في خِضَمّ الأجواء الملتهبة في المنطقة وبعد زيارة تاريخية نادرة قام بها العاهل العُماني قابوس بن سعيد إلى إيران قبل نحو 5 سنوات، مع العلم بأنه لا يغادر بلاده إلا للعلاج أو النقاهة، ومع التدريبات العسكرية المتوالية تلك التي يتم الإعلان عنها من الجانبين ولا يتم تنفيذها على الأرض، وفي ضوء الإعلان الإيراني عن بناء قاعدتين حربيتين بحريتين في خليج عُمان، حريٌ التعرف على محددات تلك العلاقات ومآلاتها.
العلاقات تاريخية
منذ وقت بعيد جمعت طهران ومسقط علاقات ثابتة فمنذ انضمام سلطنة عمان إلى مجلس التعاون الخليجي قبل 34 عاما، حرصت الأخيرة على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجانب الإيراني الذي تتسم علاقاته مع أغلب دول التعاون الخليجي بالتوتر، وقد سبق لقابوس أن زار طهران في 1971م، في زمن الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي كما قدم الأخير دعما لوجيستيا وعسكريا للأول في حرب ظفار (1965 ـ 1975م).
وتطور هذا المشهد عقب الانتخابات الإيرانية الرئاسية 2009م، المثيرة للجدل والتي أعقبتها حركات احتجاجية واسعة؛ فقد استقبلت طهران في 9 أغسطس/آب 2009م، للمرة الثانية السلطان قابوس ليكون الزعيم العربي الوحيد الذي استمر في السلطة واحتفظ بعلاقات مع الإيرانيين حتى بعد أن تغيرت الإدارة السياسية في طهران من النقيض لأقصاه.
وقد كان للرئيس حسن روحاني علاقات جيدة مع السلطان قابوس إذ سبق له زيارة العاصمة مسقط عدة مرات في 2005م، عندما كان أمينا للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني وأجرى مع السلطان قابوس مباحثات حول العديد من القضايا وهو على علم بإدراك السلطان قابوس لإيران ومن ثم إدراك إيران له؛ لذلك ليس غريبا على الرئيس الإيراني الجديد قوله أثناء الزيارة الأخيرة: “إن سلطان عمان زعيم محنك وله خبرة طويلة في قضايا المنطقة والعالم”.
الوسيط النزيه
عند الحديث عن العلاقات العمانية ـ الإيرانية وأثرها على العلاقات الغربية ـ الإيرانية لا يجب إغفال دور الوسيط النزيه الذي لعبه سلطان عمان بنجاح في العديد من المناسبات السابقة والتي قربت من وجهات النظر الإيرانية ـ الغربية، والأمريكية منها على حد الخصوص حول ملفات خطرة تتعلق باختطاف أو سجن وتوقيف رعايا البلدين.
لقد حاولت سلطنة عمان في 1987م، أن تتوسط بين إيران والعراق لإيقاف الحرب العراقية – الإيرانية، ورغم فشل تلك المحاولات إلا أنها هيأت الخلفية للجانبين لقبول وقف إطلاق النار بعد عام من ذلك، كما أنها لعبت دورا بارزا في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين إيران والمملكة العربية السعودية والمملكة المتحدة في عام 1990م.
ففي السنوات الأخيرة سعت سلطنة عمان ومن خلال استثمار فرص تقاربها مع إيران والغرب إلى الدخول في ميدان الوساطة بين الجانبين حيث حققت نجاحات في هذا المجال، وتولت سفارة عمان في واشنطن لفترة مسؤولية رعاية المصالح الإيرانية نتيجة الثقة المتبادلة بين البلدين.
إن الملاحظ في تلك الظاهرة أن جهود السلطان قابوس لم تفتر خلال السنوات الأخيرة في الوساطة بين طهران والعواصم الأوروبية لإطلاق سراح مواطنين معتقلين من الجانبين حيث كانت إرادة النجاح حليفته في هذا المجال أيضا.
وتمثلت ذروة عمله كوسيط بين إيران والغرب، في مسألة إطلاق سراح ثلاثة أميركيين أعتقلوا في سجن إيفين شديد الحراسة بإيران بتهمة التجسس لصالح الإدارة الأميركية ودخولهم غير الشرعي للبلاد، حيث تم نقلهم إلى العاصمة مسقط بطائرة عمانية خاصة قبل أن يعودوا إلى عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية واشنطن.
