى السوق العالمية، وقد حدد وزراء الأوبك سعر البترول في اجتماعهم بطهران في يوم 23 ديسمبر من العام 1973م، وكان سعر البترول العربي الخفيف الخام كمؤشر لابد أن يرتفع 3 أضعاف من نحو 3 دولارات إلى 11.65 دولار لكل برميل وكان نصيب الحكومة الإيرانية من ذلك السعر 9.27 دولار بالمقارنة بمبلغ 2.18 دولار التي كانت مخصصة للحكومة في عام 1971م، طبقا لاتفاقية إيران.

اجتماع قادة الحرب المصرية على إسرائيل 6 أكتوبر 1973م.
وعليه ارتفع دخل إيران البترولي من 90 مليون دولار أمريكي في 1955م، إلى 1.1 مليار دولار أمريكي في 1971م، وارتفع إلى ذروته في عام حرب أكتوبر إلى 21.40 مليار وكان الشاه سعيدا بالنصر الذي حققه كقائد للدول المنتجة للبترول حيث كانوا يضغطون لزيادة دخلهم، وبالتالي فتحت كثير من الدول سفارات لها في إيران وتوافدت عليها الحكومات الأجنبية ورجال الأعمال للمشاركة في الثروة النفطية المكتشفة حديثا.([5])
وتظهر مذكرات أسد الله علم وزير البلاط الإيراني أن الشاه أعطى لملف حرب أكتوبر اهتماما بالغا، ففي يوم الأحد 15 إبريل 1973م، وجه الشاه برقية إلى الرئيس السوري حافظ الأسد، وعندما أبدى وزير البلاط اندهاشه من عدم إرسال الشاه للرئيس السوري برقية في عيد ميلاده السابق وقع على البرقية وعلق بقوله: “لا يجب أن تتعجب فنحن في غمرة المفاوضات نريد أن تكون لنا علاقات دبلوماسية مع سوريا بغض النظر عن هذه المضايقات البسيطة”.([6])
وهو ما يؤكد أن الشاه كان مضطلعا بملف الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي كانت تقف فيه سوريا في خندق واحد مع مصر، وما يؤكد أنه كان حريصا على لعب دور في ملف الحرب العربية مع إسرائيل، وذلك في إبريل من عام الحرب نفسه؛ أي قبل انتصارات العاشر من رمضان بأقل من نصف عام.
وفيما يتعلق بحرب أكتوبر وموقف الشاه من الجانبين المصري والإسرائيلي يروي وزير بلاطه أسد الله علم أنه في يوم السادس من أكتوبر من عام 1973م، يوم اندلاع الحرب العربية ـ الإسرائيلية قوله: “تفجر العداء بين مصر، وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى فاتصلت بجلالة الشاه تليفونيا فور سماعي لهذا النبأ، وكنت أول من أخبره بذلك، فطلب مني أن أجمع رئيس أركان الحرب، وقواد الجيش لمقابلته في قصر سعد أباد”.([7]) ما يدلل على أهمية الموقف بالنسبة للشاه وكم لعب العامل الإسرائيلي أكبر الأدوار في تحديد وجهة السياسة الخارجية للشاه وكذلك طريقة صياغته لعلاقته مع مصر.
ويكمل علم روايته، ففي اليوم التالي أي في 7 أكتوبر 1973م: “بالنسبة للحرب العربية ـ الإسرائيلية، أخبره كسينجر ـ شفهيا ـ أنه بغض النظر عن الوضع العسكري الراهن فإن الولايات المتحدة تفعل ما بوسعها للوصول إلى هدنة بين الطرفين، ولكن إذا فشلت في ذلك ينوون إنقاذ موقفهم الدولي بإعطاء مساعدات فورية لإسرائيل”.([8])
الأمر الذي يشير أيضا إلى تداخل الشاه بشكل تفصيلي في سير العلاقات العربية ـ الإسرائيلية واطلاعه على نوايا الجانب الأمريكي، وموقف البيت الأبيض من الحرب في سيناء.
وفي يوم 8 أكتوبر 1973م، أخبر وزير البلاط الإيراني الإمبراطور بأن إسرائيل تحرز تقدما أقل من المتوقع، فأخبره الشاه أنه لا توجد أية تأكيدات رسمية عن ذلك، و”مهما حدث يجب أن أتأكد أن إسرائيل لن تكون الخاسرة”؛ لأن الأمريكيين سيحركون الأرض والسماء لمنع هزيمة إسرائيل فهم مصرون على الحفاظ على إسرائيل كعصا يضربون بها العرب.
ويسرد أسد الله علم أن الشاه أشار في يوم 9 أكتوبر عام 1973م، إلى أنه من الخطأ أن تقدر قوة العرب دون مستواهم وقال: “لديهم مخزون هائل من الأسلحة متضمنة قذائف سام السوفيتية التي أثبتت جدارة فائقة ضد الطائرات الإسرائيلية”. فقال له أسد الله علم: “مع ذلك فإن النصر مرتبط بالجانب الذي لديه قوة إقناع أقوى، ولا يعتمد ذلك على كمية الأسلحة”.([9])
وفي مقابلة جرت يوم 10 أكتوبر 1973م، بين وزير البلاط سالف الذكر والشاه قال الثاني: “قد يكون الإسرائيليون شجعان، ولكن ليس لديهم أي فرصة للتغلب على جبهة الدفاع المصرية، حائط صلب من الدبابات، أكثر من ذلك أن صواريخ سام قد أثبتت فاعليتها، وحرية توجيهها بالنسبة للدفاع الجوي”.([10])

جمعت الرئيس محمد أنور السادات وشاه إيران محمد رضا بهلوي، صداقة وطيدة في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر لعام 1973م.
وفي يوم الثلاثاء 11 أكتوبر 1973م، قال الشاه: “الأمريكيون، والبريطانيون يعترفون الآن بخطئهم لاعتقادهم أن العرب لا يستطيعون تحريك الحرب فقد كنت أعلم ذلك طوال الوقت، وفي مناسبات عديدة فعلت ما بوسعي لأحذرهم، ولكن لم يصغوا إليَّ”.
ويقول وزير البلاط الشاهنشاهي أسد الله علم إنه أبلغ الشاه في الليلة ذاتها أن السفير البريطاني كان حريصا على نقل أخبار الحرب العربية ـ الإسرائيلية إليه، وإن الإسرائيليين يدعون أنهم استطاعوا خرق الجبهة السورية وأنهم يزحفون تجاه دمشق. ويكمل أسد الله علم أنه قرأ مع الشاه صباح الجمعة 12 أكتوبر 1973م، مجموعة تقارير سرية بريطانية، وأمريكية عن مجرى الحرب، ومن الواضح أن الجبهة السورية متماسكة، وأن الإسرائيليين في طريق الصلح مع مصر.([11])
مما سبق يتضح أن الشاه كان يتابع تطور الأمور على ساحة الصراع العربي ـ الإسرائيلي باهتمام كبير ويقرأ كل التقارير الواردة له في ذلك الخصوص عن كثب الأمر الذي يعطي عدة نتائج مفادها:
- أن الصراع العربي المصري ـ الإسرائيلي كان يشغل بال السياسة الإيرانية، وأن متابعة أخبار الحرب كانت تستحوذ على أغلب أوقات الشاه.
- أن الشاه كان حريصا على التشاور مع السفراء الأجانب في طهران حيال الأمر نفسه.
- أن الشاه كان على دراية تامة بكل ما يحدث، وعلى دراية كاملة بنوايا كل الأطراف ذات الصلة بالحرب الدائرة في الشرق الأوسط.
- أن الشاه بدا متفهما لقوة الموقف المصري في مواجهة إسرائيل، لكنه كان يتمنى في أعماقه ألا تنهزم إسرائيل.
- أن الشاه من الزاوية الإستراتيجية كان بعيد النظر بالنسبة لتقدير الموقف وحساب توازن القوى بين مصر وإسرائيل.
- أن الشأن الإسرائيلي كان محددا مهما في العلاقات المصرية ـ الإيرانية.
ثانيا: موقف الشاه من انتصارات السادس من أكتوبر لعام 1973
في يوم السادس من أكتوبر من عام 1973م، وقد اندلعت المعركة بين العرب (مصر وسوريا) وإسرائيل اتصل وزير البلاط أسد الله علم بالشاه تليفونيا فور سماعه نبأ العبور وأخبره بنشوب الحرب، وتشير رواية وزير البلاط في مذكراته إلى أن الشاه لم يكن متعاطفا مع القضية العربية وكان يود ألا تخسر إسرائيل الحرب بالرغم من أن صديقه السادات هو قائد المعركة العربية.
