تبدو العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية أحد أكبر المعضلات الملغزة في السياسة الدولية، إذ تمر بقيعان عداء ظاهرة منذ نجاح الثورة الإيرانية لعام 1979، وهي مع ذلك تمر بقمم تفاهم يراها كل ذي عينين، ويمكن قراءة ذلك في وقائع شهيرة مثل صفقة شراء إيران الأسلحة الأمريكية المعروفة بـ”صفقة إيران جيت”، والتفاهم المشترك بين البلدين، وتقاسم النفوذ في كل من أفغانستان والعراق، وعليه يبدو واضحا أن بيئة “حلف المصالح المشتركة” هذه متوافرة الآن في عهد بايدن ــ رئيسي، تماما مثل التفاهم الذي تم في عهد ريجان ــ خامنئي.
حول بايدن ورئيسي
لم يكن الاتفاق النووي لعام 2015 بداية التفاهم في العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية، وهو بطبيعة الحال لن يكون نهايتها، إذ ترتبط واشنطن وطهران بعلاقات عميقة سبقت الاتفاق ومن المرجح أن تستمر سواء تمت مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق وتمخضت عنها تسوية سياسية أم لا.
الحقيقة أن العلاقات بين الدولتين تتحكم في ظاهرها أيديولوجية أولئك الذين يجلسون على مقاعد السلطة في سعد آباد أو البيت الأبيض، وهو ما يتجلى من خلال النظر إلى كل من إبراهيم رئيسي، الرئيس الجديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجو بادين، الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأمريكية.
تنبع الروابط الخفية هذه من خلفية كل رئيس منهما، من حيث النشأة والتعليم وحتى طريقة الالتحاق بالسياسة. وعلى إثر هذا، يمكن القول إن بايدن قد صعد إلى السلطة من خلال خلفية سياسية خالصة بحسب تخرجه في كلية التاريخ وعلم السياسة، وهي خلفية تؤثر على قراراته التى توصف بالبراجماتية خاصة في مضمار السياسة الخارجية.
اقرأ أيضا:
أما رئيسي، فهو ذو خلفية قضائية، إذ التحق بالقضاء وحصل على دكتوراه الفقه الإسلامي، ثم أصبح نائب المدعي العام فى 1988 بالتحاقه بـ”لجنة الموت”، ثم شغل منصب المدعي العام من 2014 إلى 2016 وتولى من بعدها أهم المؤسسات الدينية وأغناها، وهي مؤسسة “أستان قدس رضوي” التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل سمعته ونفوذه في البلاد.
علاقات إطار الاتفاق النووي
مرت العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية بعدد من الصراعات والتفاهمات، غير أن النقطة الأكثر ضوءا في هذه السيرورة هي توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” في عهد باراك أوباما، وهنا يجدر الذكر أن بايدن كان نائبا للرئيس أوباما، وكان شريكا بطبيعة الحال في صنع مشهد فيينا 2015.
وبالنظر إلى الجانب الآخر في طهران، يمكن التنبؤ بأن عودة رئيسي إلى فيينا 7 مرهون بتحقيق بايدن شروط إيران الثابتة وعلى رأسها عدم إدراج البرنامج الصاروخي الباليستي في اي جدول أعمال محتمل، فضلا عن رفع العقوبات المباشرة عن الرئيس والمرشد في آن معا.
عُقد الاتفاق النووي عام 2015 في عهد الرئيسين باراك أوباما وحسن روحاني، رغبةً من الولايات المتحدة في وضع حد لقدرة إيران على صنع سلاح نووي، ثم احتدمت العلاقات الإيرانية ــ الأمريكية بعد انسحاب ترامب عام 2018 وفرضه المزيد من العقوبات على إيران.
وفي عام 2019 فرض الرئيس الجمهوري عقوبات أخرى على إيران بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والقمع الذي مارسته السلطة الإيرانية ضد الحركات الاحتجاجية السلمية، إضافة إلى العقوبات المفروضة على إبراهيم رئيسي نفسه والمرشد ومؤسسة الحرس الثوري.
