إذا كان السؤال هو “نصف” الإجابة، فإن الفهم الصحيح هو “كل” الحُكْم السليم، وهو ما يعني أن “فهم” دوافع النظام الإيراني في الظرف الراهن فيما يتعلق بالشرق الأوسط وإسرائيل في القلب منه، يجعل من اليسير الحكم على سلوكه، وهو يعلن بنفسه في وسائل إعلامه وفي خطاباته الرسمية أن مشروعا كبيرا في منطقة غربي أسيا يتبناه ويسعى لتنفيذه.
إيران بعد حسن نصر الله
السؤال الأهم في هذا المضمار بعد وقائع اغتيال حسن نصر الله ومن قبله قاسم سليماني وإسماعيل هنية: ما هي إستراتيجية إيران في الإقليم أصلا؟ هل هي إستراتيجية عسكرية حربية كما كان الحال في عصور الأكاسرة قبل التاريخ حين كانت بلاد فارس تحتل الجغرافيا وتحكم بنفسها البلدان التي تُخضعها بالحديد والنار؟!
الإجابة: أن الإستراتيجية الإيرانية المتبعة اليوم ليست هي مثلا الإستراتيجية التي اتبعتها في عصور صراعها مع الروم ولا حتى في عصور احتلالها دولة كبيرة مثل مصر حكمتها عشرات السنوات من الزمن، لدرجة أن الأسرة السابعة والعشرين بالكامل في عصر الدول المصرية القديمة (525 ق. م. ــ 404 ق. م.) كانت فارسية من أولها حيث حكم “قمبيز” إلى آخرها حيث تربع “دارا” على عرش البلاد.
الجديد في هذا العصر أن إيران تتماشى مع النهج العالمي الراهن وهو القائمة إستراتيجياته على استخدام الميليشيات وتجنيد القوات المحمولة جوا وبحرا، وتدشين وسائل الإعلام باللغات المختلفة ومن ثم التأثير الفعلي في المجتمعات والسياسات، من دون الانخراط المباشر في الصراعات، اللهم فيما عدا الوجود الرمزي للمستشارين، كما في واقعة اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني في لبنان، عباس نيلفوروشان، الذي قضى نحبه جنبا إلى جنب مع حسن نصر الله.
عقلية صانع القرار الإيراني
منذ السابع من أكتوبر 2023 عمل صانع القرار الإيراني على تفادي الانجرار إلى الحرب المباشرة مع إسرائيل التي تقاتل بنفسها من دون الحاجة إلى وكلاء؛ ببساطة لأنها هي نفسها وكيلة للناتو وللمصالح الاستعمارية الغربية.
بالتالي ليس من المنطقي أن يستأجر الغرب وكيلا ثم يستأجر هذا الوكيل وكيلا آخر من الباطن، وبالتالي يبدو الخيار الأفضل لإسرائيل أن تقاتل إيران رأسا لا أن تضطر لقتال وكلاء أو حلفاء أو شركاء لها في الإقليم، هروبا من الحروب غير المتناظرة إلى القتال التقليدي المعروف في كتب الحرب.
ولعل سبب الرغبة في تفادي الدخول بالحرب من وجهة نظر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني هو مخافة أن تفقد طهران قدرتها على التأثير منخفض التكلفة، وتذهب إلى التأثير باهظ التكلفة، كما أن صانع القرار هذا يدرك أن التصعيد يصب في مصلحة إسرائيل التي تريد أن تذهب إلى أبعد مدى في استخدام القوة، متمترسة خلف القوى الغربية التي احتكرت لعقود طويلة الحصة الأكبر من سوق إنتاج ومبيعات وتكنولوجيا السلاح حول العالم.
الحرب في العقلية الإيرانية
لكن النقطة الأهم في هذا المضمار أن الذاكرة الإيرانية القريبة ما تزال تنفر من الهيجاء، وتحتفظ بصور درامية من سنوات الحرب مع العراق تلك التي امتدت بين عامي 1980-1988م، حين استخدم الرئيس صدام حسين الأسلحة الكيماوية في بعض فترات المعارك مع إيران؛ ما أدى إلى انتهاء الحرب بآلاف حالات التشوه في صفوف الشبان الإيرانيين، ودمار شامل للبنى التحتية خاصة في الأقاليم الغربية لإيران، والأهم من كل ذلك بوار الأراضي في تلك الأقاليم وإخراجها من الحزام الزراعي حتى الآن وإلى الأبد.
يؤكد ما سبق الدراسات التي تناولت آثار الحرب العراقية، على الثقافة الإستراتيجية للعقلية الإيرانية، أخذا في الحسبان أن تلك الحرب كانت ضرورية لتوحيد الداخل خلف آية الله الخميني، الذي تولى القيادة الجديدة التي أعقبت الشاه محمد رضا بهلوي (1941ــ1979م) وكانت لها اعتبارات وطنية بحتة؛ لأنها كانت دفاعا عن الأرض وليست انتصارا لمواقف إستراتيجية ولا دينية ضد إسرائيل، مع التأكيد على أن المجتمع الإيراني الراهن التائه والمتشرذم ليس هو المجتمع الثائر والموحد الذي كان موجودا في عام 1980م.
لا يعني هذا بطبيعة الحال أن خيار الانخراط في الحرب ليس مطروحا على الطاولة، بل نادت به أصوات عالية ذات حناجر مسموعة بالداخل مثل رئيس تحرير صحيفة كيهان التابعة للمرشد، حسين شريعتمداري، الذي طالب بلاده في افتتاحية الصحيفة يوم الإثنين 30 سبتمبر 2024م، بالدخول في الحرب وضرب الموانئ والمطارات الإسرائيلية، ربما بدافع الاستفادة من الخبرة المصرية حين تمكنت قوات الضفادع البشرية المصرية من إذلال إسرائيل وتدمير ميناء إيلات بمن فيه وبما عليه عام 1968م.
خاتمة
في النهاية يمكن القول إن ما يتعين على إيران فعله في ظل الانكشاف الاستخباراتي أمام الموساد باعتباره وكيلا لأجهزة مخابرات الناتو، هو أن تقوم بعدة إجراءات في مجال الأمن الوقائي، ومنها: تطوير برامجها الوطنية الداخلية الخاصة بمنصات التواصل الاجتماعية، وحظر استخدام الهواتف الذكية على بعض موظفيها العاملين في قطاعات حساسة مثل القوات المسلحة والحرس الثوري ووزارة الخارجية، وعدم ربط كاميرات المراقبة بشبكات الإنترنت الدولية، وتشديد التدابير الأمنية حول منشآتها الحيوية بما فيها المفاعلات النووية والقواعد العسكرية ومرافق البنى التحتية، وعدم السماح لضيوفها رفيعي المستوى مثل إسماعيل هنية باستخدام الهواتف الذكية، والاستعانة بالخبرات الروسية والصينية في مضمار تطهير المؤسسات الرسمية من أجهزة التنصت والتتبع، وتوطين تكنولوجيا أنظمة الاتصالات مثل البيجر والووكي توكي، وعدم استيرادها من الخارج تحت أي ظرف تفاديا لتكرار تفجيرات البيجر في بيروت، أو تفجير الطائرة الرئاسية الإيرانية في نهار التاسع عشر من مايو عام 2024م.