وما لبثت الوساطة العمانية أن أستؤنفت حيال أزمة البحارة البريطانيين المحتجزين في إيران عام 2007م قبل أن تنجح جهود الوساطة مجددا في الإفراج عنهم، فضلا عن قيام الولايات المتحدة في 2011م، بإطلاق سراح مجتبى عطاردي، وهو أستاذ جامعي إيراني كان موقوفا في أحد السجون الأميركية، فضلا عن إطلاق سراح السفير الإيراني السابق في لندن نصر الله تاجيك الذي كان قيد الإقامة الجبرية في منزله ببريطانيا لمدة ست سنوات، انتهاء بالإفراج عن الإيرانية شهرزاد ميرقلي خان المسجونة بأمريكا.
مبادرات السلام
يمكن القول أن العلاقات المتينة التي ربطت الغرب بسلطان عمان شجعت الولايات المتحدة أن تعتمد عليه ليكون كـ”حمامة سلام عربية” أو سفير نوايا حسنة بينها وإيران خاصة في المواقف الحرجة التي تتعثر فيها السبل الدبلوماسية، وهو ما أماطت تلك الزيارة اللثام عنه خاصة وأن إيران أعلنت بشكل صريح أن التدخل العسكري الأمريكي في سوريا “خط أحمر” بالنسبة لها.
صحيح أن إيران بدأت قبل أشهر الاستعداد لموقعها من المسألة السورية بعد بشار لكن هذا لا يمنع أن تحقق أعلى استفادة سياسية ممكنة في حالة رأت أن التدخل العسكري الغربي لا مفر منه وهو الوتر الذي حرص الأمريكيون على العزف عليه من خلال سلطان عمان، حيث تكرر نفس السيناريو ـ بدون مسقط ـ في وقت سابق قبل غزو العراق في ربيع 2003م.
لقد اهتمت دوائر الحكم في طهران بزيارة السلطان قابوس المنتهية، وقال الناطق باسم الخارجية الإيرانية عباس عراقجي أن “التعاون الاقتصادي في مجال الطاقة، هو أهم محاور المحادثات مع السلطان قابوس”، مضيفاً أن زيارته ستشهد أيضاً مناقشة “ملفات إقليمية ودولية، خاصة الوضع في مصر وسوريا”.
يأتي هذا في الوقت الذي قال فيه المرشد الأعلى علي خامنئي للزعيم العربي أن “أحد الأمور الخطيرة في المنطقة تتمثل في زج القضايا الدينية والطائفية والمذهبية في الخلافات السياسية”، وهي إشارة واضحة الدلالة للوضع الراهن في سوريا والدور الذي تلعبه إيران فيه منذ اندلاع شرارة الثورة في مارس/آذار 2011م.
تكتم إيراني
على الرغم من اهتمام الصحف الإيرانية والغربية بتلك الزيارة باعتبارها حدث لا يتكرر كثيرا بسبب ما يمكن وصفه بخمول السلطان العربي في علاقاته الخارجية؛ أقرت صحيفة “جمهوري إسلامي” الإيرانية اليومية شبه الرسمية وثيقة الصلة برئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجامي، بأن الزياة تهدف إلى “الوساطة بين طهران وواشنطن”.
وفي هذا السياق فهم من مصادر مطلعة تحدثت لوسائل إعلام غربية وعربية أن الزيارة “ليست عادية ولا بروتوكولية، بل تدخل في إطار رغبة عُمان في تدشين مرحلة جديدة ومهمة ومستوى أعلى من الوساطة بين إيران والغرب”.
لكن الغريب في الأمر تصريح وزير الخارجية الإيراني الجديد محمد جواد ظريف الذي نفى فيه علمه بما أشيع عن “رسالة أمريكية” يحملها السلطان قابوس، مستدركاً أن بلاده “مستعدة لمناقشة أي موضوع يطرحه السلطان”.
وقال ظريف في تصريحات نقلتها الوكالة الإيرانية الرسمية (إرنا) “لا نعلم إن كان يحمل إلينا رسالة من دولة معينة، لكننا مستعدون لمناقشة المسائل التي يرغب فيها، وكذلك قضايا ثنائية وإقليمية ودولية نرغب نحن في طرحها”، وهو ما انطباع بأن الجانب الإيراني بدا أكثر تحفظا وتكتما حول إعلانه عن “خارطة الطريق” المحمل بها السلطان قابوس، قبل أيام من ضربة عسكرية غربية محتملة تجاه دمشق.
