انتهت الانتخابات الرئاسية في إيران بإعلان فوز المحافظ حجة الإسلام والمسلمين، إبراهيم رئيسي، في مساء يوم السبت التاسع عشر من شهر يونيو الماضي، وعلى الرغم من أن الحديث عن الانتخابات قد يبدو متأخرًا إلا أن غاية أخرى جاءت وراء تلك الانتخابات التي أظهرت أمام العالم كله مدى تحكم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية بمقاليد الأمور جميعها بما في ذلك الاستحقاقات التشريعية في البلاد، وقد عرف العالم كله كيف يدير المرشد أي استحقاق انتخابي لتصعيد شخوص بعينهم على حساب آخرين.
ما وراء تصعيد إبراهيم رئيسي
لا يكمن الحديث هنا عن الانتخابات بحد ذاتها، بل يكمن في البحث فيما وراء تصعيد إبراهيم رئيسي، والإجابة عن تساؤل «لماذا؟» وليس الإجابة عن تساؤل «كيف؟».
إذ تمثل نظرية ولاية الفقيه دافعًا مهمًا جعل المرشد وأجهزة إيران العليا تفضل إبراهيم رئيسي ــ المحافظ المتشدد ــ عن أي شخص آخر ما دامت المفاضلة في الانتخابات الإيرانية تتم بين الإصلاحيين وبين المحافظين كما جرت العادة في الاستحقاقات الانتخابية في إيران ما بعد الثورة الخمينية لعام 1979.
بالنظر إلى تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية فيما يتعلق بالصراع على السلطة سيبدو أنه منحصر بين فئتي الإصلاحيين والمحافظين، لكن ما يفسر رغبة المرشد في تصعيد أي منهما تكمن فيما في رأس كل منهما من أفكار ومدى تطابقها مع ما في رأس المرشد من أفكار.
ولعل التاريخ يدلنا على أن الإصلاحيين دائمًا لديهم ميول لتعديل بعض المواقف السياسية داخليًا وخارجيًا، حتى إن أياديهم سبق أن امتدت إلى محاولة إدخال تعديلات على جوهر نظرية ولاية الفقيه التي تمثل قرآن السياسة الإيرانية الذي لا يمس.
سبق رفسنجاني وخاتمي
سبق إلى ذلك التصرف كل من هاشمي رفسنجاني ومن بعده محمد خاتمي الذي قدم تشريعًا قانونيًا إلى مجلس الشورى الإسلامي “البرلمان” يسمح بتوسيع صلاحيات رئيس الجمهورية وانتخاب المرشد لفترتين على حد أقصى، فضلًا عن محاولات الإصلاحيين الدائمة لتحسين العلاقات مع الغرب والظهور بمظهر ديمقراطي في مجتمع داخلي ثيوقراطي يناهض الديمقراطية ويعتبرها عدوًا أمام الدين وتعاليمه.
بالرغم من الاستفادة الكبيرة التي مُنحت للنظام الإيراني في فترة محمد خاتمي على وجه التحديد كمثال بارز على محاولاته الدؤوبة لإصلاح العلاقات مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وكذلك الدول العربية صاحبة التأثير والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن صلاحيات الرئيس المحدودة كانت عائقًا كبيرًا منعه من التحرك بحرية وتنفيذ برنامجه الإقليمي والعالمي والذي كان عنوانه «حوار الحضارات».
فمع محاولات خاتمي تلك وتقديمه بمشروع قانون يمس جوهر نظرية ولاية الفقيه ويخصم من صلاحيات المرشد لحساب رئيس الجمهورية إلا أن مجلس الشورى الإسلامي وبإيعاز من المرشد رفض تلك التعديلات ما جعل خاتمي يبكي في إحدى الجلسات الخاصة، مؤكدا أنه مكبل الحركة ولا يستطيع القيام بصلاحياته الدستورية.