اقرأ أيضا:
وقد أدت حزم عقوبات ترامب، التي وصفت بأنها “الأقسى” في التاريخ، إلى تدهور الاقتصاد الإيراني بشكل مباشر وفوري. على سبيل المثال: وصل معدل التضخم إلى 41%، ولعل هذا هو السبب الذي يجعل رئيسي الآن في عجلة من أمره للعودة إلى فيينا 7 وإبرام اتفاق يساعده على تحقيق وعوده الانتخابية.
على هذه الوتيرة جاءت إدارة بايدن بشروط محددة مستغلة الحاجة الإيرانية الماسة إلى عودة واشنطن للاتفاق ورفع العقوبات، ومنها:
1ـ عودة إيران إلى الاتفاق أولا أو العودة خطوة مقابل خطوة.
2ـ مناقشة الدور الإقليمي الإيراني، خاصة في الملفات ذات الصلة بأمن تل أبيب.
3ـ مناقشة برنامج الصواريخ البالستية المثير للجدل.
صداقة قبل عداوة
ربطت البلدان علاقات صداقة وطيدة وصلت إلى حد التحالف في كثير من مراحل التاريخ الحديث، وقد أبرمتا “معاهدة صداقة” في عهد آيزنهاور ــ محمد رضا بهلوى. ونصت هذه المعاهدة على 23 مادة هدفهت لتعزيز التعاون المشترك بين البلدين والشعبين بما يتضمن إقامة علاقات سلام وصداقة وعلاقات تخدم الجانب الاقتصادي والتجاري والحقوق القنصلية بالإضافة إلى تسوية الخلافات القانونية التي تختص بشركات ورعايا البلدين.
في أثناء الصراع بين الدولتين عادت التفاهمات مرة أخرى خاصة إبان غزو العراق 2003 الذي يرى البعض أنه نتاج تقاسم المصالح بين إيران وبين الولايات المتحدة، إذ كانت إيران أول من يعلم بغزو الولايات المتحدة للعراق حتى قبل حلفاء الولايات المتحدة أنفسهم، وقد أدى هذا الغزو إلى إزاحة الرئيس صدام حسين الذي يوصف بأنه كان العدود اللدود للنظام الإيراني.
ويرى بعض المحللين أيضًا أنه لولا النفوذ الإيراني في أفغانستان وإمداد طهران لواشنطن بخرائط المناطق الجبلية الوعرة لما استطاعت الولايات المتحدة احتلال الأخيرة عام 2001. بالتالي، يمكن استنتاج الآتي:
اقرأ أيضا:
أولا: تفاهم الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإيرانية يحدث في إطار “المصالح المشتركة”، وليس لتحقيق السلام العالمي كما يتم الترويج لذلك.
ثانيا: لإيران جيش قوي يمكن للولايات المتحدة استغلاله كشرطي في المنطقة. وبالتالي، تستمر الحروب الكلامية فقط بين الجانبين من دون اللجوء إلى الحرب العسكرية.
خاتمة
يبدو أفق التفاهم بين بايدن وبين رئيسي ليس بعيد المنال بالرغم من تباين البيئتين الشخصيتين لكل منها واختلاف أيديولوجيتيهما؛ ولذلك فمن المرجح تمكن بايدن من احتواء تشدد رئيسي من خلال المفاوضات الحالية غير المباشرة في فيينا وصولا إلى نقطة زمنية مشابهة لنقطة التفاهم المشترك إبان صفقة إيران كونترا حين أمدت إدارة الرئيس رونالد ريجان إدارة الرئيس علي خامنئي بالسلاح والعتاد لتقوية جبهتها في حرب الأخيرة ضد العراق (1980 ـ 1988)، ثم التفاهم رفيع المستوى بين إدارتي بوش وخاتمي في 2001 قبيل غزو أفغانستان و2003 عند غزو العراق.
ــــــــــــــــــــ
ندى عبد الباسط
باحثة مساعدة في العلاقات الدولية