بدأت الصلات بين العرب والفرس قبل الفتح الإسلامي لإيران وكانت هذه الصلات تأخذ شكل العداء حيناً والصداقة حيناً آخر.
وورد ذكر العديد من القصص والأخبار التي تفيد بوجود نسب بين العرب والفرس ومن تلك القصص ما جاء في “الشاهنامة” رائعة الشاعر الإيراني الكبير “الفردوسى”، حيث يرد ذكر قصة تتحدث عن زواج “زال” من “روذبة” بنت ملك كابل الذي كان من أولاد الضحاك ملك العرب وقد أثمر هذا الزواج عن إنجاب بطل أبطال الفرس “رستم”.
كما يروي الطبري قصة “شابور الأول” ملك الفرس مع “النظيرة بنت الضيزن” ملك الحضر التي أحبت شابور وساعدته على محاصرة أبيها وقتله([1]). وعهد “يزدگرد الأول” ملك فارس كذلك بتربية ابنه “بهرام” وحضانته إلى “المنذر بن النعمان”، کما أعان المنذر بهرام بعد وفاة والده على اعتلاء عرش إيران، وترتبط هذه القصة بالمثل الشهير “جزاي سِنمار: جزاء سنمار” الذي يجري على لسان العرب أكثر من الفرس أنفسهم ويضرب هذا المثل في كل من يلقي السوء والعقاب نظير ما قام به من خير وإحسان([2]).
وبعد الفتح الإسلامي لإيران على يد مجموعة من خيرة جنود الله لم تنقطع هذه الصلات بل توطدت بشكل كبير، حيث أقبل الفرس على اعتناق الدين الإسلامي الحنيف إقبالاٌ کبیراٌ، بعد ما سمعوه عن سماحة هذا الدين الذي يدعو إلى المساواة بين الناس ولا يفرق بينهم ولا لأحد فضل على أحد إلا بالتقوي كما جاء في كتابه الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}([3])، فعرف الإيرانيون أن الإسلام دين للجميع لا يعرف النظام الطبقي الذي كان متعارفاً عليه في المجتمع الزردشتى([4])، ولهذا السبب انتشر الإسلام في بلاد فارس بأكملها واعتبر الإيرانيون الدين الإسلامي بمثابة طوق نجاة ينقذهم من الظلم والجور والإجحاف وكل ما كانوا يعانون منه إبان الحكم الساساني في إيران.
لم يكتف الإيرانيون باعتناق الدين الإسلامي فحسب، بل أقبل الكثيرون منهم على تعلم اللغة العـربية لغة القرآن الكريم والتفسير والحديث، ولذلك وجب عل معتنقي الدين الجديد إتقان اللغة العربية للتعرف على مبادئ الدين الحنيف وقيمه. ولم يتوقف الفرس عند تعلم اللغة العربية فقط، بل نبغ الكثيرون منهم في علوم الفقه والتفسير والحديث، بالإضافة إلى العلوم الأخرى، فنبغ “سيبويه” في علم اللغة العربية ووصُف بأنه أعلم الجميع بالنحو والصرف وسمي كتابه في قواعد اللغة العربية بـ”قرآن النحو”، وكذلك “ابن قتيبة” صاحب كتاب “عيون الأخبار”.
في مجال الأدب نجد “ابن المقفع” الذي نقل إلى العربية الكتاب الشهير “كليلة ودمنة”، و”خداينامه: كتاب الملوك” وكتابي “الأدب الكبير والصغير”. وفي مجال علوم الدين نقف عند أسماء مثل: “الحسن البصر والنسائي والرازي والطبري والترمذي والبخاري ومسلم”.
وفي التاريخ نجد مؤلفات الطبري “تاريخ الرسل والملوك” وأبي الفداء “المختصر في أخبار البشر” والجاحظ “أخلاق الملوك”. وفي الفلسفة نجد “ابن سينا والرازى”. وفي التصوف نقف احتراماً وإجلالاً إلى شيخ شيوخ التصوف وحجة الإسلام الإمام الكبير “أبي حامد الغزّالي” صاحب كتاب “المنقذ من الضلال”. فلا نبالغ مطلقاً إذا قلنا إن صرح الحضارة الإسلامية قد شيد فوق أكتاف المفكرين والمستنيرين من أبناء الفرس.
ويمكن تفسير رواج اللغة العربية بهذا الشكل بأن العرب المسلمين لم يعتمدوا على قوة السلاح فقط خلال فتوحاتهم كالروم والفرس والمغول، ولكنهم أنشئوا منذ القرن السابع الميلادي لغة أدبية متقدمة تقدماً جلياً في ساحة الفكر والأدب واتخذت البلاغة والشعر مكانة عظيمة لديهم([5]).