ما بعد محاولات خاتمي
الأمر بالطبع لم يقف عند محاولات خاتمي، فعلى الرغم من إدراك كل رموز النخبة السياسية في إيران أن جوهر نظرية ولاية الفقيه يجعل من الرئيس الثاني (على حد تعبير أبو نصر الفارابي) أو رئيس الجمهورية موظفًا مأمورًا من المرشد ينفذ إرادته إلا أن محاولات الإصلاحيين لم تقف عند تلك المرحلة ولو بالحديث عن الرغبة في إصلاحات سياسية ودستورية تمكن الرئيس من التحرك بحرية وبدون قيود النظرية الخمينية العتيقة التي تبدو وكأنها صاحبة الأربعين ربيعًا، لكن مؤثرات القرون الوسطى مازالت حاضرة فيها حتى الآن فيها.
ليس أدل على محاولات إبعاد الإصلاحيين من قبل المرشد من رفض مجلس صيانة الدستور ترشح مصطفى تاج زاده في الانتخابات الرئاسية المنتهية، وهو أحد الوجوه الإصلاحية في إيران وسبق أن شغل منصب مساعد وزير الداخلية الإيراني في حكومة محمد خاتمي، إذ بعث برسالة إلى المرشد ودعاه لتشكيل “مجلس مراجعة الدستور” لـ”تصحيح” نواقصه، بما في ذلك موضوع جعل حكم المرشد الأعلى مؤقتًا، بحيث يعاد النظر في مبدأ “ولاية الفقيه”.
لقد طالب تاج زاده حينها بجعل بقاء المرشد في السلطة مؤقتًا عن طريق انتخابه، كما نوه لإمكانية دمج منصبي المرشد والرئيس في هيكل الحكم وهو ما جلب عليه الوبال من الجانب التيار المحافظ الذي اتهمه بالكفر وبالخيانة وأنه لا يؤمن بمبادئ الثورة الإسلامية.
خبرة حسن روحاني
الأمر لا يقف عند ذلك الحد، بل إن الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني سبق أن طالب في ديسمبر من العام الماضي 2020 بتعديل الدستور والسماح بصلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية في فترة الحرب.
واعتبر الرئيس المعتدل أن الحرب الاقتصادية الحالية على إيران حربًا بموجبها يجوز تعديل الدستور للسماح بحركة أكبر وأوسع للرئيس. وهو الطلب الذي بالطبع قوبل بهجوم عنيف من الكتلة الأصولية في مجلس الشورى الإسلامي التي أرسلت رسالة إلى المرشد تطالبه بتعديل الدستور بالفعل.
لكن هذا التعديل ليس كما أراد روحاني بل تعديل يمثل عقابًا لروحاني وقد طرحت الكتلة تغيير النظام الرئاسي إلى برلماني بحيث يتم إعادة النظر في شكل النظام الرئاسي واستبداله بمنصب رئيس وزراء. وهما الطلبان اللذان لم يرد عليهما المرشد لا بالقبول ولا بالنفي بل تمثل الرد في موقفه من طريقة هندسة الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
خاتمة
في المحصلة تكمن الأزمة الخاصة بالنظام الإيراني سواء من حيث الشكل أو المضمون في ذلك الدستور شديد التعقيد، الذي يسمح للمرشد (الولي الفقيه) بصلاحيات مطلقة على اعتبار أنه الحاكم المؤيد من قبل العناية الإلهية والذي لا يجوز عصيانه، وهي الصفات التي حاول الإصلاحيون عدم التقيد بها من حيث المضمون حين يكونون في المناصب العليا بالدولة، إذ يجنح خيال الإصلاحيين على مر العهود ويحلمون بمزيد من الصلاحيات وهو ما يقابل دائمًا برفض شديد من المحافظين وكذلك من المرشد نفسه.
يدرك المرشد جيدًا أن جوهر النظام الإيراني الثيوقراطي يقوم على تنفيذ بنود الدستور بمنتهى القوة والشدة، وتحديدًا ما يتعلق بنظرية “ولاية الفقيه”، مع الأخذ في الاعتبار أن أي تعديل في جوهر نظرية ولاية الفقيه – بناء على رغبة الإصلاحيين – يهدد بالفعل بقاء النظام الإيراني الحالي بشكل كامل.
بالتالي يرفض المرشد في الكثير من الأحيان كثيرًا من الأطروحات الإصلاحية التي تقدم له سواء فيما يتعلق بالوضع الداخلي أو حتى الخارجي، وهو ما يفسر الرغبة الكبيرة لدى المرشد للتعاون مع التيار المحافظ أكثر من رغبته في التعاون مع التيار الإصلاحي بشكل عام.