وقال الشاه لأسد الله علم وفقا لروايته إن “الإسرائيليين يدّعون أنهم استطاعوا خرق الجبهة السورية وأنهم يزحفون تجاه دمشق. قد يكون هذا صحيحا حيث إن السفير السوفيتي اتصل تليفونيا بعد ظهر اليوم الخميس 11 أكتوبر 1973م، وطلب مقابلة فورية واستقبله الشاه في تمام الساعة السادسة والنصف مساء اليوم نفسه بتوقيت طهران.
وكان موقف الشاه يميل أكثر إلى مناصرة الغرب أو على الأقل التعاون الكامل معهم في كل المجالات، ذلك أن الاتحاد السوفيتي طلب من الشاه في يوم الخميس 11 أكتوبر 1973م، أن تمر طائراته التي تمد الجبهة العربية في سوريا والعراق بالسلاح؛ فرفض ذلك وقال لأسد الله علم: “طلب السفير السوفيتي يوم الخميس الماضي السماح للطائرات السوفيتية بالمرور في المجال الجوي الإيراني في طريقها إلى بغداد ودمشق وعندما رفضت ذلك، طلب السفير ـ أي السفير السوفيتي ـ أن أسمح لطائرات إيروفلوت على الأقل بنقل قطع غيار إلى بغداد وحيث إن إيروفلوت طائرة مدنية وافقت على هذا المطلب وأنا الآن في حيرة من أن أبلغ الأمريكيين”.([12])
أسد الله علم من جانبه أجاب على قول الشاه: “إذا كنا نعتبر الأمريكيين أصدقاء لنا فمن الضروري أن نخبرهم أما إذا لم يكونوا كذلك فإن ذلك سيؤدي إلى تغيير جوهري في سياستنا الخارجية”. وقد أعطاني الشاه إشارة البدء لأحذر السفير الأمريكي وأضاف قائلا: “أخبره أنه مسؤول عن أن يجد حلا لهذه الحرب المدمرة. إن التكاسل الأمريكي أو بمعنى أصح الضعف الأمريكي هو الذي وضعنا في كل هذه الفوضى. في الوقت نفسه وافقت على إمداد المملكة السعودية العربية بطائرات نقل يقودها طيارون إيرانيون”.([13])

الرئيس السادات وقرينته السيدة جيهان السادات (يسار الصورة بالزي الأسود) في لقاء مع الشاه محمد رضا بهلوي وقرينته الإمبراطورة فرح ديبا (يمين الصورة بالزي الأبيض)
ويتضح من مذكرات وزير البلاط الإيراني أن الشاه كان يتابع تطورات الحرب في سيناء والجولان من منطلق المصلحة في المقام الأول وكان كل ما يعنيه هو وضع بورصة البترول العالمية، ذلك أن أسد الله علم قابل السفير الإنجليزي في طهران يوم السبت 14 أكتوبر 1973م، وتناقشا في موضوع البترول والحرب وكان من وجهة نظره ـ أي السفير الإنجليزي ـ أنه يجب أن “نجعل العرب يدركون أن تهديد الإمداد بالبترول عبارة عن سلاح ذو حدين وسوف يجرح الولايات المتحدة جرحا بسيطا ولكنه سيكون له آثار سلبية على الدول الأوروبية حيث إن كثيرا منها مؤيد للعرب أساسا”. وقد طلب السفير من وزير البلاط أن يثير هذه المسألة مع الشاه. وعندما أبلغه أسد الله علم بما جرى مع السفير البريطاني قال:
“أنا بنفسي قد أثرت هذه النقطة بالذات في تحقيق سابق لجريدة “إيجيبشين جازيت”. وطلب الشاه من أسد الله علم إرسال نسختين من الحوار ـ الجريدة ـ واحدة إلى السفير الإنجليزي والأخرى إلى السفير الأمريكي.([14])
وهو ما يوضح أن وجهة نظر الشاه كانت متطابقة مع وجهة النظر الإنجليزية في مسألة تضرر أوروبا من قطع البترول العربي بسبب الحرب العربية ـ الإسرائيلية.
وفي يوم الإثنين 15 أكتوبر 1973م، سلم السفير الأمريكي في طهران خطابا يحدد موقف الحكومة الأمريكية الأساسي بالنسبة لحرب أكتوبر وطلب السفير الأمريكي من وزير البلاط أسد الله علم أن ينقل إلى الشاه تقدير واشنطن العميق لشجاعته ورفضه استخدام المجال الجوي الإيراني في الإمداد الحربي وسأله أسد الله علم عن الطريق الذي سلكه السوفيت لنقل إمداداتهم الحربية لكن الشاه لم يكن متأكدا تماما من طريقهم؛ غير أن شعورا قويا كان يعتري الشاه بأن السوفيت يطيرون مباشرة من خلال الحدود الإيرانية ـ التركية.
ويروي أسد الله علم أنه قابل السفير الإسرائيلي الجديد في طهران صباح الأربعاء 17 أكتوبر 1973م، وتحدث السفير له عن حجم الدمار الذي لحق بالقوة العسكرية الجوية لإسرائيل من جراء مدافع سام 6 السوفيتية، وهي وسيلة جديدة خفيفة الوزن يمكن أن يحملها رجل على كتفه. أهم ما في هذا أنها المرة الأولى التي استمع فيها أسد الله علم ـ على حد روايته ـ إلى إسرائيلي يبكي على حال بلده.([15])
ويحكي أسد الله علم أن السفير الأمريكي في طهران أخبره في مساء الثلاثاء 16 أكتوبر 1973م، فى خلال حفل عشاء أن إسرائيل خسرت 105 طائرات، فقد بدأت الحرب بأربعمائة طائرة.
وفي يوم الخميس 18 أكتوبر 1973م، حضر السفير الأمريكي إلى منزل وزير البلاط في وقت باكر من المساء واعترف بأن معلوماته عن طريق الطائرات السوفيتية من خلال الحدود الإيرانية ـ التركية قد ثبت أنها خاطئة وقد أبلغ عن الإصابات بالنسبة للعرب وإسرائيل.
يقول أسد الله علم إنه قابل عددا من سفراء الدول الإسلامية([16]) في مساء يوم الأحد 21 أكتوبر 1973م، واشتكوا إليه عدم مساندة إيران للقضية العربية، لكنه أنكر ذلك وذكرهم كم كانت إيران متعاونة في الماضي مع العرب، مضيفا “نحن الذين يجب أن نشتكي أن العرب يعادوننا بصورة مستمرة يتكلمون عن الجزر أو ما يسمونه الخليج العربي بينما رئيس الجزائر استغل المؤتمر الأخير لدول عدم الانحياز([17]) لشن هجوم سفيه مرير على إيران ثم ذهبت بالسفراء إلى مقر إقامة السيدة فرح ديبا احتفالا بنهاية شهر رمضان”.([18])
وفي يوم الاثنين 22 أكتوبر 1973م، قابل أسد الله علم الشاه وعرض عليه رسالة من وزير الخارجية الأمريكية هنري كسينجر عن حل أمريكي ـ سوفيتي مشترك مقدم إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة يطلبان فيه إنهاءً حاسما للحرب ويدعون إلى مفاوضات لحل المشكلة (الحرب) العربية ـ الإسرائيلية.
وفي يوم الثلاثاء 23 أكتوبر 1973م، قابل الشاه الملكة إليزابيث وبحث معها أمن الخليج ومسألة حرب السادس من أكتوبر 1973م، وأبلغت الملكة الشاه بأنها “قلقة من رفض الحكومة البريطانية إمداد إسرائيل بقطع الغيار والإمدادات الأخرى”.([19])
واتبع الشاه سياسة معلنة متوازنة بين طرفي الصراع؛ إذ لم ينجر إلى اتخاذ موقف قد يحسب على أنه ساند طرفا على حساب آخر، “الأمر الذي كان له مردود إيجابي على علاقات إيران ـ العربية”.([20])
بينما يذكر أسد الله علم في مذكراته أنه ذهب إلى دار الأوبرا الإيرانية لمقابلة الشاه في مساء الخميس 25 أكتوبر 1973م، وكان العالم كله قد انقلب رأسا على عقب لموافقة السوفيت على طلب الرئيس المصري محمد أنور السادات بإرسال فرق جنود للإشراف على وقف النيران. وقد كان رد فعل الأمريكيين على ذلك أن وضعوا عددا من فرقهم العسكرية في حالة تأهب قصوى، على الرغم من أن كسينجر قد وضع خطة لتجنب المواجهة بين القوتين العظميين.