وأثار وصول السلطان قابوس الذي نادراً ما يقوم بزيارات رسمية للخارج، تكهنات بأنه يحمل رسالة أميركية تتعلق باحتمال فتح حوار مع ايران، لمحاولة تسوية ملفها النووي فضلا عن تداعيات الضربة العسكرية المحتملة تجاه حليفها بشار.
وأشارت مصادر إيرانية إلى أن السلطان قابوس سمع من خامنئي تصوراته في شأن حوار مع الولايات المتحدة، وآلية خفض التوتر بين البلدين، إضافة إلى موقف طهران إزاء التطورات الإقليمية التي تهمّ دول الخليج، وتحديداً المملكة العربية السعودية.
لقد أوردت وسائل إعلام إيرانية أن روحاني والسلطان قابوس ناقشا “أهم التطورات الإقليمية والدولية”، مشيرة إلى أن الأول شدد على “المكانة المرموقة” لعُمان إقليمياً، وقال للسلطان قابوس إن “إيران ترغب في ترسيخ علاقاتها مع بلدكم الشقيق والصديق في مختلف القطاعات، خصوصاً التجارية والاقتصادية”.
ونسبت الصحف الصادرة صباح الثلاثاء في طهران إلى السلطان قابوس وصفه العلاقات مع طهران بأنها “طيّبة”، داعياً إلى “تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية” بين البلدين، وهو ما يفهم منه التفاف روحاني وقابوس حول الهدف الرئيس الذي من أجله كانت الزيارة التي وصفت بـ”التاريخية”، ذلك أنه لو كان هدف الزيارة الاقتصار على الجوانب الاقتصادية أو تعزيز فرص التبادل التجاري لكان وزير التجارة العماني كفيل بأداء المهمة بنجاح دون الحاجة إلى تحرك السلطان المعروف بأنه لا يصعد إلى الطائرة إلا في المهام الجسام.
الوسيط المُفَضّل
ذكرت مصادر مطلعة في السفارة العمانية بطهران أن زيارة السلطان قابوس أبعد من كونها زيارة عادية وثنائية، إذ إن سلطنة عمان تسعى لاتخاذ خطوات أكبر في المسار الذي سلكته منذ أعوام كوسيط بين إيران وبعض الدول الغربية.
وقالت الوكالة الإيرانية إنه نظراً لتوجهات حكومة الرئيس روحاني في توسيع نطاق تعامل إيران مع كافة دول المنطقة والعالم، فإن سلطان عمان سعى خلال هذه الزيارة للاستفادة من الفرصة التي أتاحتها الحكومة الإيرانية الجديدة لاتخاذ خطوات أكبر على طريق الوساطة بين طهران وبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة ليطرح اسمه واسم بلاده في مجال الاضطلاع بدور على الأصعدة الدولية المهمة.
وأفاد الإعلام الإيراني – استنادا إلى مصادر دبلوماسية عمانية – أن مسقط ترغب في تعزيز موقعها كـ”وسيط مُفَضّل” بين طهران والغربيين حول موضوع السلاح النووي الإيراني.
عقب الهجوم الكيماوي الذي وقع في 21 أغسطس/آب 2013 في دمشق، اتخذت حكومة إيران أخرى مواقف واضحة مؤيدة لنظام الأسد، وأفادت بعض التقارير أن وزير الخارجية الإيراني الجديد، محمد جواد ظريف، أجرى اتصالاً هاتفياً بنظيره التركي أحمد داود أغلو للتأكيد على أنه إذا وقع هجوم كيماوي بالفعل، فيتعين أن يكون قد أرتُكب من قبل الثوار السوريين وليس الحكومة.
وفي كلمة ألقاها أمام قوات “الباسيج” ونشرتها وكالة أنباء فارس شبه الرسمية المدعومة من الحرس الثوري في 22 آب/أغسطس، أعلن الجنرال يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري الأقدم لمرشد إيران الأعلى علي خامنئي “أن إيران وسوريا وروسيا والصين هي الدول الفائزة في الصراعين العسكري والسياسي في سوريا، وأمريكا وإسرائيل هما الخاسرتان”.
وهنا يمكن التنبؤ بشكل الرسالة المحمل بها السلطان قابوس حول الأزمة السورية قبل أن يعلن عن ذلك صراحة وزير الخارجية محمد جواد ظريف حيث أكد في تصريحات نقلتها الوكالة الرسمية مساء الثلاثاء “أن السلطان قابوس نقل انطباعاته حول وجهات نظر المسؤولين الأمريكيين إلي مسؤولي الجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال زيارته الأخيرة إلى طهران وسينقل أيضا وجهات نظرنا إليهم”.
