في أحدث حلقة من برنامجه على يوتيوب “رُك” (بالعربية: الصراحة) توجه مقدم البرنامج مجيد واشقاني إلى صادق زيباکلام، الذي يُعَدّ أحد أكثر الأساتذة في مجال العلوم السياسية إثارةً للجدل وحضورًا إعلاميًا، وذلك ليضع آراءه حول موضوعات مختلفة مثل القوة الصاروخية الإيرانية، والملف النووي للبلاد، وموقفه من الإمبريالية والسلطة الشمولية الغربية، موضع نقاش وتحد أمام الرأي العام الإيراني.
وبالنظر إلى ردود الفعل المنتشرة في الفضاء الافتراضي حول هذه المقابلة، يمكن القول إن واشقاني قد نجح في تحقيق هذا الهدف.
إن البرامج الحوارية – أو كما يطلق عليها في الغرب “التوك شو” – تنتج بهدف محدد يتمثل في إثارة الجدل، والتعليق على القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وذلك بغية جذب المشاهدين وتسليتهم.
لقد استمرت تقاليد إنتاج مثل هذه البرامج في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ زمن بعيد، واستطاعت رغم تغيّر الأجيال والأذواق أن تحافظ على حضورها، لأن الناس لا يزالون يهتمون بمعرفة كيف يفكر المشاهير تجاه مختلف القضايا، لكن، كيف هو الوضع عندنا في إيران؟
إنّ ظهور وانتشار البرامج الحوارية الإيرانية داخل البلاد – وليس في أوساط الجالية الإيرانية في أمريكا – بالشكل المتعارف عليه في الغرب ليس أمرا شائعا، إذ لم يمرّ على وجودها في وسائل الإعلام سوى بضع سنوات.
وغالبا ما تكون هذه البرامج من حيث الفكرة، والنبرة، وأسلوب التنفيذ مجرّد نسخ مقلَّدة من التوك شو الأمريكي، لكنها – باستثناء أمثلة قليلة – لم تلقَ النجاح الجماهيري المتوقع، وذلك بسبب الاختلافات الثقافية والتشدد الذي يفرضه التيار الإعلامي الرسمي في البلاد.
وسأتطرّق لاحقًا إلى برنامج “رُك” وحوار مقدّمه مجيد واشقاني مع صادق زيباکلام بوصفه أحد الاستثناءات المحتملة، غير أنّ غياب العلاقة الشعورية بين جمهور الترفيه وهذه البرامج الحوارية يمكن تفسيره بكون هذا النمط من البرامج لم يترسّخ بعد في التقاليد الإعلامية الإيرانية، إلى جانب الحرص الشديد على ما يُعرف بـ”سمعة” الأفراد وكرامتهم الاجتماعية.
فالثقافة الشرقية المتسامحة تميل إلى تجنّب طرح القضايا التي قد تُعدّ غير ملائمة للفرد أو الأسرة أو المجتمع، ولذلك تمنح لنفسها الحق في تأجيل إنتاج مثل هذه المواضيع على الأقل في الإعلام الوطني، وتلجأ في الحالات النادرة – مثل برنامج “شب خوش” الذي يقدمه مهران غفوريان – إلى فرض المحتوى المقبول اجتماعيا على قالب البرنامج الحواري.
وفي ظل هذه الظروف، تصبح هذه البرامج بلا جدوى حقيقية، فلا فرق عند المشاهدين بين وجودها أو غيابها. وبعبارة أخرى، فإن نجاح البرامج الحوارية مرهون بفهمٍ جديدٍ للبُنى الإعلامية الحديثة، وبالتحرّر من القيود المفروضة على مضمونها.
وبما أنّ المتطلبات اللازمة لتحقيق ذلك لم تتوافر بعد في المؤسسة الإعلامية الرسمية، فإنّ البديل الحقيقي لمشاهدة برنامج حواري محترم ومُتقن ينبغي أن يُبحث عنه في المنصّات الإلكترونية وأوساط البثّ عبر الإنترنت مثل “يوتيوب” و”أپارات”.
ولهذا السبب تحديدًا، فإنّ إنتاج وبثّ برامج مثل “باضیا”، و”اکنون”، و”رُك” لم يغب عن أنظار المشاهدين الواعين، بل استطاع أن يجذب انتباههم ويتفاعل معهم، فهذه البرامج، على الرغم من الملاحظات البنيوية عليها، نجحت في مواكبة روح العصر، وقدّمت استجابة جزئية لرغبة المجتمع الإيراني في الترفيه، فأدخلت على الجمهور شيئًا من المتعة والنشاط، ولو لوقتٍ قصير.
ولكن ما الذي يجعل المُشاهِد العادي ــ الذي لم يقع بعد تحت سحرية الإعلام الغربي ــ يختار في المواجهة الثنائية بين واشقاني وزيباکلام الطرف الأول، ولا يُعير الطرف الثاني – المتخصّص في الشؤون السياسية الداخلية والخارجية – أهميةً تُذكَر؟!
