في العام 2006 بدأتُ التخصصَ في الشؤون الإيرانية، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه الدكتور مصطفى اللباد، تحفته الفكرية “حدائق الأحزان.. إيران وولاية الفقيه”، وبطبيعة الحال اقتنيت الكتاب من دار الشروق في ميدان طلعت الحرب بوسط القاهرة، وعلى حد ذاكرتي بلغ سعره 25 جنيها، وكان رقما كبيرا بالقياس إلى أسعار الكتب الأخرى في ذلك الوقت. على سبيل المثال كان سعر كتاب “إيران من الداخل” للأستاذ فهمي هويدي عن الدار نفسها 18 جنيها، وسعر كتاب “مدافع آية الله” للأستاذ محمد حسنين هيكل 20 جنيها، عن الدار نفسها أيضا.
نظرا لارتفاع سعر كتاب اللباد بالمقارنة مع أسماء مؤلفي تلك الكتب، فقد كان أول أمر يلفت نظري بشدة إلى هذا الرجل، بحكم أن التميز في السعر لابد أن يستتبعه تميز في الطرح والمحتوى.
ولما سألت الزملاء في الدار قالوا: إن الطبعة فاخرة، وغلافها من اللون الأسود الممتاز، وورقها من النوع الحديث الذي يفضله المصدرون في عمليات تصدير الكتب إلى الخارج نظرا لكونه خفيفا لا يستهلك وزنا كبيرا في الجمارك.
قرأت الكتاب مرتين الأولى استغرقت 3 أيام، والثانية استغرقت نحو شهر، ووقتها كنت أفكر في رؤوس موضوعات تصلح لأطروحتي لنيل درجة “التخصص” الماجستير في الشؤون الإيرانية، بعد أن كلفني أستاذي الدكتور، السيد محمد الدقن، رحمه الله، بالإتيان بورقة فيها 10 رؤوس موضوعات عن إيران للتسجيل في التخصص، وقد ساعدتني أفكار اللباد على جلب بعض منها.
بعد ذلك بثلاث سنوات في 2009 نشر مركز الأهرام كتابا تحليليا مهما للغاية عن إيران، بعد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد لدورة رئاسية ثانية، وحمل الكتاب عنوان “إيران.. جمهورية إسلامية أم سلطنة خمينية؟” شارك فيه 5 من أهم المتخصصيين في تحليل السياسات الإيرانية، وهم: الدكتور محمد السعيد عبد المؤمن، والدكتور مدحت حماد والدكتور محمد عباس ناجي، والدكتور وحيد عبد المجيد، ووضع المركز دراسة اللباد في صدر الكتاب وحملت عنوان “طائر إيران الخرافي ثلاثي الأجنحة”.
كان عنوان البحث غرائبيا وعجائبيا على نحو لافت، وهو ما جعلني أقرأه بعناية عدة مرات ثم بعدها حرصت على متابعة ما ينشره على الإنترنت خاصة أن خدمات الشبكة الدولية للمعلومات في ذلك الوقت قد بدأت تحظى برواج وأهمية مع تزايد عدد المواقع الإلكترونية للصحف.
في تلك المرحلة من حياتي البحثية كنت أستمع وأقرأ كثيرا، وأكتب قليلا، ولا أتحدث أبدا، ولتعزيز خاصية السمع؛ كنت أحرص على حضور كل (كل بمعنى كلمة كل) الندوات والمؤتمرات والفعاليات المتخصصة في الشؤون الإيرانية.
ولما كانت إيران قد خرجت من أتون انفجار اجتماعي كبير في أعقاب فوز محمود أحمدي نجاد بالولاية الرئاسية الثانية، كان أن أقام مركز الأهرام مؤتمرا متخصصا في تحليل السياسات الإيرانية، وبطبيعة الحال حضره قطاع كبير من الباحثين ذوي الصلة، أغلبهم أصبح صديقا مقربا حتى الآن.
