بحثت النخب الإيرانية كثيرًا ـ ولا تزال ـ كل الطرق التي تخرجها من أزماتها الاقتصادية وعزلتها الإقليمية، تلك التي أعقبت خروج واشنطن من الاتفاق النووي في عام 2018، وفرض العقوبات، في مشهد درامي تسبب في هزة كبيرة بات يعاني منها المجتمع الإيراني بالداخل والمفاوض الإيراني بالخارج، وجعلت النظام الإيراني كمن تلقى ضربة شديدة على رأسه أفقدته القدرة على التمييز بين الطرق البديلة لحل أزماته الداخلية الاقتصادية والاجتماعية، فضلًا عن أزماته مع غيره من المجتمعات الأخرى في محيطيه الإقليمي والدولي.
وبالرغم من أن تاريخ إيران الحديث به من الأفكار التي خدمت ذلك الجانب لديها، إلا أن النخب المتشددة، والتي باتت تمتلك لجام الأمور بالكامل لا ترتضي بذلك الحل، رغم أنه قد سبق وأثبت نجاحه على كل المستويات، سواء على المستوى الداخلي فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومدى تقبل الشعب الإيراني لنظامه الحاكم، أو حتى على المستوى الخارجي الإقليمي والدولي، والذي فتح ثغرة في جدار سميك أقيم بين طهران والعواصم العربية والعالمية كافة عقب الثورة الإيرانية لعام 1979.
حوار الحضارات
تعد فكرة «حوار الحضارات» التي أعلن عنها الرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي – الذي تولى رئاسة إيران على فترتين امتدتا بين 1997 حتى 2001، ومن 2001 حتى 2005 ـ هي الفكرة التي أخرجت إيران من مأزق التاريخ، بعد أن أعلن خاتمي في انتخابات فترته الأولى أن تلك الفكرة يريد من خلالها الانفتاح على العالم الغربي أو ما أسماه «حضارة اليوم»، محتفظًا بما جاء في تراثه الإسلامي، مع إمكانية الأخذ والرد بين الحضارات المخالفة لطبيعة الحضارة الإسلامية أو الأفكار الإيرانية، ومن خلال ذلك المنطلق، عمل على رعاية لقاءات بين المفكرين الإيرانيين ونظرائهم من الأمريكان والغربيين، كبادرة أمل لخلق نوع من الحوار السياسي لاحقًا بين كل من الطرفين.
في ذلك الوقت كانت إيران تخضع لعقوبات صارمة وأزمة ثقة بينها وبين كل دول العالم تقريبا، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، على إثر حادث اقتحام مقر السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز العاملين بها، حيث امتدت تلك الأزمة لـ444 يومًا، انتهت بالإفراج عن المحتجزين وكل الدبلوماسيين من خلال حوار دبلوماسي امتد لفترة طويلة.
قد يرى متابعون أن إيران بحاجة إلى شخصية إصلاحية كشخص الرئيس الأسبق محمد خاتمي، والذي نجح بأطروحاته الفكرية في حل الكثير من الأزمات بين طهران وبين عواصم أوروبية وعربية كثيرة، أبرزها أزمة الثقة التي انتابت دول العالم فيما بعد الثورة الإسلامية، إلا أن الأوضاع الآن لا تسير في المنعطف نفسه، وكأن النخبة الحاكمة لا تتعظ من دروس التاريخ.
صدام الحضارات
تكمن الأزمة الآن في أن الوضع الحالي يشبه كثيرًا ما سبق أن آلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية ـ برغم قتامة الوضع الحالي ـ فيما قبل تولي الرئيس خاتمي حكم إيران عام 1997، لكن الفارق الجوهري بين الأزمتين أن الوضع الحالي يشي بصعود نجم المتشددين في الانتخابات الإيرانية المقبلة والمقرر عقدها في يونيو من العام الجاري، وذلك بعدما نجحت صحافة التيار المتشدد في الترويج لفشل حكومة الرئيس روحاني المحسوب على التيار المعتدل (الأقرب إلى التيار الإصلاحي) وكذلك فشل وزير خارجيته محمد جواد ظريف المحسوب على التيار الإصلاحي أيضًا في حل الأزمات الاقتصادية التي مرت بالمجتمع الإيراني نتيجة العقوبات الأمريكية التي خلخلت البنى التحتية للمجتمع الداخلي.
ولقد كان إقرار مجلس الشورى الإسلامي الإيراني لتعديلات على قانون انتخابات رئاسة الجمهورية، ليمكن أعضاء مجلس تشخيص مصلحة النظام والمجلس الأعلى للأمن القومي، اللذين يهيمن عليهما المتشددون، من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة صدى كبير، يوضح أن هنالك نية لعسكرة الحكومة الإيرانية المقبلة، وإزاحة الإصلاحيين من الطريق إلى سدة الحكم، أو طريق التعامل مع القوى الغربية بشكل خاص.
وعلى هذا الأساس بدأ صعود نجم المتشددين وباتت المعلومات المتواترة عن الترويج لترشيح شخصيات محسوبة على التيار المتطرف وأبرزهم العميد سعيد محمد، قائد مقر خاتم الأنبياء – الذراع الاقتصادي للحرس الثوري- بالإضافة إلى معلومات عن ترشح الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، وكذلك العميد حسين دهقان المستشار العسكري للمرشد الإيراني، وغيرهم من الشخصيات المحسوبة على تيار المؤدلجين، وهو ما ينذر بنوع من الصدام – على خلاف أفكار خاتمي عن الحوار – فيما بين إيران وأمريكا من جهة وبين إيران وأوروبا من جهة أخرى على أن يتحمل الشعب الإيراني فاتورة ذلك الصدام.
خاتمة
لو عادت النخبة الإيرانية إلى تاريخها ستجد أن مفكريها ومنظريها استطاعوا الولوج إلى العالم والخروج من الأزمات التي صنعها التيار المتشدد من خلال أفكار فلسفية بسيطة، مكنت إيران من الخروج من عزلتها بشكل كبير، وعلى الرغم من الانتقادات التي توجه إلى سياسة الإصلاحيين أو تيار المعتدلين الذين يحاولون فتح صفحة جديدة مع القوى الأخرى، إلا أن المتشددين يسيرون في اتجاه آخر يفشل كل محاولات الإصلاحيين للسعي للخروج من الأزمات التي يعاني منها المجتمع داخليًا وخارجيًا.
وقد مكنت فكرة “حوار الحضارات” من أن تتبوأ إيران مكانة لا بأس بها في المجتمع الدولي حين طرحها خاتمي على اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستجابت المنظمة الدولية لطلبه وجعلت عام 2001 عام حوار الحضارات، وهو العام الذي بدأت تشعر فيه إيران بنوع من التحول الاستراتيجي في سياساتها الخارجية وكذلك أوضاعها الداخلية، لكن الأوضاع الآن لا تشي بأي نوع من الحوار، ولا بوادر للخروج من الأزمة الراهنة.