الخطأ الجوهري الذي ارتكبه أستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران خلال حواره مع المقدم التلفزيوني، هو أنّه حاول تبرير آرائه داخل ملعب واشقاني، غير أنّ خصمه لم يكن من النوع الذي تهزه رياح كهذه أو يتراجع أمامها، فثبت في مكانه ولم يُفسح المجال لزيباکلام ليُسيطر على الحوار.
إنّ المحور المركزي في خطاب زيباکلام، في كل مقابلاته مع وسائل الإعلام على اختلاف توجهاتها – من اليسار إلى اليمين، ومن المحلية إلى الدولية – كان دائمًا كلمة واحدة يكرّرها كالببغاء وهي “الديمقراطية”، ولو أردنا تلخيص كامل مشروعه الفكري في كلمة واحدة، فلن نجد غير هذه الكلمة التي تبدو جميلة في ظاهرها، لكنها في باطنها خادعة ومجرّدة من المضمون الحقيقي.
في المقابل، كان واشقاني أكثر وعيًا بموضوع الحوار، إذ امتلك فهمًا واقعيًا للأحداث الجارية، واستطاع من خلال أسئلته الجريئة والذكية أن يضع زيباکلام في زاوية ضيقة، مُعيدًا رسم صورة الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل أمام جمهوره بصورة جديدة، بعيدًا عن التشويش الذي تمارسه وسائل الإعلام الفارسية الناطقة من الخارج، مثل “بي بي سي”، و”إيران إنترنشونال”، و”يورونيوز”، وغيرها.
لقد أتاح لهم أن يشاهدوا المشهد كما هو في الواقع، لا كما تُريد تلك الوسائل أن يروه.
ومع ذلك، ينبغي القول إنّ كلا من مجيد واشقاني وصادق زيباکلام ينتمي إلى عالم ثقافة الشهرة، ويعرفان جيدا كيفية التعامل مع وعي الجمهور، إلا أنّ الفارق الجوهري بين الممثل والمقدّم في برنامج “رُك“ وبين مؤلف كتاب “الغرب كيف أصبح غربًا؟ يكمن في أنّ واشقاني دافع عن القدرات الصاروخية الإيرانية خلال الحرب الاثني عشر يومًا، بينما كرّر زيباکلام، من منظورٍ عفا عليه الزمن، نفس الحديث القديم عن المجتمع المفتوح والديمقراطية.
من الواضح أنّ المشاهد، في مثل هذه المواجهة، يميل إلى جانب الشخص الأكثر درايةً بموضوع النقاش، ما يجعل المجال يضيق أمام الآخر، ففي هذه الحالة، انتصر واشقاني في المعركة الفكرية أمام شخصية أكاديمية متغربة، لأنه استدعى الذاكرة البصرية للمشاهد، وربط كل كلماته وعباراته بالواقع الملموس للمعركة الأخيرة.
أما حديث زيباکلام وإشاراته، فبعد مرور أربعة أشهر على تلك الأيام، لم يختلف في شيء عمّا يقوله منذ سنوات طويلة في محاضراته ومناظراته، ولهذا السبب لم يكن لديه ما يقوله جديدًا أمام ممثلٍ لا يدّعي التخصّص في العلوم الإنسانية، فاستطاع الجمهور بسهولة أن يقرأ ما وراء كلماته.
لقد أظهر الخطاب البلاغي لواشقاني، القائم على الاستعانة بعالم الصورة والتمثيل ضمن الحرب الناعمة، فاعلية كبيرة، وهو ما ينبغي على باقي وسائل الإعلام الصغيرة أن تسير على خطاه بسرعة، نظرًا لغياب الفهم العميق لمفهوم الحرب الناعمة وأهميته.
لكن لا ينبغي في الوقت نفسه إغفال خطر الإفراط في الاعتماد على الجانب الاستعراضي للحوار، أو تعزيز ثقافة الشهرة، إذ قد يؤدّي ذلك إلى تأجيل الفعل السياسي الحقيقي في المجتمع الإيراني، وتحويل السياسة إلى سلعة للاستهلاك الجماهيري، خاصة في ظل البرامج السابقة التي سعت إلى جذب الجمهور عبر استنزاف الأفكار إلى أقصى حد.
وبغضّ النظر عن هذه الملاحظات، فإنّ مقابلة مجيد واشقاني مع زيباکلام أظهرت إلى أي مدى أصبح الأساتذة الجامعيون الميالون إلى الغرب عاجزين فكريًا، إذ يفتقرون إلى أيّ فهم واقعي أو حتى نقدي لصعود القوة الإيرانية في ظل مركزية مفهوم الأمن القومي، ولا يملكون سوى التعليقات الساخرة والتلميحات الجوفاء لمحاولة تمرير خطابهم، وتفتيت وعي المجتمع الإيراني.
ــــــــــــ
ترجمة لمقالة في جريدة “فرهيختگان” الأصولية بعنوان “بیچاره آکادمی” (بالعربية: الأكاديمية المسكينة)، نشرها الصحفی، إیمان عظیمي، يوم السبت ۱۲ مهر ۱۴۰۴ هـ. ش. الموافق، ٤ أكتوبر 2025.