في أثناء استراحات المؤتمر تحدثت مع عدد كبير من الأساتذة والباحثين لكني لاحظت تغيب اللباد عن المشهد، وهو صاحب الكتب والأبحاث والمؤلفات المدهشة في التخصص، عندها خطر ببالي أن أطلب رقم هاتفه من أحد الزملاء وأتصل به وأطلب أن أستزيد من معارفه وجها لوجه طالما تعذر حضوره، أو هكذا بدا الأمر لي.
اتصلت به وعرفته على نفسي وطلبت مقابلته، لكنه أعطاني موعدا مفاجئا.
قال: أنتظرك غدا في مكتبي بالجيزة، ممكن نجلس سويا من 8 صباحا حتى 8:30 أي لمدة نصف ساعة.
كنا في ديسمبر وبطبيعة الحال الطقس شديد البرودة وحتى أقابله في تمام الثامنة في مكتبه يلزم أن أستيقظ على الأقل في السادسة صباحا، لكن نظرا لأني أحب الاستيقاظ مبكرا جدا، ونظرا لأنني من سكان الجيزة على بعد 5 دقائق بالسيارة من مكتبه؛ فقد وافقت.
والحق أنني كنت سأذهب إليه حتى لو أعطاني موعدا في الخامسة صباحا أو الواحدة بعد منتصف الليل؛ فقانون الحياة المنطقي الذي يحكم تفكيري أن الطالب يجب أن يتأقلم مع نظام المطلوب.
في الثامنة بالضبط صعدت إلى مكتبه، وهو مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية، ولاحظت اهتمامه بالتاريخ والجغرافيا؛ لفهم أبعاد الصراعات، ثم لاحظت نبرة شجن محشورة في حلقه؛ حزنا على الأحلام التي استعصت أمامه، وغضبا من المعاني التي استغلقت عند باب قلمه.
ثم عدت بذاكرتي إلى الإهداء الدال الذي صدّر به “حدائق الأحزان”، وخطر ببالي أنه في هذا المكان المغطى ببعض الصور، والمفروش بسجاد كاشاني صغير، في قعر الحجرة، يكتب أبحاثه على وقع مقامي “راست” و”نهاوند”.
وبدلا من النصف ساعة جلست في ضيافته لنحو ساعتين، جرت فيهما أشياء كثيرة.
جرت فيهما في عقلي دماء جديدة في التخصص، وجرت في يقيني مبادئ تأسيسية حول فهم إيران والتعامل معها.
ثم ماذا إذن؟!
ثم ما هو أهم، حين جرى تنظيم تفكيري حول طريقة العمل الأكاديمي الواقعي المتخصص في الشؤون الإيرانية، وحسابات الظهور الإعلامي وكيفية التحدث في المؤتمرات وخلافه، وهي أمور لا تقل أهمية عن تحصيل العلم نفسه.
قال لي اللباد كلمات كثيرات ما تزال عالقة بذهني، لكنه قال: “كنت أظنك عندما حادثتني في الهاتف من الشبان غير المسؤولين (في الواقع استخدم رحمه الله اصطلاحا شعبويا آخر) الذين يريدون العمل في المجال البحثي من أجل المال والشهرة، ثم اتضح لي أنك بحق محب للعلم، وطالما أنت كذلك استعد لتحمل المسؤولية في القريب العاجل”.
دارت الدنيا، ومرت السنون، وبدأت في تلقي مكالمات شبيهة بالمكالمة التي أجريتها مع اللباد، ومن الغريب أنني أردد بوعي ـ وأحيانا بدونه ـ على بعض زملائي الباحثين حديثي التخرج كلمات كمثل الكلمات التي قالها لي في ذاك الصباح القارس من ديسمبر قبل عشر سنوات.
رحمة الله على من أصاب وأخطأ، ومن أمكنك الاتفاق والاختلاف معه، ومن لا يمكنك نكران تأثيره الواسع وموهبته النادرة.