لقد اتضحت أسباب الزيارة وانكشف ستارها حول أنها كانت من أجل التدخل العسكري الغربي في سوريا وهو ما بدا واضحا من كلام ظريف حيث قال بالحرف الواحد: “تم خلال هذه اللقاءات التي جمعت السلطان قابوس بالمسؤولين الإيرانيين طرح القضايا الإقليمية التي تعتبر قضايا هامة وأن البلدين أبديا قلقهما بشدة من التطرف والتدخل العسكري في المنطقة وخطر الحرب في المنطقة”.
غير أن المسؤول الإيراني الجديد لم يفوت الفرصة لممارسة الدور الإيراني التقليدي من الأزمة السورية حيث قال: “إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية باعتبارها أحد ضحايا السلاح الكيماوي قلقة جدا من استخدام هذه الأسلحة في المنطقة وأن هذه القضية كانت من محاور المباحثات مع سلطان عمان”، وهنا يجب الالتفات إلى أن ظريف يقصد أن المعارضة السورية هي من استخدم السلاح الكيماوي وليس النظام، كما تمت الإشارة إلى ذلك.
ونوه ظريف إلى “أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية وسلطنة عمان تؤمنان بالتقارب الإسلامي وتجنب الصراعات الطائفية؛ لأن أي صراع طائفي يضر البلدين وكذلك العالم الإسلامي”.
وعلى الرغم من أن الوكالة الإيرانية الرسمية لم تنشر تصريحات ظريف إلا في الساعة السابعة من مساء الثلاثاء بتوقيت طهران إلا أنها كانت فرصة لا يجب تفويتها للتعرف على موقف إيران النهائي من زيارة قابوس في ظل الوضع المستعر؛ ذلك أن ظريف أكد أنه “بسبب عدم وجود علاقات مباشرة بين إيران وأمريكا فإن أصدقاءنا حينما يزورون إيران يعبرون عن انطباعاتهم حول وجهات نظر المسؤولين الأمريكيين وتوجهاتهم ومن الطبيعي أن ينقلوا لهولاء انطباعاتهم عن وجهات نظر المسؤولين الإيرانيين في الظروف المناسبة”.
الخلاصة
وفق كلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والذي أنهى به الجدل حول غموض الزيارة العمانية إلى طهران بات واضحا في نهاية المطاف أنها استهدفت نقل رسالة أمريكية إلى إيران للتسوية والتفاهم حول الموقف الإيراني المحتمل حال تحويل واشنطن تهديداتها بالضرب العسكري إلى واقع على الأرض، ونصيب إيران من الكعكة السورية بعد رحيل بشار.
وبحسب المعطيات المتاحة يمكن الخروج من زيارة السلطان قابوس إلى إيران بالنتائج التالية:
- العلاقات الإيرانية ـ العمانية قديمة ومتجذرة وليست وليدة الظرف الراهن، ما يعطي دلالة على أن اختيار الغرب لقابوس كـ”حمامة سلام” كان موقفا.
- نجاح الزيارة كان متوقفا على طبيعة إدارك كل من الطرفين للآخر، وبحسب أن قابوس وروحاني وثيقلا الصلة وتعود علاقتهما إلى سنوات مضت؛ فإن إدراكهما لطبيعة التعاطي السياسي في تلك المرحلة أدى إلى خروج كل طرف بمكاسب مرضية.
- أوصل قابوس الرسالة الغربية بنجاح والتقى بأكبر صانعي القرار في طهران، كما أوصلت إيران رسالتها المغلقة إلى واشنطن من خلاله ومفادها أن طهران تمتلك الرغبة في تغيير الصورة الذهنية لها عند الإدراة الأمريكية.
- كان الهدف الرئيس للزيارة هو توصيل رسالة أمريكية ـ غربية إلى إيران تتضمن خارطة طريق حول الأزمة السورية وعرض حزمة من المكاسب المتوقعة لإيران في حال تعاونها مع الغرب في تغيير السلطة في دمشق.
- لم ينس الإيرانيون أن ينتهزوا الفرصة ويعبروا عن طلبهم تخفيف العقوبات الأمريكية التي أوجعت الاقتصاد الإيراني والسماح ببعض التقدم في البرنامج النووي غير المرضي عنه من قبل الغرب.
- حملت الزيارة وما تضمنتها من رسائل، التأكيد على مكانة طهران كلاعب لا يمكن الاستغناء عنه في إدارة أي أزمة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة الأزمة السورية.