فرضت إيران نفسها كقوة مؤثرة في المحيط الإقليمي، وباتت رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في قضايا المنطقة، دفع هذا الواقع إلى تعدد القراءات العربية لطبيعة الدور الذي تلعبه من جهة، وكيفية التعامل معها تبعا لذلك من جهة أخرى، فقد تباينت المواقف على مستوى النخب السياسية والفكرية والأكاديمية في تفسير السياسات الإيرانية والخيارات الأفضل للحد من تأثيراتها السلبية أو حتى الاستثمار في قدراتها.
تستند كل قراءة إلى جملة من العوامل الموضوعية التي تفسرها؛ يأتي في مقدمتها:
أولا: الحتمية الجغرافية باعتبار إيران أهم جار للدول العربية إلى جانب تركيا، بالتالي فإنه لا مفر للعرب من التعامل معها وتفهّم مصالحها بوصفها قوة إقليمية بدل محاولات تحييدها النهائي كأنها غير موجودة على الخريطة أصلا.
ثانيا: تغفل هذه القراءة أن الجغرافيا في بعدها التاريخي تشير أيضا إلى أن إيران في مختلف العصور سعت إلى التوسع في جوارها كلما امتلكت عناصر قوة أكبر، وأن قوة الدول المحيطة بها كانت العامل الأساسي الذي دفعها إلى الانكماش.
ثالثا: تنطلق قراءة أخرى من البعد الديني مركزة على انتماء إيران إلى الأمة الإسلامية، ما يعني وجود الكثير من المشتركات التي يمكن الانطلاق منها لتأسيس لعلاقة تعاونية تتجنب المختلف عليه وفق القاعدة المتداولة في الأوساط الإسلامية الحركية: (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه).
رابعا: تغفل هذه القراءة بدورها أن التباينات الدينية العقدية بين إيران بوصفها دولة شيعية –كما ينص دستورها وخلفية قيادتها السياسية – وجل الدول العربية بوصفها سنية؛ جوهرية عميقة لا يمكن تجاوزها عند أخذها بعين الاعتبار كمحرك وموجه لسياسة الطرفين.
خامسا: لعل ما يجري في المنطقة منذ العام 2011 وتحديدا على الساحة السورية كان اختبارا حقيقيا للفرضية أعلاه وأثبت الأرضية الهشة التي تقف عليها، وكيف كانت عاطفية مثالية تبحث فيما يجب أن يكون وليس ما هو كائن كما يقول الواقعيون.
سادسا: تدفع الواقعية السياسية إلى الأخذ بعين الاعتبار القوة كعامل أساسي وجوهري في ترتيب العلاقات مع إيران وغيرها، ولا يمكن الاستغناء عن أي من أدواتها في ذلك حسب ما يقتضيه تقدير كل موقف. لكن تجدر الإشارة في هذا السياق إلى ضرورة تجنب الثنائيات الحدية على شاكلة العدو الدائم أو الصديق الدائم، وهذا ما تفعله إيران نفسها.
سابعا: كشفت العقود الأخيرة كيف أن إيران رفعت ولازالت شعارات الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر التي تفرض العداء المستديم لكن التجارب أثبتت أنها في الوقت نفسه لم تفوت الفرص التي أتيحت لها للتخلص من نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق ثم استغلال الفراغ الاستراتيجي لاحقا وتوجيه المعارضة الشيعية التي كانت تدعمها للاستحواذ على السلطة وخلال كل هذا تعاونت طهران في العديد من المحطات سياسيا وعسكريا، مع الاستمرار في تقويض المصالح الأمريكية في البلدين؛ لأن ما حصل لم يعن نهاية التنافس بينهما.
ثامنا: يفترض بالحكومات العربية التعامل مع إيران بالمنطلقات نفسها؛ فكون إيران جارة وقوة إقليمية لا يعني ذلك التسليم بدورها والخضوع لكل ما تريده، مع ضرورة التفريق بين الدولة والنظام السياسي الذي لا يعد وفق المقاربة الدستورية والسياسية إلا معبر عن العلاقة بين الشعب والإقليم اللذين يمثلان الركنين الأساسيين في الدولة، وهذا ما حصل تحديدا في أفغانستان والعراق حيث بقيت الدولتان مع تغير الأنظمة السياسية، وإذا كان الحد من نفوذ إيران يستدعي سلوكا مماثلا فيجب طرحه كبديل على طاولة صانع القرار.
خاتمة: تظهر الجغرافية السياسية الإيرانية أن إيران لم تكن على الشكل الحالي على مر العصور، فقد عرفت انكماشا وتوسعا تبعا للتحولات الطارئة داخليا وخارجيا، كما أنها تحوي تركيبة متنوعة من الشعوب تطوق حدوها، والكثير منها له طموحات استقلالية، وكما وظفت إيران الجغرافية العربية لصالحها باستغلال الأقليات الشيعية فإن منطق “المعاملة بالمثل” يلزم كذلك بعدم ادخار أي وسيلة بإمكانها على الأقل الحد من السياسات الإيرانية تجاه المنطقة العربية.