ويروي علم أن الشاه كان مترقبا بشدة عندما حضر إلى دار الأوبرا وأمره بترك الأوبرا والعودة إلى العمل لمتابعة التطورات.
ويؤكد أسد الله علم أن كل أعضاء الحكومة الإيرانية بمن فيهم الشاه، تنفس الصعداء عندما أعلنت موسكو أنها ليس لديها الرغبة في إرسال جنود روس إلى سيناء وكان رأي الشاه أن هذا التراجع السوفيتي بسبب رد الفعل الأمريكي السريع؛ وإلا ما كانوا تراجعوا مطلقا.([21])
ومن خلال ما ذكره وزير البلاط الإيراني تتضح الحقائق التالية:
- أن إيران لم تكن تدعم العرب بأي شكل وكان جل اهتمام الحكومة الإيرانية هو: الاطمئنان على حال سوق النفط وتأثر سعر البترول بالحرب العربية ـ الإسرائيلية.
- من خلال الشكوى العربية عن طريق السفراء يتبين أن الدول العربية ـ ومن بينها مصر قائدة الحرب ـ كانت مستاءة من موقف إيران تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
- أن الشاه وحكومته كان يضايقهم الحديث عن مسألة تسمية الخليج وعن الجزر الإماراتية أكثر من أي أمر آخر.
- أن الشاهبانو فرح ديبا كانت وثيقة الصلة بما يحدث على الأرض وكانت كثيرة التشاور مع المسؤولين العرب الموجودين في طهران.
- أن أسد الله علم نفسه كان يتابع أولا بأول تطورات الأحداث في ميدان المعركة من سفراء الدول الكبرى وكان بطبيعة الحال ينقل كل تلك الحوارات إلى الشاه.
- أن الشاه لم يكن يتمنى أن تنتصر ولم يكن يريد لمصر أن تنهض من كبوتها؛ لأنه يعرف أن خروج مصر منتصرة من حرب أكتوبر المجيدة يعني عودتها بكامل عنفوانها إلى الإقليم، وبالتالي خسارة فورية مباشرة لحكمه، والأسباب بسيطة: مصر القوة العربية والإسلامية الأكبر التي حاربها في اليمن، ومن المؤكد أن نهوضها يمثل خصما فوريا من مكانة إيران التي كان موكلا إليها أمريكيا حماية الأمن في المنطقة.
- أدرك الشاه جيدا أن آيات الله المناهضين لحكمه يحبون مصر ويتخذونها قدوة وطالما تلقوا الدعم منها، وفي حال انتصار مصر على حليفته إسرائيل سيعطي ذلك النصر قوة معنوية داخلية هائلة لهؤلاء رجال الدين الذين كانوا يعتبرونها – بتاريخها وبأزهرها الشريف – قبلة الإسلام بل وتخصص بعض منهم في الشؤون المصرية ومنهم علي خامنئي الذي سيصبح مرشدا في عام 1989، حتى الآن.
ثالثا: كراهية الشاه للعرب وميله إلى مساندة الاحتلال الإسرائيلي
ما يؤكد أن الشاه محمد رضا بهلوي كان يميل إلى مساندة دولة الاحتلال الإسرائيلي، بل كان يكره العرب ما ذكره وزير بلاطه أسد الله علم إذ يقول في مذكراته إنه: “في يوم الأحد الموافق 28 أكتوبر من العام 1973م، حضر الشاه حفلا خاصا بمناسبة انتهاء شهر رمضان، وألقى متحدث المجلس خطابا يعبر فيه عن التضامن الإيراني مع إخواننا المسلمين في حربهم الآن (في إشارة إلى حرب أكتوبر) إلا أن الشاه غضب بشدة وهمس إلى المتحدث ـ سيء الحظ ـ قائلا فليذهب إخواننا المسلمين إلى الجحيم إنهم ألد أعدائنا، بعد ذلك أطلعني الشاه على حيرته من النمط الحالي الذي يدعي للتضامن الإسلامي وقال أنت تعرف جيدا أنني مسلم، نعم مسلم متعصب، ولكن ذلك لن يغير من فكرتي عن العرب”.([22])
وفي يوم الأحد 4 نوفمبر 1973م، سأل أسد الله علم، الشاه عن سبب إقالته نائب وزير الخارجية([23]) فقال: “لقد أخبر الروس أنهم يمكنهم أن يستخدموا المجال الجوي الإيراني لطائراتهم ثم جاءني مبررا موقفهم بأن إيران كانت دائما جسرا للنصر([24]).. كيف يمكن أن يكون ـ يقصد نائب الوزير ـ بهذا الغباء؟ كان يجب أن يدرك أن ذلك يعارض كل شيء أخبرته به عن هذا الموضوع.
وكان الشاه متعاونا مع الغرب ضد العرب في حرب أكتوبر لدرجة أنه سهل مهمة وحدة بحرية كاملة بل ودعمها بالبترول الإيراني وسمح لها باستخدام الموانئ الإيرانية لإمداد جيش الدفاع الإسرائيلي بوحدات الإنقاذ السريع.
يقول أسد الله علم إن السفير البريطاني كتب له في يوم الأحد 4 نوفمبر يخبره أن وحدة بحرية محدودة مكونة من السفينة الأمريكية هانوك مصحوبة بمقاتلات سوف تتحرك في منطقة تابعة لإيران 180 ميلا جنوب شرقي الموسكات بعد يومين أي في السادس من نوفمبر 1973م، وكان السفير البريطاني شغوفا لمعرفة رد الشاه.
ويتساءل أسد الله علم: هل سيسمح الشاه للولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدم القاعدة الجوية في بندر عباس لطيران وحدات إنقاذ بعيدة المدى عن طريق طائرة أمريكية بي 2، وكذلك تمكينه لطيران قصير المدى من وإلى هانوك في خلال عشرين يوما. وهل سيسمح بتمويل هذه السفينة بالوقود؟
ويروي وزير البلاط أن الشاه طلب منه أن يتصل بالسفير ويعرف منه كمية الوقود المطلوبة لتمويل السفينة. وأشار إلى أن يتم نقل البترول اللازم للتمويل بطريق غير مباشر عن طريق البحرية الإيرانية.
وقال إنهم يمكنهم أن يستغلوا بندر عباس في ذلك، ولكن على شرط التظاهر بأنهم يدربون طيارين إيرانيين على قيادة بي 2، اشتراها هو للجيش الإيراني.([25])
وفي يوم الإثنين 5 نوفمبر 1973م، استقبل وزير البلاط السفير السعودي بطهران وأخبره السفير أن لديه طلب “بسيط” وهو أن تمنع إيران خطوط شركة العال الإسرائيلية للطيران من استخدام المجال الجوي الإيراني وأن توقف إيران ضخ البترول إلى تل أبيب.
يقول أسد الله علم: “أذهلتني كلمات السفير السعودي وأجبته إنها الشركات وليس نحن من يستخدم خطوط البترول لمد إسرائيل بها ونحن لا نستطيع أن نمنع شركة العال من استخدام مجالنا الجوي إن ذلك يعني أن نعلن الحرب على إسرائيل. لم يعد السفير طلبه ولكنه قال إنه وزملاؤه العرب قد ناقشوا هذه الأمور مع وزير الخارجية”.([26])
ويتضح من مذكرات أسد الله علم أن الشاه كان يشرف بنفسه على متابعة الأحداث في الشرق الأوسط لاسيما الحرب في سيناء، وكان لا يشرك وزير خارجيته عباس خلعتبري.([27])
يقول أسد الله علم: “في صباح يوم الجمعة 9 نوفمبر 1973م، ذهبت إلى قصر نياواران وقد ترك الشاه وزير الخارجية منتظرا بالخارج بينما استقبل وزير الخارجية الأمريكية هنري كسينجر وسفير الولايات المتحدة الأمريكية ولقد شعرت بالأسى لموقف هذا الرجل ودعوته إلى مكتبي للانضمام إلى السكرتير المساعد للولايات المتحدة جوزيف سيسكو حيث ناقشنا مشاكل الشرق الأوسط قبل تناول الغداء.
وقال سيسكو: “إن مصر وإسرائيل قد وافقتا على صيغة لفض الاشتباك من ستة نقاط وسيتم الإعلان عنها الليلة”.
