يتفق عدد كبير من المختصين في الشؤون الإيرانية على أن فكرة إسقاط النظام الإيراني ليس لها وجود في شكلها الواقعي على سلم الأولويات في الأجندات الأمريكية على أقل تقدير في الوقت الراهن، ومن الواضح أن التوجه الأمريكي والعربي لا يدعم فكرة إسقاط النظام في طهران بقدر تقويم سلوك وإصلاح سياسات إيران سواء على صعيد نفوذها بالمنطقة أو فيما يتعلق ببرنامجيها النووي والصاروخي، إذ إن التوجس الذي يتملك صناع القرار من تداعيات وانعكاسات انهيار النظام الإيراني على المنظومة الإقليمية يفوق مخاطر بقاء نظام ولاية الفقيه على سدة الحكم، بالإضافة إلى ذلك هناك عوامل موضوعية منها سياسية واقتصادية وأخرى عديدة تجعل من فكرة العمل العسكري الدولي الشامل أو المحدود سيناريو مستبعد في الوقت الحالي خاصة في ظل نجاح النظام الإيراني على ضبط إيقاع تحركاته وعدم تجاوزه للخطوط الدولية الحمراء.
وبناء على ذلك نلاحظ أن إدارة ترامب والقوى العربية الجديدة الصاعدة، قد استبدلت فكرة تطبيق سيناريو التحالف الدولي مع نظام طالبان 2001 أو نظام صدام حسين 2003 مع نظام ولاية الفقيه، إلى الرهان على خلق وابتكار أدوات ذات ضغط وتأثير على نظام طهران يرتكز اعتمادها في تحقيق نتائجها على الداخل الإيراني سواء على الصعيد السياسي أو الشعبي.
التساؤل المهم، هو ما مدى واقعية تلك الأدوات وأوراق الضغط في تحقيق غايتها؟ وهو ما يدفعنا لتحري سيناريوهات المستقبل أو بالأحرى الغوص في العقلية الاستراتيجية لصناع السياسيات بالنظر إلى تداعيات كل سيناريو من السيناريوهات على حدة.
السيناريو الأول: انقلاب الحرس
الانقلاب “وفق المعنى التقليدي له” هو سيناريو مستبعد حدوثه تماما في ظل انعدام أي تأثير ملموس للجيش الإيراني في الحياة السياسية مقارنة مع أذرع النظام العسكرية
(الحرس الثوري ـ الباسيج).
يجب أن ندرك أن هناك فريقا من الساسة الغربيين يضعون في الاعتبار أن معظم قادة الحرس الثوري ارتباطهم مع ولاية الفقيه قائم على “تحالف المصالح” أكثر من الارتباط الفكري، وهنا المراهنة على معادلة زيادة الضغط على النظام السياسي الإيراني قد يؤدي إلى تحرك الحرس الثوري لاتخاذ خطوات مضادة تحافظ على الحد الأدنى ـ على أقل تقدير ـ من مصالح الحرس وبقاء نفوذه في الحياة السياسية في إيران.
السيناريو الثاني: الثورة الشاملة
يجب التأكيد على أن الجميع يتفقون على أن الاحتجاجات دخلت عامها الأول ولم تلقى أدنى أشكال الدعم خارجي، وفي ظل عدم توافر الحاضنة الدولية لها وتشكيل قيادة موحدة للمحتجين والاعتراف بها، فستبقى تلك الاحتجاجات ذات تأثير محدود لا تتعدى حيز الازعاج للنظام في ظل عدم تطورها والتسبب في حدوث خطر يهدد مستقبله واستمراره.
واللافت أن هناك مساعي كبيرة تعمل في الخفاء منذ عدة شهور، على تجاوز تلك المعوقات التي تعيق نجاح سيناريو الثورة، ومن يقود تلك المساعي هم “الفرنسيون” من جهة وكذلك بعض السياسيين في الولايات المتحدة من جهة أخرى، وتتمثل تلك المساعي في الضغط على إدارة ترامب في الاعتراف بالمجلس الوطني للمعارضة الإيرانية واستقبال رموز المعارضة في البيت الأبيض، وكذلك العمل على توحيد رؤى المعارضة الإيرانية من “الملكيين ومجاهدي خلق”.
السيناريو الثالث: الإصلاح من الداخل
سيناريو الإصلاح أو الثورة الداخلية للنظام، هي المراهنة على فترة ما بعد علي خامنئي بحيث تعقد الآمال على تولي الحرس الجديد “الصف الثاني” من أنصار الثورة على ولاية الفقيه، السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة، ومن ثم إعادة صياغة سياسات النظام بشكل جذري يتناسب مع الظروف القائمة والمعطيات السياسية بعد ٤٠ عاما من قيام ولاية الفقيه.
وأعتقد أنه من الحكمة ألا يتملكنا تفاؤل مفرط في حتمية سقوط النظام الإيراني بناءً على المتغيرات الدولية تجاه إيران وأعني هنا بالمتغيرات المتمثلة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة وما صاحبها من إجراءات أو الاكتفاء في تعقد وتأزم المشهد الداخلي لإيران.
