لقد كان البحتري بليغاً في وصفه الربيع بقوله (أتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكاً مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَـلَّما)، وربطه بعيد النيروز (نوروز) المقدس لدى الإيرانيين، حين قال: (وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُــــــــوَّما)، وفي ذلك إشارة إلى أهمية الربيع للإيرانيين من جهة بداية عامهم الجديد في هذا الفصل من السنة.
ولقد اكتسبت مفردة (الربيع) بعداً سياسياً عندما طرأت على المنطقة العربية موجة ما يسمى بـ”الربيع العربي” التي حدثت في بعض البلدان العربية ابتداء من نهاية عام 2010م، ومنذ ذلك الوقت وأعين المراقبين والمختصين تتجه إلى إيران؛ نظراً لما ظهر في إيران من الظروف نفسها التي تسببت في أحداث الربيع العربي تلك، والتي أدت إلى حدوث تغيير جذري في البلدان التي وقعت فيها، وقد تردد السؤال كثيراً: متى يحل الربيع في إيران ويختال ضاحكاً؟!
ربيع إيران في قرنين
لقد شهدت إيران في القرنين التاسع عشر والعشرين عدة ثورات وانتفاضات كان من أبرزها نجاح الثورة الإيرانية عام 1979م، وتوفرت عناصر لدعم هذه الثورات، كان من أبرز تلك العناصر ما تمثل في دور رجال الدين في توجيهها ودعمها، ومن ذلك ما حدث في عام (1890م) عندما تصاعدت ثورة التنباك (التبغ) بسبب تقديم الحاكم القاجاري (ناصر الدين شاه) امتيازاً لشركة بريطانية يمنحها احتكار تجارة التبغ الإيراني؛ ما أدى إلى استياء التجار والمواطنين وتصاعد احتجاجهم ضد منح هذا الامتياز، والتعبير عن ذلك من خلال الانتفاضة التي دعمها رجال الدين في ذلك الوقت وعلى رأسهم آية الله ميرزا محمد حسن الشيرازي الذي أصدر فتواه الشهيرة بتحريم التنباك، باعتبار أن التدخين واستخدام مشتقات التبغ هي من محاربة الإمام المهدي، واستجاب الإيرانيون لهذه الفتوى بالتوقف عن التدخين بكل أشكاله، وامتنعوا عن استعمال التبغ وحطموا الأراجيل، ووصلت هذه الفتوى مداها إلى حد أن زوجات الشاه وخدمه في قصره توقفوا عن التدخين، وامتنعوا عن تقديمه له.
وفي عام (1905) تصاعدت الثورة ضد الحاكم القاجاري (مظفر الدين شاه) نتيجة سوء الأوضاع الاقتصادية، وتطورت المطالبات الشعبية بإصلاح الوضع الداخلي وسن دستور للبلاد وتأسيس مجلس برلماني، وكان لرجال الدين كذلك دور بارز في نجاح هذه الثورة التي أدت إلى استجابة الشاه القاجاري لتلك المطالب بإصداره فرماناً بتنظيم الحياة البرلمانية في إيران، والموافقة على إنشاء مجلس برلماني عقد أول جلساته عام 1906م.
وفي عام 1951م وصل الدكتور محمد مصدق إلى رئاسة مجلس الوزراء في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وتبنى ما كان يطالب به في السابق من إعادة النظر في اتفاق امتياز (دارسي) الذي حصل عليه (وليام نوكس دارسي) بريطاني الجنسية من الشاه القاجاري مظفر الدين شاه عام 1901م، وقد تضررت إيران من هذا الامتياز باستحواذ الشركة الأنجلو ـ فارسية بالثروات النفطية الإيرانية، وقد أعلن مصدق عام (1951م) عن مشروع تأميم النفط الإيراني، وكان يدعمه في ذلك رجال الدين وفي مقدمتهم (آية الله كاشاني).
ومع ما شهدته إيران في السنوات التي تلت الانقلاب على مصدق عام 1953م من مشاريع حكومية لإصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي كان من أبرزها الثورة البيضاء التي نادى بها الشاه محمد رضا بهلوي عام 1963م، وكان يهدف من ورائها إلى رفع مستوى الشعب الإيراني اجتماعياً واقتصادياً؛ إلا أن دور رجال الدين كان بارزاً في مناهضة هذه الإصلاحات، وتصاعدت الاحتجاجات ضده عندما تزعم آية الله الخميني المطالبات الشعبية وخروج المسيرات والمظاهرات المناوئة لنظام الشاه، والتي تطورت إلى المطالبة برحيل الشاه ونظامه.
دور رجال الدين
مما تقدم نلحظ أن هناك عنصراً داعماً لتلك الأحداث تمثل في دور رجال الدين البارز في مساندة الجماهير الشعبية في إيران ودعم مطالبهم وثوراتهم؛ لكن الغريب في الأمر هو عندما يحل هذا العنصر المناصر والداعم محل الحاكم الذي كان الشعب يطالب برحيله، فما سوف يكون عليه الوضع والمآل؟
عندما شهدت إيران نجاح ثورة شعبها عام 1979م سعى التيار الديني بزعامة الخميني إلى الاستحواذ على السلطة ومنع التيارات والأحزاب الأخرى من المشاركة فيها، وبالرغم من أنها كانت شريكة قوية في انتصار الثورة الإيرانية، إلا أن هذا التيار قام بإقصائها من المشاركة في السلطة؛ بل وتعدى الأمر إلى ممارسة أوجه القمع عليها، وانتهى المطاف إلى أن أسس رجال الدين بزعامة آية الله الخميني نظامهم الذي أطلقوا عليه اسم (الجمهورية الاسلامية في إيران).