وأضاف أسد الله علم نقلا عن سيسكو: “إن الإسرائيليين قاوموا بشدة الرضوخ لمجهودات كسينجر في جولته المكوكية الدبلوماسية ومن الواضح أنه هو وكسينجر قد ناموا أقل من ثلاث ساعات في الثلاثة أيام الماضية”.([28])
ونستخلص مما سبق عدة حقائق أهمها:
- أن الشاه رفض تحقيق المطالب العربية بإغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران والذي تقدم به السفير السعودي لدى إيران نيابة عن السفراء العرب في الخامس من نوفمبر عام 1973م، كما رفض مطلبا آخر بمنع خطوط شركة العال الإسرائيلية للطيران المدني من استخدام المجال الجوي الإيراني، الذي تقدم به السفير اللبناني.
- أن الشاه استجاب لطلب إسرائيل بشأن إعادة قسم من المدافع والذخائر والأجهزة الإلكترونية التي كان قد اشتراها مؤخرا من إسرائيل والولايات المتحدة.
- رفض الشاه كذلك محاولات أمريكية بشأن تسليم إسرائيل طائرات الفانتوم من إيران كتعويض عن طائراتها التي فقدتها في الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973م، خشية أن يؤثر ذلك على محاولات الشاه التقرب إلى العالم العربي، فضلا عن خشيته من تأثير ذلك على الشعب الإيراني إذا تسرب خبر تسليم هذه الطائرات إليه.
- رفض الشاه حظر البترول الإيراني على الغرب بعد اندلاع حرب رمضان كما فعلت الدول العربية.
- قامت الطائرات الإيرانية بنقل فوج مشاة سعودي وتجهيزات عسكرية إلى الجولان وحملت الطائرات نفسها الجرحى لدى عودتها لتلقي العلاج في طهران.
- رفض السماح بعبور متطوعين يهود من أستراليا إلى إسرائيل عبر الأراضي الإيرانية.
- في الوقت ذاته رفض مرور الطائرات الحربية السوفيتية إلى الجبهة العربية عبر المجال الجوي الإيراني.
- كانت إيران ترسل إمدادات طبية على مدار أيام حرب أكتوبر إلى مصر ونقلت فيما بعد عددا من الجرحى والمصابين لتلقي العلاج في طهران.
وما سبق يشير إلى أن الشاه كان يفعل الشيء ونقيضه في علاقاته المصرية والإسرائيلية فلم يقف بثقله إلى جانب صديقه الرئيس المصري محمد أنور السادات، كما لم يتخل عن أصدقائه في تل أبيب ولم يوقف الدعم المعلوماتي عن الولايات المتحدة الأمريكية، أي إنه كان يلعب على كل الحبال.
رابعا: الرفض الإيراني لحظر النفط عن الغرب وأثره في حرب أكتوبر
أدرك الشاه أن ثمة محاولات لإيجاد علاقة بين مسألة الحظر البترولي وبين مدى استجابة إيران لذلك، بوصفه مطلبا عربيا كمدخل لقياس مدى جدية تضامن طهران مع القضية العربية. وهو مدخل كان الشاه يرفضه بإصرار نظرا لأنه كان شخصيا يفصل بين أمرين في سياسة بلاده الخارجية: الشأن الاقتصادي والشأن السياسي.([29])
وعندما كان الشاه يُسأل عن سياسته التي تعطي العرب الحق في قضيتهم، وفي الوقت نفسه تبيع البترول لإسرائيل وهي عدوتهم، بما يعني أن ثمة ازدواجية تشوب قراره في هذا الشأن فكان يجيب بقوله: “البترول ملك لشركات البترول وهي التي تتولى تسويقه وبيعه لأي أحد تريده هي، بترولنا يذهب إلى كل مكان، فلماذا لا يذهب إلى إسرائيل؟ ثم ولماذا نقلق من ذهابه إلى إسرائيل؟”.
ولقد تبنت إيران موقفا رسميا محايدا في ظاهره خلال حرب العرب وإسرائيل عام 1973م، فمع أنها كانت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع إسرائيل، فإنها في الوقت نفسه كانت تأمل في تحسين علاقاتها مع الدول العربية، وتمثّل الموقف الرسمي الإيراني في دعم قرارات مجلس الأمن الدولي وحلّ الدولتين المستقلتين، مع الدفاع السياسي –على الأقل في الخطاب – عن حقوق الشعب الفلسطيني المظلوم، ومع ذلك، كانت إيران تحافظ على علاقات متينة مع داعمي إسرائيل، ولا سيّما الولايات المتحدة.
كانت إيران من قلة من الدول الإسلامية التي اعترفت رسميا بإسرائيل، لكنها سعت إلى إخفاء عمق علاقاتها الأمنية والسياسية مع تل أبيب خشية استياء الرأي العام الداخلي، فعلى الرغم من أن المواقف المعلنة لطهران بدت وكأنها تدافع عن الشعب الفلسطيني، فإن الأفعال العملية للنظام الإيراني آنذاك كانت تصبّ في مصلحة إسرائيل وحلفائها.
وفي أثناء الحظر النفطي العربي على داعمي إسرائيل، رفضت إيران المشاركة فيه، إذ كانت تسعى إلى دعم الولايات المتحدة والدول الغربية، وقد استفادت من تلك الصدمة النفطية الكبرى استفادةً هائلة؛ إذ ارتفع دخلها السنوي من تصدير النفط الخام (الذهب الأسود) من نحو 8 مليارات دولار عام 1973 (1352هـ. ش.) إلى أكثر من 21 مليار دولار عام 1974م، (1353هـ. ش.)، وهو مبلغ يُعدّ ثروة هائلة في ذلك الوقت.[30]
وفي يوم25 دي 1353هـ ش (الموافق 15 يناير 1975م) أعلن محمد رضا بهلوي رسميًا أن إيران لن تشارك في الحظر النفطي ضد الغرب، بل ستخصّص جزءًا من أرباحها النفطية لدعم الاقتصاد الغربي الأوروبي.
وبالرغم من أن طهران أطلقت حينها حملة دعائية واسعة لدعم قوة منظمة أوبك والتنديد بإسرائيل وحلفائه الغربيين، فإن نظام الشاه نفسه، الذي كان يقف وراء تلك الحملة، لم يتخذ أي خطوة فعلية لدعم الحظر، بل على العكس، زاد من إنتاجه النفطي بشكل غير رسمي وغير مسبوق، في محاولة سرّية لإبطال مفعول قرارات أوبك.
كما أنشأ الشاه خطا جويا بين طهران وتل أبيب لتقديم الخدمات الفنية للطائرات الإسرائيلية وتزويد المقاتلات الإسرائيلية بالوقود في مطار طهران، وهو ما اعتُبر من أبرز أشكال الدعم الذي قدّمه نظام الشاه لإسرائيل خلال حرب العاشر من رمضان.
ووفقا للصحافة الإسرائيلية والوثائق السرية للسفارة الأمريكية في طهران “لانه جاسوسي” (بالعربية: وكر الجواسيس)، فإن نحو 75% من النفط الذي استهلكته إسرائيل في أثناء حرب أكتوبر ــ أي قرابة150 ألف برميل يوميًا ــ كان مصدره إيران، وكان يتم نقل النفط عبر ناقلات تحمل علم ليبيريا إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وقد لعب شخصيات مثل العقيد يعقوب نمرودي، وإدموند روتشيلد، وآخرين دورًا أساسيًا في تطوير العلاقات السرّية بين طهران وتل أبيب.
وبالرغم من التعاطف السياسي الإيراني الظاهري مع العرب والخطاب الداعم لحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، فإن طهران تجنّبت تمامًا أي عمل عملي ضد إسرائيل أو حلفائها، بل على العكس، شهدت الاتصالات الأمريكية ــ الإيرانية حول أزمة الشرق الأوسط ازديادًا ملحوظًا بعد الحرب، فقبل زيارة الشاه إلى موسكو، دعا هنري كيسنجر الشاه إلى المساهمة في الجهود الدبلوماسية لإحلال السلام بين مصر وإسرائيل، وفي25 نوفمبر 1974، وبعد لقاء الرئيس فورد مع ليونيد بريجنيف في فلاديفوستوك، نقل كيسنجر إلى الشاه رسالةً تؤكد أن واشنطن تعتبر تكثيف الدبلوماسية في الشرق الأوسط أمرًا ضروريًا، وأنها تقرّ بوجوب أخذ الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في الاعتبار.
