تسببت بريطانيا في مأساة تاريخية على أراضي فلسطين منذ سعيها لتقويض الحكم العثماني، مرورًا بإعلان وعد بلفور الذي أغفل حقوق الشعب الفلسطيني وإرادته، بعد أن عاش على أرضه يحلم بإقامة دولته المستقلة، ومنذ عام 1917 حتى عام 1948م كانت هناك منطقة في الشرق الأوسط تسمى “فلسطين” تقع تحت السيطرة البريطانية، بعدما نجحت بريطانيا في إسقاط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، بتأثير القوة العسكرية للجنرال البريطاني “آلانبي” الذي احتل أراضي فلسطين، وبعدها أعلنت بريطانيا أن الشعوب العربية ستكون قادرة على تحديد مصيرها بعد “تحريرها” من الحكم العثماني.
أهمية إستراتيجية
لكن بريطانيا كانت تنظر إلى المنطقة بنظرة أخرى، إذ اعتبرت بريطانيا أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها ذات أهمية استراتيجية كبيرة لسببين هما:
أولا: وفرة النفط.
ثانيا: وجود قناة السويس، التي يمكن من خلالها السيطرة على طريق الملاحة البحرية إلى الهند.
وهو ما دعا بريطانيا في ذلك الوقت لنزع السيطرة العثمانية عن المنطقة وإخضاعها لسيطرتها.
وما ساعد في ذلك التحريض البريطاني للحكومات العربية آنذاك للثورة على الحكم العثماني، وهو ما دفع اللورد هنري ماك ماهون، ممثل الحكومة البريطانية في مصر، لأن يبعث برسالة إلى حاكم مكة “الشريف حسين” يطلب منه الثورة على الحكم العثماني بدعم بريطانيا مقابل السماح بتأسيس حكومة عربية مستقلة، حيث ساهم الجنرال لورانس في دعم الثورة العربية ضد الحكم العثماني وهو ما تحقق بالفعل.
وفي عام 1916م تم التوقيع علي اتفاقية سرية بين بريطانيا وبين فرنسا، والتي بموجبها ستكون سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، والعراق والأردن تحت الحكم البريطاني، واقترح في ذلك الوقت أن تكون فلسطين تحت الرقابة الدولية، وهو الحدث الذي مهد لكارثة لاحقة عام 1917، حين كتب وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور رسالة إلي اللورد روتشيلد أحد قادة اليهود، أكد خلالها أن حكومة المملكة البريطانية تدعم استيطان اليهود في فلسطين بشرط احترام الحقوق الاجتماعية والدينية لغير اليهود في هذه المنطقة، إلا أن الهدف الأساسي لرئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت لويد جورج أن يضيف إسرائيل إلى خريطة العالم بدوافع إستراتيجية بعيدة المدى.
وعلى الرغم من أن فلسطين في ذلك الوقت كان 90% من سكانها عرب، ومع اختلاف اللغة والثقافة بين العرب وبين اليهود، إلا أن أهمية إقامة دولة يهودية في فلسطين، كان هدفًا فاق رغبة وإرادة الشعب الفلسطيني.
خديعة بريطانية
وفي الوقت الذي اجتمع فيه زعماء الغرب في باريس لإجراء محادثات سلام بعد تظاهرات شعب فلسطين، أرسل الشريف حسين ابنه فيصل إلى باريس للتأكد من أن بريطانيا لن تنسى وعدها بتكوين حكومات عربية مستقلة، لكن كانت أعلنت عصبة الأمم في ذلك الوقت تسليم السيطرة على فلسطين إلى بريطانيا، وألزمت الحكومة البريطانية بتنفيذ وعد بلفور بشأن تشكيل حكومة وطنية لليهود.
قام الفلسطينيون بالتظاهر احتجاجا علي بيان بلفور وطالبوا بتنفيذ التعهدات التي قطعتها بريطانيا وفرنسا في عام 1918م، وبعد سلسلة من المفاوضات والمشاورات اعتقد كل من العرب واليهود أن بريطانيا قد تنازلت لهم عن فلسطين، واعتبر كل طرف أن الأرض الفلسطينية أصبحت ملكه بتعهد بريطاني.
