يمكن اعتبار الأربعاء الثاني من مارس 2022 فرصة لا يمكن تفويتها لتحليل نمط تصويت الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشكل عام، وهو النمط الذي يقود إلى تعليل طريقة تفكير النخب الحاكمة في العواصم المختلفة وتفسير أسلوبها الخاص في صنع القرار السياسي بالاستناد إلى علاقاتها الدولية أو إلى خبراتها التاريخية حيال الأزمة التي يجري التصويت عليها.
ففي هذا اليوم تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 141 دولة من بينها مصر، من إجمالي 193 دولة عضوا بالأمم المتحدة، قرارا طالب روسيا بالتوقف فورا عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، فيما عارضته 5 دول من بينها سوريا، وامتنعت 35 دولة عن التصويت من بينها إيران.
ولقد دعا القرار الصادر تحت عنوان “العدوان على أوكرانيا” إلى وصول المساعدات الإنسانية بدون عوائق، على خلفية نقاشات مطولة في مجلس الأمن بشأن مشروع قرار فرنسي مكسيكي حول الموضوع نفسه، واستنكر مشروع القرار تورط بيلاروسيا في الهجوم على أوكرانيا.
وهذه السطور التالية تحاول تحري أسباب تصويت جمهورية مصر العربية لصالح القرار، وامتناع جمهورية إيران الإسلامية عن التصويت، مع التعمق في مسوغات كل دولة من الدولتين قبل اتخاذ هذا القرار.
في مسألة تصويت مصر وإيران على مشروع هذا القرار الأممي الذي يستنكر الاعتداء الروسي على أوكرانيا كانت القاهرة وطهران أمام 3 خيارات، ولعل خياري القبول أو الامتناع كانت لهما وجاهتهما وأسبابهما الواقعية المقنعة، لكن خيار الرفض ومساندة روسيا لم يكن مفهوما لدى الدولتين.
لقد امتنعت إيران عن التصويت؛ وهو ما يعني ترسيخ طهران لمبادئها التاريخية، وهي التخلي عن كل حلفائها في لحظة تعارض المصالح، ونظرتها البرجماتية إلى اتفاقها المحتمل مع الغرب، وهي تضع إحدى عينيها على أوكرانيا وتضع الأخرى على فيينا، إلى جانب ما هو أهم: الخوف الإيراني التاريخي من الغزو الروسي لأراضيها.
ومن المعروف أن إيران لها ذاكرة تاريخية حادة لا تنسى مرارات الهزيمة أبدا ولا تفارق ذهنها الانتكاسات الوطنية المذلة أمام القوى الكبرى الزاحفة على أراضيها، وعلى رأسها روسيا التي كانت حتى سنوات قريبة من منتصف القرن العشرين تسيطر على أغلب الأجزاء الشمالية من إيران.
وفي الثقافة الشعبية الإيرانية عندما يخضع إنسان لإنسان وينكسر أمامه يتم تشبيهه بـ”تركمانجي”، وهو اسم معاهدة ــ بالفارسية: عهدنامه ترکمنچای ــ مهينة ومذلة أجبرت فيها الإمبراطورية الروسية الحكومة الإيرانية القاجارية عام ١٨٢٨م، على التوقيع على التنازل عن أراضيها ودفع شيء يشبه الجزية لروسيا.
ولعل هذا ما يجعلنا نفهم سبب امتناع إيران عن التصويت برغم تحالفها مع روسيا وتنسيقهما العميق في كثير من الملفات السائلة بالإقليم، بل وتبني روسيا أغلب مواقف إيران لدرجة جعلت موسكو تصوت لصالح إيران في أغلب المحافل الدولية الأخيرة، ولعل آخرها التصويت لصالح إيران في مشروع “حظر السلاح” خريف العام الماضي.
النتيجة باختصار غير مخل: إيران تتحالف مع روسيا تحالفا تكتيكيا مؤقتا وليس استراتيجيا، وهي تكره روسيا في أعماقها وتخشى من أن يتكرر سيناريو أوكرانيا على أراضيها.
أما مصر فقد صوتت لصالح مشروع القرار، وهو ما يعني ترسيخ القاهرة لقيمها التاريخية، وهي قيم احترام القانون والشرعية الدولية وعدم القبول باللجوء إلى القوة لتغيير حدود سياسية لبلد هو عضو في الأمم المتحدة.
إذن مصر مالت لصالح القانون الدولي، غير أنها أيضا مالت لصالح مصالحها الوطنية المتجردة من الانتماء إلى أي من المعسكرين الشرقي أو الغربي في هذا الصراع.
غير أن الأهم هو أن مصر ردت لروسيا الصاع حين دعمت الأخيرة إثيوبيا في جلسة مجلس الأمن مساء التاسع من يوليو ٢٠٢١م، وكانت القاهرة تأمل في هذه الجلسة أن يصدر إلزام قانوني يتعين من خلاله على إثيوبيا احترام اتفاقية إعلان المبادئ لعام 2015 وعدم الإضرار بدولتي المصب.
النتيجة باختصار غير مخل: كان يمكن لمصر أن تمتنع عن التصويت، وهو قرار له وجاهته ومبرراته الوطنية، وكان من الخطأ الجسيم رفض مشروع القرار، لكن مصر فعلت أصوب القرارات حين ألقت بثقلها في خانة الشرعية الدولية وصوتت ضد سلوك روسيا المزعزع للأمن العالمي.
ما سبق يعطي فكرة عن الاختلاف الجوهري العميق بين مصر وإيران، ويجيب باختصار عن أصعب سؤال: لماذا لا يمكن إعادة العلاقات المصرية – الإيرانية؟!