وردّ الشاه بطلبٍ من المسؤولين الأمريكيين أن يعيروا اهتمامًا خاصًا للاتصال بالرئيس المصري محمد أنور السادات، الذي كان قد أبدى استعداده للسلام مقابل انسحاب إسرائيل من أجزاء من سيناء، منها آبار النفط في أبو رديس، ورأى الشاه في ذلك “فرصة غير متوقعة”، إذ لم يكن أحد يتوقع أن يتقدّم السادات بهذه الخطوة.

الرئيس المصري محمد أنور السادات يتوسط شاه إيران محمد رضا بهلوي وقرينته الإمبراطورة فرح ديبا
وفي مقابلة مع مجلة لبنانية مستقلة، حذّر الشاه من أن على إسرائيل الالتزام بقرارات مجلس الأمن الخاصة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وإلا فإنها ستواجه حربًا جديدة مع العرب، مضيفًا أن “الحرب المقبلة ستكون حربنا جميعًا، ولن يكون لأيٍّ منّا خيار آخر”، وقد انعكست هذه التصريحات في الصحافة الأمريكية، ودفعت وزارة الخارجية الأمريكية إلى طلب توضيح رسمي من طهران حولها.
وردّت الحكومة الإيرانية بالقول “إن مساعدة الشاه لمصر لن تتجاوز ما قدّمه خلال حرب 1973، وستظل مقتصرة على الدعم السياسي والنفسي”. كما صرّح وزير الخارجية الإيراني عباس خلعتبري بأن إيران، رغم تعاطفها مع العرب، لن تدخل في حرب ضد إسرائيل.
وفي عام 1974، نشرت الصحافة اللبنانية تقارير تفيد بأن إيران تعتزم تزويد مصر بأنواع من الأسلحة وتدريب الطيارين المصريين، لكن طهران نفت ذلك على لسان خلعتبري مجددًا، وفي النهاية، دفعت التكهنات الصحفية المتكررة السفارة الأمريكية في طهران إلى تأكيد أن إيران لم تغيّر سياستها الحيادية تجاه الصراع العربي ــ الإسرائيلي، كما لم تتخل عن التزامها ببقاء إسرائيل، بل غيّرت نغمة خطابها فقط لتسهيل محادثات السلام.
واستنادًا إلى هذه السياسة، لعب الشاه لاحقًا دور الوسيط في اتفاقيات كامب ديفيد، وساهم في تقريب وجهات النظر بين مصر وإسرائيل وتشجيع الولايات المتحدة على المضي نحو سلام عربي ــ إسرائيلي.
وكان الشاه يأمل من وراء ذلك في تحسين موقعه في العالم العربي، وقد تمكّن في هذه الفترة من إبرام اتفاقية الجزائر مع العراق عام 1975م، ما ساعده على تهدئة جزء من الخلافات بين إيران وبعض الدول العربية.
خامسا: دور الشاه في مفاوضات فك الاشتباكين الأول والثاني بين مصر وإسرائيل
الحق أن الشاه لعب دورا بارزا في مفاوضات فك الاشتباكين الأول والثاني بين مصر وإسرائيل في إطار العمل مع الولايات المتحدة لوقف الحرب بين الجانبين. وتحدد دور إيران في إتمام فك الاشتباك الأول الذي تم توقيعه في 18 يناير 1974م، في أنه عندما أبدى العراق كثيرا من العناد في محاولته لتعويق فك الاشتباك أكد كسينجر للمفاوضين المصريين في القاهرة أنه لا يوجد مبرر للقلق “فالشاه سيتولى أمر العراق”.([31])
وبالفعل بعث كسينجر رسالة إلى الشاه وبعد عدة أيام أذاعت وكالات الأنباء رسالة صادرة من إيران تقول: “أعلن متحدث عسكري إيراني اليوم أنه قد قتل عديدون وجرح واحد وثمانون شخصا في اشتباك وقع على الحدود بين القوات الإيرانية والعراقية وأن القوات الإيرانية بدأت تحتشد على الحدود وأن وحدات من الطيران الإيراني قد اخترقت المجال الجوي العراقي”.([32])
وقد استمرت المناوشات الحدودية بين البلدين حتى مطلع مارس من العام نفسه بعد أن نجح السفير السوفيتي لدى العراق في الوساطة بين الجانبين.
وأتاح فك الاشتباك الأول الفرصة للبدء في تطهير قناة السويس وتطويرها وإعادة بناء ما دمرته الحرب خاصة في مدن القناة التي ساهمت إيران بحظ وافر فيه، وهو ما كان يعني في الوقت نفسه أن إيران تسعى لتحقيق مصلحتها أيضا؛ لأن تكلفة النقل البحري سواء المتجه من موانئها حاملة البترول أو إليها حاملة الواردات ستنقل بتكلفة أقل بكثير عما كانت عليه فى أثناء إغلاق قناة السويس.
ثم فرضت نتائج حرب أكتوبر مساحة أكبر للتحرك الدبلوماسي النشط بين إيران وإسرائيل من جهة وإيران ومصر من جهة أخرى. وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين بزيارة أحيطت بالسرية التامة إلى طهران في 6 ديسمبر 1974م، وانطوت على أهمية كبيرة من حيث أنها جاءت من بعد زيارته لواشنطن بحوالي 3 أشهر وأيضا قبل زيارة الشاه الرسمية الأولى للقاهرة في يناير 1975م.

صورة نادرة تجمع الشاه محمد رضا بهلوي ووزير بلاطه أسد الله علم بالملابس الملكية الإيرانية
واستعرض رابين مع الشاه على مدى ساعتين الأوضاع الدولية وتطورات الشرق الأوسط ومكانتهما الإقليمية كذلك قدم رابين تقريرا إلى الشاه حول زيارته لواشنطن ثم استعرضا احتمالات توقيع اتفاق جديد لفصل القوات في سيناء.
اللافت في المقابلة أن الشاه طلب من رابين أن يبدي مرونة أكثر تجاه الرئيس السادات والملك حسين. ورفض الشاه طلب رابين بتقديم إيران قرضا لإسرائيل بقيمة مليار دولار أسوة بما قدمته إيران لمصر، وهو ما دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى التأكد مما كان يتوقعه مسبقا وهو أن زيارته لن تؤدي للحيلولة دون ازدياد التقارب المصري ـ الإيراني.([33])
وفي تلك الأثناء التقى الرئيس المصري محمد أنور السادات بالأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود لبحث تطورات الموقف على جبهة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، غير أن اللافت في هذا الأمر أن الخارجية الإيرانية أبدت اهتماما ملحوظا بالتحركات المصرية في هذا الصدد وطلبت من السفارة الإيرانية في القاهرة إمدادها بتقارير عن الزيارة عن طريق الصحف أو عن طريق مصادر السفارة، ثم أرسلتها بدورها إلى جهاز المخابرات الإيرانية (السافاك)؛ ما يعكس اهتمام الشاه المتزايد بهذا الملف بالغ التأثير على اقتصاد إيراني النفطي.([34])
في بدايات يناير 1975م، أي بعد أقل من شهر من زيارة رابين لطهران ولقائه بالشاه وصل الأخير إلى القاهرة في زيارة رسمية معلنة للتباحث مع الرئيس المصري محمد أنور السادات حول نتائج لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي واستمع السادات إلى مجموعة من الأفكار حول إجراء جولة أخرى من المفاوضات حول مرحلة أخرى من التسوية المصرية ـ الإسرائيلية برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ضوء معرفة السادات بعمق العلاقات الإسرائيلية ـ الإيرانية طلب من الشاه ممارسة مزيد من الضغوط على الإسرائيليين قبل البدء في هذه المفاوضات، كما طلب منه أن يوقف استعمال إيران خط أنابيب إيلات ـ عسقلان الإسرائيلي.
ونجح السادات في تلك الزيارة في استخلاص موقف إيراني داعم لعقد مؤتمر جنيف بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك في أول خطوة عملية للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، وكان هذا الاستخلاص شديد الأهمية بالنسبة للعرب في صراعهم مع إسرائيل وذا دلالة بعيدة المدى لعلاقات الشاه الشخصية بالملك حسين ملك الأردن.