لكن اتساع نفوذ العصابات اليهودية وزيادة الهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين جعل العرب يدركون أنهم خدعوا ونظموا تظاهرات حاشدة عام 1920م وبعد بضع سنوات من السلام في عام 1929م، اتخذ الصراع بين العرب واليهود شكلًا عنيفًا بعدما قتل 133 يهوديًا و116 عربيًا خلال المواجهات بين الجانبين، وفي خلال هذه الفترة، واصلت العصابات الصهيونية نشاطها لتنفيذ وعد بلفور من خلال تشكيل البرلمان والمؤسسات الحكومية، ووضعوا العرب أمام الأمر الواقع.
حقوق العرب
في الثلاثينيات من القرن العشرين ومع تزايد الضغوط على اليهود في ألمانيا النازية، زادت هجرتهم إلى فلسطين، وأدرك العرب حقيقة أنهم يخسرون وطنهم، ما جعلهم ينتفضون في عام 1936 ضد اليهود والجيش البريطاني، حيث تعامل الجيش البريطاني بمساعدة الميليشيات الصهيونية بوحشية، وتمكنوا من السيطرة على الوضع.
وفي عام 1937، قدمت بريطانيا اقتراحًا لفصل مناطق مستقلة للعرب عن مناطق اليهود، وهو الاقتراح الذي رفضه مفتي القدس أمين الحسيني، معتبرًا أن ذلك تنازلًا عن أراضي فلسطين لليهود، ما دعا بريطانيا لأن تعود إلى مقترح إدارة فلسطين بشكل مشترك من قبل العرب واليهود كدولة واحدة لمدة 10 سنوات، مع فرض قيود علي عدد من المهاجرين اليهود والأراضي التي يمكن منحها لهم.
عارض الرأي العام اليهودي بشدة هذا الاقتراح واعتبره خرقاً للعهد البريطاني؛ لكن على الرغم من هذه المعارضة، فرضت بريطانيا، خلال الحرب العالمية الثانية حدًا لعدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين وفي فبراير 1947 أعلن وزير الخارجية البريطاني في ذلك الوقت إرنست بوين أن بلاده تعتزم إحالة قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث أعلنت الأمم المتحدة تبنيها لمبدأ “حل الدولتين” الذي عارضه العرب أيضًا، لكن الأوان قد فات بعد أن أعلنت إسرائيل في 14 مايو 1948م، وجودها كدولة يهودية، واعترفت بها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية على الفور، واضطر أكثر من 60% من العرب الفلسطينيين إلى النزوح والهجرة القسرية، وبدأت المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ ذلك اليوم حتى الآن.
خاتمة
جملة ما أعلاه أن بريطانيا كانت تستهدف منذ أكثر من قرن كسب تأييد عرب المنطقة من جهة ويهود العالم من جهة أخرى في التغلب على الإمبراطورية العثمانية، ووعدت كلا الجانبين بدعم تشكيل حكومة مستقلة من جهة، فيما زرعت بذور الفتنة في المنطقة من جهة أخرى، واليوم وبعد أكثر من قرن يستمر هذا الصراع ويتسبب بين الحين والآخر في كارثة واسعة النطاق.
ـــــ
(*) المادة المعلوماتية والتحليلية في المقالة مستقاة من مقالة للكاتب والباحث الإيراني الدكتور هاشم أورعي عضو هيئة التدريس في جامعة شريف للتكنولوجيا وهيئة تحرير مجلة عصر برق الفصلية، بعنوان “فلسطین، از جنگ جهانی اول تا جنگ غزه”، ويعني “فلسطين من الحرب العالمية الأولى إلى حرب غزة”، يوم ١١ آذر ۱۴۰۲ هـ. ش. الموافق 2 ديسمبر 2023.