لم يقف الشعب الإيراني عاجزاً أمام سلطة نظام الجمهورية؛ إذ واجه النظام الجديد انتفاضات منذ سنواته الأولى، فقد خرجت مسيرات احتجاجية ضد فرض الحجاب على النساء عام 1979م؛ إلا أن الإجراءات المشددة التي مارسها نظام الجمهورية حالت دون التأثير عليه، وأتبع النظام ذلك بفرض الثورة الثقافية عام (1980م) التي أطلق عليها الخميني وصف الثورة الثانية والتي استمرت إلى عام (1987م)، شهدت إيران خلال ما أشبه بحالة اجتثاث من جميع مؤسسات الدولة الإدارية والثقافية والجامعات والجيش لأفراد المجتمع الإيراني ممن يُشك في أنه يحمل توجهاً مخالفاً لمبدأ ولاية الفقيه، أو ممن يُتهم بموالاته لنظام الشاه.
كانت أقوى مظاهر الاحتجاج التي حدثت في إيران ما حدث في عام 2009م، عندما أُعلن عن فوز الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد في الانتخابات التي شارك فيها طيف كبير من مؤيدي التيار الإصلاحي لدعم مرشحيه مير حسين موسوي ومهدي كرّوبي اللذين كانا واثقين من فوز حركتهما المسماة الحركة الخضراء؛ إلا أن مؤيدي هذه الحركة تفاجؤوا بفوز أحمدي نجاد، عندها خرجت المسيرات المنددة والاحتجاجات المناوئة التي اختلطت ببعض مظاهر العنف، ولكن سرعان ما سيطر النظام على هذه الثورة بقمعها وإخماد احتجاجاتها وفرض الإقامة الجبرية على زعيميها.
دلالات الاحتجاجات الإيرانية
في الآونة الأخيرة شهدت إيران أيضاً حركات احتجاجية لم تصل إلى وصفها بالثورة مقارنة بالثورة الخضراء عام 2009م؛ لكنها تشهد نوعاً من الاستمرارية، فهل نشهد ثورة يحل معها الربيع الإيراني؟
قد يتحقق ذلك ويتمكن الشعب الإيراني من إسقاط نظام الجمهورية الحالي، والخلاص منه ومن مؤسساته العسكرية الثورية، بأن تلعب عناصر جديدة في دعم تحركات الشعب وتحقيق تطلعاته، من هذه العناصر الفاعل الدولي الذي لم يكن بعيداً عن ما شهدته الساحة الإيرانية من أحداث إبان القرنين الماضيين، فالاتحاد السوفييتي السابق كان حاضراً في احتلال مناطق شاسعة من إيران، واضطرت الحكومة الإيرانية آنذاك إلى توقيع اتفاقية (تركمانجاي) عام (1928م)، وبريطانيا العظمى كانت داعمة للثورة الدستورية، كما لعب جهازي الاستخبارات البريطانية والأمريكية دورا كبيرا في إفشال مشروع تأميم النفط الإيراني الذي تبناه الدكتور محمد مصدق وسبقت الإشارة إليه، وساعدت الولايات المتحدة الأمريكية في تحييد دور الجيش الإيراني الموالي للشاه محمد رضا للقيام بانقلاب عسكري للسيطرة على الأوضاع الداخلية إبان خروج الشاه من إيران ومنع قدوم الخميني إليها، عندما أوعزت لمبعوثها السيد (هايزر) بالسفر إلى طهران عام 1979م بعد رحيل الشاه لعقد اجتماعات مع قادة الجيش الإيراني لطمأنتهم حيال ما يحدث في إيران، والطلب منهم التعامل مع الخميني وأعوانه على أنهم الخلف المناسب للشاه، وبذلك حال الأمريكان من دون نجاح ما كان يخطط له بعض قيادات الجيش من القيام بانقلاب عسكري يتولى الجيش على إثره مقاليد الأمور وإعادة الشاه كما حدث في عام 1953م.
جملة ما أعلاه أن ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من فرض عقوبات على الحكومة الإيرانية وبعض القيادات السياسية والعسكرية الإيرانية قد يبدو أسلوباً من ممارسة دور فاعل لتهيئة الساحة الداخلية الإيرانية للثورة مجدداً على النظام الحالي، خاصة مع ما تشهده إيران من حالة الوضع الاقتصادي المتدهور، ولكن لكي ينجح هذا الأسلوب لا بد من:
1 ـ استمرار العقوبات الأمريكية وتضييق الخناق الاقتصادي تجاه النظام الإيراني.
2 ـ أن تقوم الدول الأوروبية بفرض عقوبات جديدة أيضاً أو على الأقل الالتزام بتطبيق العقوبات الأمريكية.
3 ـ تطور العقوبات لأن تكون عقوبات دولية يفرضها المجتمع الدولي عن طريق الأمم المتحدة.
4 ـ أن يدعم العامل الإقليمي المتمثل بدول الخليج العربية ـ من دون استثناء أي دولة ـ العقوبات والالتزام بتطبيقها.
5 ـ تحرك قيادات الجيش في النظام لدعم أي بوادر لربيع إيراني قادم، على أن يستغل العامل الدولي هذه التحركات.
وفي ضوء ذلك قد نشهد ثورة الشعب الإيراني القادمة، فهل يحل الربيع الإيراني قريباً؟!