ونص البيان المشترك الصادر في ختام الزيارة يوم 12 يناير 1975م، على ضرورة تطبيق قرارات الأمم المتحدة تطبيقا كاملا، والخاصة بالانسحاب الشامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة، وتحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومنع إدخال أي تغييرات من جانب واحد على مدينة القدس، وعلى ضرورة الإسراع بعقد مؤتمر جنيف لإحلال السلام العادل والدائم في المنطقة بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية([35]) فيه بوصفها ممثلة شعب فلسطين.([36])
وبالفعل استجاب الشاه لمطلب مصر في مسألة الضغط الإيراني على إسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر، وفي إبريل 1975م، أبلغت طهران تل أبيب أنها ستوقف استخدامها لأنبوب إيلات ـ عسقلان وكان ذلك استمرارا لضغوط أخرى كانت قد بدأت قبل ذلك بعام تقريبا عندما عطل الشاه تنفيذ عقد نفطي مع إسرائيل بـ400 ألف طن، منها 130 ألف طن بالأسعار السابقة؛ أي 4 دولارات للبرميل، والباقي بالأسعار الجديدة وهي 17 دولارا للبرميل.
وقد أتت هذه الضغوط أكلها وحققت المراد منها بشكل كبير، ذلك أن الرئيس السادات أصر على ضرورة انسحاب إسرائيل إلى ممري متلا والجدي، وأن تخلي القوات الإسرائيلية أيضا حقول أبو رديس ولكن بما أن النفط الذي يستخرج من هذه الحقول كان يشكل جزءا مهما من استهلاك إسرائيل من الطاقة في ذلك الوقت، كانت استجابة تل أبيب مشروطة باستمرار تزويدها بالنفط الإيراني.([37])
وأثار الطلب الإسرائيلي غضب الشاه وقال في حوار نشرته شبكة CBS الأمريكية في فبراير 1975م: “أنا لست متبنيا لإسرائيل حتى أضمن لها نفطها، فحقول أبو رديس ليست ملكا لإسرائيل، وإنما ملك لمصر. والإسرائيليون استفادوا من هذه الحقول قدر استطاعتهم، وعلى أية حال فإن إسرائيل لن تحرم من النفط؛ ذلك لأن الشركات النفطية تستطيع أن تبيعه لها حتى لا تتعرض إلى نقص في هذا المجال ولكنها ستكون مضطرة إلى دفع ثمنه”.([38])
ومجمل القول في مسألة موقف الشاه من الصراع العربي ـ الإسرائيلي بوجه عام، والحرب العربية ـ الإسرائيلية بوجه خاص، تلك التي نشبت في ظهيرة السادس من أكتوبر عام 1973م، أنه اتبع سياسة إرضاء كل الأطراف، مع ميل نسبي إلى الموقف المصري الذي كان خطا إستراتيجيا لصديقه الرئيس المصري محمد أنور السادات، حتى وإن كان أعطى المصالح البراجماتية الاقتصادية النفطية أهمية كبيرة فيما يتعلق بمواصلة إمداد تل أبيب بالنفط.
ومرجع ذلك ـ في تصوري ـ إلى مخافته من أن ينتقص عدم إمداد طهران لتل أبيب بالنفط من الحصة الإيرانية العالمية من بيع النفط، وعودة تلك الحصة إلى دولة نفطية أخرى، وبالتالي تتضرر سمعته الدولية كإمبراطور للبترول في إقليم الشرق الأوسط.
وعليه يمكن القول إن الموقف الإيراني الرسمي تأرجح بين موازنة الشاه لمصالحه السياسية المتمثلة في ترجيح الموقف المصري ومصالحه الاقتصادية المتمثلة في حرصه على الفصل بين السياسة والبترول.
سادسا: علاقة شاه إيران محمد رضا بهلوي بالصهيونية العالمية
يرى الدكتور مصطفى رمضان أن الشاه كانت تربطه علاقة تعاونية مع الصهيونية العالمية.([39]) ويضيف أن خسارة إسرائيل من جراء سقوط الشاه أفدح من خسارة أي طرف آخر فقد كان يمدهم بالبترول، ويتبادلون معه المعلومات حول البلاد العربية. وكان حجم التجارة بين البلدين يصل إلى 400 مليون دولار سنويا. وكانت إيران عميلا جيدا في شراء السلاح من إسرائيل. وكانت سفارة إسرائيل في طهران عبارة عن قلعة، فقد كانت محاطة بالمتاريس ومزودة بأبواب حديدية، كما كان يوجد طريق للهرب في حالة الطوارئ عبارة عن سلم حديدي يؤدي إلى سطح المبنى، ومنه إلى مبنى مجاور يمكن النزول عن طريقه إلى شارع آخر، وقدم الإسرائيليون إلى الشاه بعض التقارير عن الوضع في إيران، ما يشير إلى حميمية العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية في عهد الشاه، الأمر الذي تم من خلاله متابعة ماهية العلاقات الثنائية ومدى تأثر الأطراف الأخرى بتلك العلاقة.([40])
ويعزي بشير عبد الفتاح المد والجزر في العلاقات المصرية ـ الإيرانية، إلى ـ بجانب حزمة من الأسباب ـ علاقة كل من البلدين بإسرائيل، فبينما أدى اعتراف طهران بدولة إسرائيل عام 1960م، إلى قطع مصر العلاقات معها، كان توقيع مصر معاهدة السلام مع الإسرائيليين عام 1979م، سببا رئيسيا في قطع إيران علاقتها مع مصر عام 1980م، وهو الأمر الذي يدلل على حيوية التركيز على العامل الإسرائيلي في تحليل سير العلاقات المصرية ـ الإيرانية.([41])
ويذهب هادي خسروشاهي إلى أن التوجه المصري نحو إسرائيل هو ما أدى إلى تدعيم العلاقات المصرية ـ الإيرانية، إذ رحب الشاه برغبة الرئيس السادات الذي كان يرغب في حل قضية الشرق الأوسط وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وتجلى هذا الترحيب بتوسيع العلاقات التجارية بين البلدين في تلك المرحلة، حتى إنه يمكن القول إن العلاقات المصرية ـ الإيرانية كانت في “عصرها الذهبي”.
ويكشف عن ما سبق الاتفاقات الاقتصادية السخية التي كانت تعقد بين البلدين، والقروض المهمة التي كان الشاه يقدمها إلى النظام المصري، وقد استفاد الأمريكيون من التقارب المصري ـ الإيراني لحض السادات على تسريع فتح باب التفاوض مع إسرائيل، حيث يقال إن هذه المسألة كانت من أهم المحاور التي دار الحديث حولها في اللقاء الذي جرى بين الشاه وكارتر أواخر عام 1977م.([42])
ولقد أثارت حرب أكتوبر والقدرة الفائقة التي أظهرتها القوات المسلحة المصرية في اجتياز قناة السويس دهشة طهران وحماسا بالغا في أوساط واسعة من الشعب الإيراني، كما أن عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على صد القوات المصرية في منطقة القناة، ألحقت ضررا بالغا بهيبة إسرائيل ومكانتها، ومن ثم اندلعت فجأة مشاعر العداء الكامنة في الرأي العام الإيراني، وبدأت وسائل الإعلام المختلفة تبرز الانتصارات العربية، كما جرت مظاهرات شعبية في مدن إيرانية كثيرة، تعبيرا عن فرحة الجماهير بالانتصار العربي.
وكان هذا الجو، يشكل بدوره وسيلة ضغط شديدة على الشاه، الأمر الذي جعله يتبع سياسة متوازنة بين طرفي النزاع، إذ لم ينجر إلى اتخاذ موقف قد يحسب على أنه ساند طرفا على حساب الطرف الآخر؛ الأمر الذي كان له مردودا إيجابيا على علاقات إيران العربية.([43])
وفي ضوء ما سبق، ومن خلال آراء الباحثين، ومذاهب الخبراء، وشهادات المعاصرين للشاه، تبين أهمية تناول العامل الإسرائيلي كعنصر دائم الحضور في معادلة توازن السياسات المصرية، والإيرانية، وكمحدد شديد الأهمية لسير العلاقات المصرية ـ الإيرانية، ورأينا كيف كان الشاه يحسب لإسرائيل ألف حساب في مسائل تعود على علاقاته بمصر، وتبين أن العلاقات بين البلدين لم تبلغ مداها إلا بمعالجة قادة البلدين ـ والرئيس السادات تحديدا ـ للمعضلة الإسرائيلية التي طفت ـ بدفع غربي أمريكي ـ على سطح الأحداث في المنطقة، وتنامت حتى احتلت العديد من الأراضي العربية؛ فأصبح لها تلك المكانة الإقليمية التي استطاعت من خلالها أن تؤثر بشكل أو بآخر على مسار العلاقات المصرية ـ الإيرانية، وهو الأمر الذي يعنينا في هذا البحث.