لكن في علم السياسة والتاريخ والمنطق لا يمكن للنظام الإيراني الصمود والبقاء في مواجهة عوامل السقوط والاهتزاز التي بدأت تعتري بنيته الأساسية بشكل جلي وواضح خلال الفترة السابقة وهي، على سبيل المثال:
- الانقسامات الداخلية العميقة بين أقطاب النظام.
- تفشي الفساد والترهل البيروقراطي.
- تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية.
- تفاقم المشكلات الاجتماعية بمختلف أشكالها.
- القمع المتزايد للشعوب غير الفارسية.
مع الأخذ في الاعتبار أن تلك العوامل قابلة للتضخم والانفجار في زيادة حدتها وليس العكس.
ومن الجانب الآخر تتعمق أزمة النظام مع المجتمع الدولي، بحيث أصبحت الخيارات التي يمتلكها النظام محدودة جدا وضيقة، فإيران التي لا يمكن أن تقبل بالشروط الأمريكية حفاظا على مكتسبات النظام في الوقت ذاته، لا تمتلك ـ في الوقت ذاته ـ أدنى مقومات المواجهة واحتواء التداعيات.
وقد لا يختلف باحثان في الشأن الإيراني على أن بقاء نظام ولاية الفقيه على سدة الحكم يعني في الضرورة استمرار الإرهاب والفوضى في المنطقة.
هناك من يرى بأن السبيل الأمثل لسقوط نظام طهران هو العمل على تطبيق معادلة تحالف دولي + حليف محلي إيراني، ولكن بحكم ما تستدعيه تلك المعادلة من تبعات ونتائج، لا يريد أي طرف دولي وإقليمي تحمل مسؤولياتها منفردا. وعلى الرغم من الأنباء التي تشير إلى تحرك الولايات المتحدة في إعادة نشر عناصر من مجاهدي خلق في العراق، لكن ذلك لا يعدو كونه يأتي في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى محاصرة النظام الإيراني.
وأعتقد أن المعادلة الأكثر واقعية في تطبيقها والأقل في تبعاتها قياساً بالأولى والأكثر قبولاً لدى الأطراف المعنية هي تحالف دولي + حليف إقليمي. كسبيل إلى تغير المعادلة الإقليمية وإنهاء النفوذ والوجود الإيراني في المنطقة.
وعليه يمكن القول إن معادلة التحالف الدولي + حليف إقليمي ترتكز على بعدين:
ـ البعد الأول: تحالف دولي + حليف إقليمي أعني به حليف متمثل في كيان “دولة” على غرار المملكة العربية السعودية من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، وهو نموذج قائم في المنطقة.
– البعد الثاني: تحالف دولي + حليف إقليمي محلي على غرار نموذج “الحكومة الشرعية في اليمن”، وهو تبني الفئات السياسية العراقية والسورية ولبنانية وغيرها المعادية للنفوذ الإيراني وهو نموذج غير مكتمل الأركان وغير واضح المعالم إلى الآن.
وفي هذا البعد تتم معالجة الشتات السياسي المزمن الذي تعاني منه الجماعات الوطنية السياسية في معظم دول المنطقة التي تتمتع فيها إيران بنفوذ شبه مطلق، وتتمثل آليات عمل المعادلة في تشكيل جبهة موحدة ذات رؤية واستراتيجية واضحة الأهداف تنطوي تحت غطاء دولي وإقليمي يوفر لها الدعم على المستويات والأصعدة كافة.
إن معادلة “تحالف دولي + حليف إقليمي محلي” هي معادلة قابلة للتطور من الدعم السياسي إلى صناعة نموذج عسكري محدود الأجندات كنموذج مصغر من الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا ونموذج موسع من عاصفة الحزم التي تقودها المملكة العربية السعودية في اليمن، ومن المؤكد أن إجبار النظام الإيراني على الانطواء في إطار حدوده الجغرافية في ظل الضغوط الداخلية المدعومة بالعوامل السياسية والاقتصادية الأخرى كفيل أن يحقق إما:
ـ التآكل التدريجي للنظام وبلوغه مرحلة السقوط الداخلي.
ـ تحويل إيران من جمهورية إسلامية ثورية عابرة للحدود إلى جمهورية منكفئة ذاتيا على مشاكلها الداخلية.
في نهاية المطاف يدرك النظام الإيراني أن عليه إعلان استسلامه للحفاظ على بقائه، وأن محاولات الالتفاف على العقوبات الأمريكية والتمسك بخيار المواجهة سوف يؤدي إلى زيادة أشكال وأدوات الضغط الدولي الموجهة ضده، ولكن يبقى الخيار العسكري مرهونا في تطور المواقف والقرارات التي يتخذها صانع القرار في طهران تجاه الملفات العالقة.