دشنت قمة جدة التي عقدت في المملكة العربية السعودية بمشاركة أمريكية عربية لحقبة جديدة في تطورات السياسة الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد فيما يتعلق بالمخاوف العربية والأمريكية وكذلك الإسرائيلية من التطورات المتعلقة بالملف الإيراني، وتباطؤ مفاوضات الاتفاق النووي، ما عطل من إمكانية التوصل لحل نهائي يقضي على المخاوف الأمريكية والعربية من سلوك إيران في الإقليم، وكذلك يحد من رغبة إيران الوصول للعتبة النووية، ما يشكل أزمة كبيرة في منطقة الشرق الأوسط.
جاء الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى قمة جدة بعد لقائه بمسؤولين إسرائيليين، وكذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبومازن، ولئن كانت القضية الفلسطينية أحد محاور الزيارة والقمة على حد سواء، إلا أن ما كان يشغل بال الرئيس الأمريكي بالدرجة الأولى هو كيفية إقناع العرب بضرورة إدماج الجانب الإسرائيلي مع محيطه العربي من أجل تدشين حلف سياسي وعسكري شرق أوسطي يقف لمواجهة التحركات الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط، ويشكل حائط صد للمخاوف الإسرائيلية على وجه التحديد من التهديدات الإيرانية.
لكن على ما يبدو فقد عاد الرئيس الأمريكي من قمة جدة إلى واشنطن خالي الوفاض، بعد أن رسم القادة العرب إستراتيجية محددة الملامح لما يمكن أن يسير عليه التعاون العربي ــ الأمريكي حيال قضايا الشرق الأوسط، وفي القلب منها القضية الإيرانية.
وجد الملف الإيراني نفسه حاضرًا ومسيطرًا بقوة على مائدة قمة جدة للتنمية والأمن، إنطلاقًا من كونه أحد الموضوعات التي ناقشها القادة العرب مع نظيرهم الأمريكي، حيث كان هناك اتفاق يصل إلى حد الإجماع على أهمية منع إيران من الحصول على التكنولوجيا التي تؤهلها للوصول إلى امتلاك السلاح النووي، وهو ما أشار إليه الزعماء العرب حول أهمية منع وجود أسلحة دمار شامل في منطقة الشرق الأوسط.
الرؤية الأمريكية للدور الإيراني في الإقليم
بملاحظة التوقيت الذي جائت فيه زيارة بايدن، يمكن ملاحظة العديد من القضايا الرئيسة على أجندة هذه الجولة أهمها ما تم تعريفه حديثًا ببناء ترتيب أمني جديد في الشرق الأوسط يضم إسرائيل إلى جانب عدة دول عربية أخرى، بهدف مواجهة الخطر الإيراني.
بناءً على هذا التعريف، اعتبرت إسرائيل زيارة بايدن مكرسة في الأصل لمواجهة التهديد الإيراني، وعلقت آمالًا عريضة بشأن إقامة تحالف إقليمي استنادًا إلى القلق الذي أعربت عنه العديد من الدول العربية جراء السياسات الإيرانية الهادفة لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية، إلا أن الدول العربية أكدت أنها لا تسعى لإقامة تحالف موجه ضد دولة معينة بل تسعي لتنسيق أمني واستخباراتي ضد الإرهاب.
وقبل حضور بايدن لقمة جدة، وقع مع إسرائيل اتفاق مشترك يتضمن تعهُدا بمنع حيازة إيران لسلاح نووي والتصدي لأنشطتها التي تهدد الأمن الإقليمي وأمن إسرائيل، وفي الوقت نفسه، يواجه بايدن صعوبة في إقناع إيران بالانضمام للاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب عام 2018، ما قد يجعله في موضع مسائلة من دول الخليج العربي حول الهدف من إعادة إحياء هذا الاتفاق.
وقد برر بايدن خطواته تجاه إيران في مقابلة تليفزيونية، بأن الاتفاق النووي يمثل أفضل فرصة لتعطيل محاولات إيران لتطوير قنبلة نووية، وأشار في المقابلة ذاتها لوجود احتمال استخدام القوة في حالة كان هذا الخيار هو الملاذ الأخير لمنع الجمهورية الإسلامية الإيرانية من امتلاك الأسلحة النووية.
الموقف العربي من اتفاق فيينا المحتمل
بعد أشهر من تعثر المحادثات الأمريكية ــ الإيرانية غير المباشرة في فيينا، أعلنت دولة قطر ترحيبها باستضافة جولة جديدة من محادثات غير مباشرة بين واشنطن وبين طهران بعنوان ”محادثات الدوحة”، من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران.
وبررت قطر رغبتها في عقد محادثات جديدة بين الجمهورية الإسلامية وبين الولايات المتحدة بأن هدفها الوحيد هو تعزيز أمن المنطقة واستقرارها، وقد عزز ذلك ما جاء في كلمات القادة العرب خلال قمة جدة حيث شددوا على ضرورة ضمان أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط من خلال التأكيد على كونها منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل.