وكان الشاه حريصا على استرضاء مصر مهما حدث وهو ما يوضحه موقف حكاه أسد الله علم في مذكراته إذ يقول:
“في يوم الثلاثاء 17 إبريل 1973م، أخبرت الشاه بتغيير مضحك حدث الليلة الماضية ـ أي الإثنين 16 إبريل ـ في حفل استقبال في السفارة الباكستانية. فقد اقترب مني السفير المصري معبرا عن أمله في عدم دعوة إسرائيل للمشاركة في الألعاب الآسيوية المقبلة حتى لا تقاطع الدول العربية هذه الدورة. وحتى أتحاشى الرد عليه مباشرة أجبته: قديما قبل أن تكون هناك أية ألعاب كنا نتوقع أن يمسح العرب إسرائيل من على الخريطة وقد أدرك السفير الطبيعة الهزلية لعرضه وانفجر ضاحكا بقهقهته المشهورة. جلالته قد أعجبه ذلك ولكنه علق بقوله: “كان يجب أن تقول له ذلك أنه ليس لدينا وجهة نظر في هذه الدعوات فهي تتم عن طريق الهيئة الفيدرالية الدولية للألعاب”. وقد أوضحت له أنني أريد أن أكون بعيدا عن أي مجادلة حول هذه التفصيلات”.([44])
سابعا: تحليل شامل لموقف إيران من حرب أكتوبر وإدراك مصر له
إن أول سؤال يسأله الباحث “الحقيقي” لنفسه: هل يجب أن أردد الكلام التقليدي وأصدق ــ بحسن ظن ــ أحاديث المسؤولين، أم يتعين عليَّ إعادة البحث مرات ومرات في الروايات الأساسية التي تخص تاريخ بلادي في نطاق تخصصي؟! الإجابة: أن مهمة الباحث والمفكر هي إعادة التفكير في روايات التاريخ والبرهنة على ما يستجد من قناعات وحقائق والتدليل على ذلك بالطرق العلمية المنهجية.
فبالرغم من كل إنجازاته ودوره البطولي في ملحمة أكتوبر المجيدة؛ إلا أن الحقيقة تشير إلى أن الرئيس محمد أنور السادات، أوقعنا في مأزق تاريخي، حين تحدث عن دعم الشاه محمد رضا بهلوي لمصر في حرب أكتوبر، على خلاف الحقيقة التاريخية.
والرئيس السادات وهو سياسي واسع الحيلة، واستراتيجي فاق أقرانه في عصره، كان يعلم علم اليقين أن الشاه لم يساعد مصر في الحرب، وأنه ساعد إسرائيل وحاول منع هزيمتها، وأن المصريين وحدهم ــ مستمدين عون الله ــ هم من حققوا النصر من دون مساعدة من أحد.
لذلك من الواجب دائما على الباحث والمفكر سبر أغوار مواقف إيران تجاه القضايا الكبرى المتعلقة بتاريخ مصر العريق وبحاضرها؛ نظرا لأهمية طهران وثقلها الإقليمي على مر العصور، ونظرا لما سيترتب على تلك القضايا من اختلافات وصراعات.
بالبحث في فترة حرب أكتوبر كما هو موضح أعلاه اتضح أن الشاه محمد رضا بهلوي لم يلعب فيها أي دور مساند لمصر؛ بل إنه ساعد إسرائيل وواصل مدها بالنفط وباللوجيستيات ورفض رفضا قاطعا أن يستخدم النفط كأداة سياسية كما فعل ملوك الخليج الشرفاء الذين أوقفوا النفط عن العالم لحثه على وقف دعمه لإسرائيل.
كان الشاه يحتقر العرب بشكل عام ويشعر نحوهم بازدراء لا جدال فيه؛ لكنه مع مصر كان مختلفا؛ فقد كان يكره مصر كرها حقيقيا وعميقا؛ لأسباب يطول شرحها، وعند اندلاع معارك استرداد الشرف في ظهيرة العاشر من رمضان تمنى في أعماقه ألا تنهزم إسرائيل.
من يراجع مصادر تلك المرحلة ووثائقها يدرك أن الشاه تابع الحرب عن كثب؛ وكره أن ينتصر المصريون والعرب على حليفته إسرائيل، ووصل به الأمر أن قال لوزير بلاطه، أسد الله علم، عندما أخبره باندلاع عملية العبور: “يجب عليك أن تتأكد من أن إسرائيل لن تكون الخاسرة”.

النسخة الإنجليزية من مذكرات وزير البلاط الإيراني، أسد الله علم، السرية المنشورة بعد أن غادر إيران وحظيت بقدر بالغ من الاهتمام العالمي وترجمت إلى عديد من لغات العالم
إن واجبنا أن نعود إلى التاريخ ليس للتسلية؛ ولكن للتعلم من دروس الماضي والاستفادة منها في تحليل الحاضر واستقراء المستقبل، وعليه: من المهم التأكيد على أن حديث الرئيس السادات، عن دعم الشاه لمصر، كان هدفه رمي مقبلات ومشهيات إلى الشاه لجذبه إلى الموقف العربي المضاد لإسرائيل وإبعاده عن الأخيرة قدر الإمكان، ونجح السادات بعبقرية ودهاء شديدين في ذلك.
السؤال المحير الآن: إذن.. هل كان السادات ساذجًا للحديث بهذا الشكل عن الشاه، بل وتحمُل تبعات استضافته في مصر وخسارة علاقة مع دولة مهمة مثل إيران؟! الإجابة يطول شرحها ومختصرها: أن السادات فعل ذلك لأسباب وطنية برجماتية بحتة، ومنها رغبته في أن يتنازل الشاه عن ديون كانت مستحقة من مصر لإيران، كما رغب السادات في استلام صفقة دبابات من بريطانيا كان الشاه قد تعاقد عليها لتسليح الجيش الإيراني، ودفع ثمنها كاملا عام 1974 ولم يستلمها حتى قامت الثورة الإيرانية عام 1979.
الدليل على ذلك أن السادات استقبل الشاه في أسوان يوم 16 يناير 1979، فما هو أول أمر فاتحه فيه؟ الإجابة: فاتحه في موضوع صفقة الدبابات التي دفع الشاه ثمنها بشكل مسبق إلي الحكومة البريطانية لشراء 1500 دبابة من طراز “تشيفتين”، والتي كانت إيران بالفعل قد استلمت منها 185 دبابة فقط، وكان السادات يريد أن يقوي تسليح الجيش المصري بهذه الدبابات الـ1315 المتطورة، والتي بلغ سعرها يومئذ 400 مليون جنيه إسترليني.
وبالتالي فإن الحقيقة التاريخية هي أن إيواء السادات للشاه كان بدافع وطني برجماتي محض، بالرغم من معرفته العميقة بكره الشاه الچيني لمصر وللشعب المصري، إذ يشكل الشعب المصري بعراقته وبتحضره عقدة تاريخية في أعماق الشاه منذ فشل زيجته بالأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق. ودليل ذلك: أن الشاه وهو في أقصى مراحل هوانه وضعفه لم يوافق على طلب السادات باستلام مصر الدبابات نيابة عن إيران.
وقد روت الإمبراطورة فوزية ووالدتها أن الأسرة الپهلوية غير متحضرة وغير راقية وأنها أسرة محدثة نعمة، وكانت فوزية ــ سليلة الملوك ــ تتأفف من عدم نظافة سيدات العائلة، وبالأخص الأميرة/ شمس پهلوي شقيقة الشاه، وسلوكها الأخلاقي المشين، وتمَلَك فوزية شعورٌ بـ”القرف” من تلك العائلة؛ حتى طلبت من شقيقها الملك فاروق تطليقها من الشاه.
كما أن أحد أبرز أسباب تآمر الشاه ضد مصر وكرهه الدفين لها، يعود إلى موقف القاهرة الداعم لجبهات المعارضة الداخلية في عهد عبد الناصر، ودعم الأخير للخميني بالمال وتدريب مصر عدد من قادة المعارضة في أنشاص بمحافظة الشرقية، من بينهم مصطفى تشمران الذي سيؤسس الحرس الثوري بعد ذلك.