وقد أنشد عدد من شعراء إيران بعض أشعارهم باللغة العربية مثل “سعدي وحافظ وهمام التبريزي ورشيد الدين الوطواط” ونقل العرب عن الفرس فكرة الديوان([6])، واقتبس الأدب الفارسي الكثير من موضوعات الأدب العربي مثل قصة “مجنون ليلى” التي قام بنظمها “نظامي الگنجوى”، كما انتقلت أوزان الشعر العربي إلى الشعر الفارسي وأدخل عليها الفرس بعض التعديلات التي تلائم لغتهم وقاموا بتطويرها([7]).
وبلغ الأمر بالفرس أنهم قاموا باستبدال الحروف الفارسية بالحروف العربية، وذلك فضلاً عن الألفاظ التي اقتبسوها من العربية، فأصبحت اللغة الفارسية المعاصرة مزيجاً من الألفاظ الفارسية والعربية. ومن الملفت للنظر وجود لافتات مكتوبة بألفاظ عربية في قالب فارسي عند محطات البنزين في إيران مثل “استعمال دخانيات اكيدا ممنوع است”.
على الجانب الآخر اقتبست العربية العديد من الألفاظ الفارسية وشاعت وراجت في مجتمعاتنا وصارت جزءا من لغاتنا العربية، ولما نزل القرآن الكريم وجد أن قريش قد اصطفت ألفاظاً فارسية مثل: “الفردوس والإستبرق والإبريق وزمهرير ومسك”، فارتضاها بين تعبيراته السماوية المقدسة([8]).
وكان هناك دور كبير للرحالة في ترسيخ دعائم الترابط بين العرب والفرس من خلال الرحالات التي قاموا بها في تلك البلاد فمن الرحالة العرب “ابن بطوطة” حيث يصف لنا زيارته لإيران والهند وأفغانستان في كتابة الشهير “تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وكذلك “ياقوت الحموى” الذي زار خراسان وخوارزم.
وبالنسبة للرحالة الإيرانيين نذكر على سبيل المثال كتاب “سفرنامه: كتاب الرحلة” للشاعر “ناصر خسرو”، حیث یتضمن الكتاب تجارب الكاتب خلال رحلاته التي استمرت سبع سنوات، زار فيها العراق والشام والحجاز ومصر، ويعد وصفه لمدينة “القاهرة الفاطمية” من أفضل ما تضمنه الكتاب من وصف وتفصيل، حيث تحدث عن المبانی والشوارع والمساجد والأسواق وحالة الأمن في البلاد والعادات والتقاليد المصرية آنذاك. ولا ننسي في هذا المقام الرحالات التي قام بها الشاعر الإيراني الشهير “سعدي الشيرازي” الذي زار بغداد والتحق بالمدرسة النظامية، ثم قام بعد ذلك برحلات إلى الشام والجزيرة العربية ومصر ومراكش وغيرها من الأمصار العربية([9]).
وإن كان ما ذكرناه يأتي من صفحات التاريخ، إلا أن الاهتمام مازال قائماَ بين الفارسية والعربية، ففي جامعات الأزهر القاهرة وعين شمس والإسكندرية أقسام خاصة باللغات الشرقية تقف نفسها على العناية باللغة الفارسية وآدابها وهو ما نشاهده أيضاً في المقابل في الجامعات الإيرانية([10]).
من خلال ما سبق نجد أن الدراسات المقارنة بين الآداب العربية والفارسية دائماً ما تسفر عن نتائج مثمرة وناجحة، ويرجع ذلك إلى الترابط القوي بين الأدبين سواء على المستوى الفكري أو اللغوي، فالعربية والفارسية قد ازدهرتا في ظل الحضارة الإسلامية وصارتا رافداً رئيساً يغذي أعظم حضارة عرفها التاريخ.
ــــــــــــــــــــ
[1]. يحي الخشاب، التقاء الحضارتين العربية والفارسية، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، الطبعة الأولى، 1969م، ص 79، 82.
[2]. مهدي پرتوی آملی، ریشه های تاریخی امثال و حکم، تهران، انتشارات سنائى، چاپ دوم، 1374ش، ص 315.
[3]. سورة الحجرات، آية 13.
[4]. الزردشتیة: هی الديانة الرسمية في إيران قبل الإسلام وكانت تقوم على عبادة النار.
[5]. فاسيلي بارتولد، تاريخ الحضارة الإسلامية، ترجمة: حمزة طاهر، القاهرة، دار المعارف، بدون تاريخ، 61.
[6] يحي الخشاب، التقاء الحضارتين العربية والفارسية، القاهرة، ص 154.
[7]. محمد عبد السلام كفافى، في الأدب المقارن، القاهرة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1972م، ص 28.
[8]. صفحات عن إيران، صادق نشأت ومصطفي حجازى، مطبعة مخيمر، 1960م، ص 118.
[9]. بديع محمد جمعة، دراسات في الأدب المقارن، القاهرة، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1980م، ص 92، 93.
[10]. صفحات عن إيران، صادق نشأت ومصطفي حجازى، ص 118.