وهو ما يشير ضمنًا إلى رغبة عربية متكاملة في عدم وصول إيران للتقنية النووية العسكرية، خوفًا من أن يفتح ذلك الأبواب على أصرعها أمام سباق تسليحي في منطقة الشرق الأوسط قد يضر بالسلم والأمن الدوليين.
على هذا الأساس يمكن القول أن الدول العربية تدعم مفاوضات فيينا وأي اتفاق دولي يضمن خلو منطقة الخليج العربي من أسلحة الدمار الشامل، مع العلم إن إيران ترى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستغل ما أسمته هي بـ”رهاب إيران” طبقًا لما أعلنته وزارة الخارجية الإيرانية.
ويهدف ذلك بالتأكيد إلى خلق أزمة في المنطقة واستشعار الخطر الإقليمي والتوتر بسبب وجود إيران كقوة نووية، وهو ما جعل الدوحة تتبنى في الأساس جولة من المباحثات غير المباشرة بين الطرفين لإنهاء الأزمة، وبدأت الدوحة تحركاتها تلك مستندة أيضًا إلى المخاوف العربية من التهديدات الإيرانية.
العامل الإسرائيلي في قمة جدة
تُكرر إسرائيل والولايات المتحدة حرصهما علي منع إيران من الحصول على أسلحة نووية، إذ إن إسرائيل تضع هذه النقطة بمثابة أولوية لها؛ نظرًا لأن إيران تتصدر قائمة التهديدات للأمن القومي الإسرائيلي ليس فقط بشكل مباشر، وإنما بشكل غير مباشر أيضًا، فإسرائيل لا تخشي فقط حصول إيران علي سلاح نووي، وإنما تخشى كذلك مما قد يترتب على رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران من تعبئة ونهوض للاقتصاد الإيراني مرة أخرى، الذي حتما سيؤدي لزيادة دعم إيران لحلفائها في الشرق الأوسط مثل حزب الله اللبناني، وحركة المقاومة الفلسطينية حماس.
وفي حين اتفقت واشنطن وتل أبيب على الغاية، إلا أن الخلاف يبقى علي الوسيلة، فالولايات المتحدة الأمريكي متمسكة بتجربة المسار الدبلوماسي، وهو ما ظهر جليًا في سعي بايدن لإعادة إحياء الاتفاق النووي منذ أكثر من عام.
على الرغم من تصريح بايدن بأن الخيار العسكري يبقى الخيار الأخير ضد إيران، إلا أن الفجوة مستمرة بين إسرائيل وبين الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع هذا الملف؛ نظرًا لأن إسرائيل تدعو لانتهاج الخط المتشدد ضد إيران.
هنا يتسائل البعض حول ما إذا كان بايدن قد خرج خالي الوفاض من زيارته لجدة أم لا؟! والإجابة أن الرئيس الأمريكي أخفق في الحصول على التزامات بإنشاء محور أمني إقليمي من شأنه أن يشمل إسرائيل أو زيادة إنتاج النفط بشكل فوري، وذلك بعد أن نفى وزير الخارجية السعودي مشاركة المملكة في أي محادثات حول إقامة تحالف دفاعي خليجي ــ إسرائيلي، وتأكيده بأن فتح السعودية مجالها الجوي أمام جميع شركات الطيران ليس له علاقة بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وليس مقدمة لخطوات أخرى.
ولعل ما شهده اجتماع بايدن وولي العهد السعودي من حساسية شديدة بعد إشارة الرئيس لمسألة دمج إسرائيل ضمن محور جديد مدفوع بمخاوف مشتركة إزاء إيران، دليل على أن القمة لم تحقق آمال اسرائيل والولايات المتحدة في اتفاقات سلام جديدة.
خاتمة
بالرغم من استخفاف إيران وتقليلها من شأن التقارير التي تتحدث عن تشكيل تحالف إقليمي مضاد لها في المنطقة، إلا أنها في جميع الأحوال حريصة على تجنب مواجهة مثل هذا الخيار، وقد بدأت في طرح أفكار قد تخدم عملية المفاوضات النووية، مثل اقتراحها تأجيل البت في القضايا العالقة بالقائمة السوداء كمطلب شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية.
على جانب آخر، لم تحصل إسرائيل علي الإندماج الإقليمي الذي سعت له بمساعدة الولايات المتحدة الامريكية، والذي كانت تستند في سعيها له إلى القلق الإقليمي من امتلاك إيران للسلاح النووي.
وبعد انتهاء جولة بايدن وبملاحظة ما تم تقريره بها من قبل جميع الأطراف، يمكن القول إن ما سيحدد وجود تغييرات إقليمية في المرحلة القادمة هو ما ستؤول إليه محادثات الاتفاق النووي، خاصة بعد إدراك الولايات المتحدة وإيران للمعطيات الجديدة في المنطقة بعد قمة جدة.