بالإضافة إلى أن من أسباب التآمر الإيراني ضد القاهرة هو موقف مصر الرافض تمام الرفض لاعتراف الشاه بإسرائيل على عهد عبد الناصر، ومن المفارقات أن طهران على عهد الخميني ستقطع علاقتها بمصر في مايو 1979 إثر معاهدة السلام في كامب ديفيد بين القاهرة وبين تل أبيب.
الحقيقة التاريخية الثابتة أن الشاه كان لا يريد لمصر أن تنهض من كبوتها؛ لأنه يعرف أن خروج مصر منتصرة من حرب أكتوبر المجيدة يعني عودتها بكامل عنفوانها إلى الإقليم، وبالتالي خسارة فورية مباشرة لحكمه، والأسباب بسيطة: مصر القوة العربية والإسلامية الأكبر التي حاربها في اليمن، ومن المؤكد أن نهوضها يمثل خصما فوريا من مكانة إيران التي كان موكلا إليها أمريكيا حماية الأمن في المنطقة.

النسخة العربية من مذكرات أسد الله علم وزير البلاط الإيراني والتي أماط فيها اللثام عن ما يدور بعقل الشاه في أوقات الأزمات الكبرى.
ثم إن الشاه أدرك جيدا أن آيات الله المناهضين لحكمه يحبون مصر ويتخذونها قدوة وطالما تلقوا الدعم منها، وفي حال انتصار مصر على حليفته إسرائيل سيعطي ذلك النصر قوة معنوية داخلية هائلة لهؤلاء رجال الدين الذين كانوا يعتبرونها – بتاريخها وبأزهرها الشريف – قبلة الإسلام بل وتخصص بعض منهم في الشؤون المصرية ومنهم علي خامنئي الذي سيصبح مرشدا في عام 1989، حتى الآن.
وكان الشاه يكره آيات الله؛ لأنهم يحثون الأمة الإيرانية على كراهية إسرائيل والدعاء للمصريين بالنصر في تلك الحرب، وقد فرحت أطياف الأمة الإيرانية بعد سماعها أخبار العبور، على خلاف هوى الشاه ورغبته ومصالحه الاستراتيجية مع هذا الكيان الصهيوني الذي يمثل قرحة في جسد الشرق الأوسط.
مجمل القول إن الشاه أدرك جيدا ــ وكان معه حق ــ مكانة مصر المحورية والمركزية عربيا وإقليميا؛ وسعى دائما إلى تحييدها إما بتطبيع العلاقات معها أو التآمر ضدها لصالح إسرائيل، ثم لعب دورٍ في التطبيع بين القاهرة وتل أبيب فيما بعد، للإيغال في إبعاد مصر عن محيطها العربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر:
[1] المباحث التالية مستقاة من كتاب “الاتحادية والپاستور.. العلاقات المصرية ــ الإيرانية من عبد الناصر إلى پزشكيان 1952 ــ 2025″ للدكتور محمد محسن أبو النور، جسور للنشر والتوزيع، ط2، 2025، القاهرة، ص181 وما بعدها.
[2] عليزاده، حسين علي، العلاقات الإيرانية المصرية، ترجمة: حامد، منى، بدون، ص134.
[3] عليزاده، المرجع السابق، ص134.
[4] عبد المؤمن، محمد السعيد، بحث بعنوان العلاقات المصرية ـ الإيرانية بين التواصل والتنافس من مجلة مصر والعالم، العدد الثاني يوليو 2010، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ص59.
[5] علم، أسد، الشاه وأنا، مذكرات وزير البلاط الإيراني، مكتبة مدبولي، ص375 و376.
[6] أسد علم، المرجع السابق، ص389.
[7] أسد علم، المرجع السابق، ص435.
[8] أسد علم، المرجع السابق، ص436.
[9] أسد علم، المرجع السابق، ص437.
[10] أسد علم، المرجع السابق، ص438.
[11] أسد علم، المرجع السابق، ص439.
[12] أسد علم، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[13] أسد علم، المرجع السابق، ص440.
[14] أسد علم، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[15] أسد علم، المرجع نفسه، ص442.
[16] كانوا سفراء دول: المغرب ـ مصر ـ الكويت ـ السعودية ـ لبنان.
[17] في إشارة إلى مؤتمر قمة دول عدم الانحياز الذي عقد بالعاصمة الجزائرية في الفترة من 5 حتى 9 سبتمبر عام 1973م.
[18] مذكرات أسد الله علم، المرجع السابق، ص443.
[19] مذكرات أسد علم، المرجع السابق، ص444.
[20] الصباغ، سعيد، العلاقات المصرية ـ الإيرانية، دار الشروق، ص46.
[21] أسد علم، مرجع سبق ذكره، ص444.
[22] أسد علم، المرجع السابق، ص445.
[23] كان وزير الخارجية في ذلك الوقت هو عباس علی خلعتبری، الذي عمل سفيرا لإيران في الاتحاد السوفيتي ثم وزير الخارجية في حكومة أمیر عباس هویدا (1971 – 1977م)، ثم أُعيد تعيينه في حكومة شاپور بختيار المؤقتة أواخر عام 1978م، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في فبراير 1979م، اعتُقل، ثم حُوكم من قبل المحكمة الثورية وأُعدم في 22 إبريل 1979م. / الباحث.
[24] استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية السكك الحديدية الإيرانية فى أثناء الحرب العالمية الثانية لإمداد الاتحاد السوفيتي بالمؤن والعتاد، ولذلك اشتهرت إيران بطريق النصر بعد أن فاز الحلفاء على المحور في هذه الحرب. / الباحث.
[25] أسد الله علم، مرجع سبق ذكره، ص446.
[26] أسد علم، المرجع السابق، نفس الصفحة.
[27] عباس علي خلعتبري ويكتب لقبه في المعاجم العربية بالهجاء التالي: خالاتبارى وهو دبلوماسي إيراني أشتهر بأدواره السياسية البارزة في عهد الشاه، وهو من مواليد عام 1912م، لأسرة إيرانية ميسورة، وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية من باريس عام 1936م، ثم الدكتوراه في القانون من باريس عام 1938م، وعمل بالخارجية الإيرانية وتدرج في دولاب العمل بها حتى أصبح أمينا عاما لحلف بغداد من يونيو 1962 حتى يناير 1968م، ثم شغل منصب وزير الخاريجة الإيرانية في الفترة الواقعة من عام 1971م، حتى 27 أغسطس 1978م، وتوفي بطهران يوم 11 إبريل بالعام 1979م. المصدر/ الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإيرانية على الإنترنت، سبق ذكره.
[28] أسد الله علم، مرجع سبق ذكره، ص447.
[29] الصباغ، مرجع سبق ذكره، ص47.
[30] جنگ 1352 اعراب و اسرائیل و موضع حکومت وقت ایران، روزنامه هم ميهن، سه شنبه ۱۸ مهر ۱۴۰۲ هـ. ش. لینک: https://bit.ly/3VT2zX7
[31] الصباغ، المرجع السابق، ص48.
[32] تقرير بثته وكالة رويترز للأنباء في شهر يناير من العام 1974م.
[33] الصباغ، مرجع سبق ذكره، ص49.
[34] وثيقة من وزارة الخارجية الإيرانية موجهة لجهاز السافاك الإيراني أو وزارة الأمن والمعلومات حول لقاء الرئيس السادات بالأمير فهد بن عبد العزيز آل سعود وتطورات الموقف في الصراع العربي ـ الإسرائيلي محفوظة برقم 6 ـ 61 بتاريخ 26 سبتمبر 1974.
[35] مراسلات بين وزارة الخارجية الإيرانية في طهران وسفارتي إيران في القاهرة وبيروت حول منظمة التحرير الفلسطينية PLO بتاريخ 26/9/1354 الموافق 22 نوفمبر 1975 محفوظة في وزارة الخارجية الإيرانية تحت رقم 4013.
[36] الصباغ، مرجع سبق ذكره، ص50.
[37] الصباغ، مرجع سبق ذكره، ص50.
[38] السابق، ص50.
[39] رمضان، مصطفى محمد، المسلمون في آسيا الوسطى وإيران، دار أبو المجد للطباعة بالهرم، 1994، ص123.
[40] السابق، ص136.
[41] عبد الفتاح، بشير، أستاذ، العلاقات المصرية ـ الإيرانية.. تطبيع للقطيعة، بحث من كتاب إيران ـ مصر، مقاربات مستقبلية، سبق ذكره، ص197.
[42] خسروشاهي، مرجع سبق ذكره، ص24.
[43] الصباغ، المرجع السابق، ص46.
[44] أسد علم، المرجع السابق، ص 390.