تنوعت خطط إيران وأدواتها لتحقيق مشروعها التوسعي في المنطقة العربية، وبالرغم من تغيير الأنظمة والحكومات في طهران، فإن المشروع الذي بدأ باحتلال الأحواز والجزر الإماراتية الثلاث في القرن الماضي، وصل في الوقت الراهن إلى مراحل خطيرة.
فالواقع أن طهران لم تخفِ هدفها ونيتها من تحركها العسكري والسياسي والأمني الذي يستهدف الدول العربية عامة، إذ صرح عدد من مسؤوليها عن أهداف توسعية. ولعل أكثر تلك التصريحات صراحة وشفافية تصريح “علي يونسي” مستشار الرئيس حسن روحاني، عندما قال: “كل منطقة الشرق الأوسط هي تابعة لإيران، واليوم قد تحققت الإمبراطورية الإيرانية، وعاصمتها بغداد، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا كما كان في الماضي. وإن شعوب المجاورة لإيران هم بالأصل إيرانيين وانفصلوا عن الإمبراطورية الإيرانية”.
وذهب حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، ليؤكد بوضوح الاستراتيجية التوسعية الإيرانية، حين قال: “إن الحدود الأمنية الإيرانية توسعت إلى البحر المتوسط، ولم تستطع كل محاولات أعداء إيران من إيقاف حركتنا”.
الخطة الخمسينية الإيرانية
ومن أجل وصول طهران لأهدافها رسمت الخطة الخمسينية، التي بموجبها تسعى للسيطرة على جميع الدول العربية خلال 5 مراحل، كل مرحلة من عشر سنوات. وحسب هذه الخطة، فإن أركان الدولة تعتمد على 3 ركائز، وهي: السلطة التي بيد الدولة، العلم والمعرفة عند العلماء، والاقتصاد والثروة عند التجار والرأسماليين.
وخططت إيران أن تستهدف تلك الأركان الثلاث في الدول العربية من خلال الوقيعة والفتنة بين تلك الجهات، والتوغل بالحكومات عبر العملاء، وتحريك العلماء ورجال الدين ضد حكوماتهم، بناء الحسينيات وشراء البيوت والأملاك، وتأسيس أحزاب وخلايا تجسسية وميلشيات عسكرية.
وإذا أسقطنا تحركات إيران وسياساتها في المنطقة العربية، نرى بوضوح أن أدوات وأساليب تلك الخطة التي قسمتها طهران إلى 5 مراحل، قد نفذت بشكل كامل في بعض الدول العربية مثل العراق واليمن، ونفذت بشكل جزئي في بعض الدول العربية الأخرى خاصة في سوريا ولبنان، وحاولت تنفيذها في البحرين والسعودية والكويت والسودان وجزر القمر.
والأحداث التي حصلت في الدول العربية في الآونة الاخيرة، مثل أحداث منى لعام ٢٠١٥، وقضية نمر باقر النمر في السعودية، ودعم وتحريك جماعة الوفاق في البحرين، وشبكات التجسس في الكويت وآخرها شبكة “العبدلي”، ودعم وتدريب المليشيات والأحزاب الشيعية في العراق وسوريا واليمن ولبنان والدول العربية الأخرى، تشكل أجزاء متفرقة من الخطة الخمسينية التي تهدف إلى السيطرة الكاملة على الدول العربية.
إيران والحوثيين في اليمن
بعد سيطرة الحوثيين على اليمن خريف عام ٢٠١٤، سارعت إيران في تنفيذ خطة “آناكوندا” بهدف محاصرة السعودية وعزلها بشكل كامل عن محيطها من خلال التحرك شمالا نحو البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، وشرقا نحو الخليج العربي وصولا إلى بحر العرب، واستلام طهران أحد موانئ سلطنة عمان بذرائع تجارية واستثمارية، ما هو إلا لإكمال حلقة الحصار حول السعودية.
وكادت أن تكتمل محاصرة السعودية بشكل كامل من خلال السيطرة على باب المندب، تطبيقا لخطة “إسكات”، التي استخدمت لأول مرة سنة ١٨٦١ من قبل الجنرال في الجيش الأمريكي الشمالي وينفلد اسكات، بهدف هزيمة الولايات الجنوبية. وعرفت الخطة في التاريخ العسكري باسم “Snake Great Scot’s“، التي أدت في النهاية إلى استسلام الولايات الجنوبية، بعد محاصرتها بشكل هادئ من خلال السيطرة على جميع الموانئ والحدود المائية للولايات الجنوبية وقطع جميع الإمدادات عنها.
بعد فشل خطة “الأناكوندا” الإيرانية بفعل عاصفة الحزم، التي أزاحت الحوثيين من المياه الإقليمية السعودية، سعت طهران بكل ثقلها تحت مسميات وعناوين عديدة أهمها محاربة الإرهاب وحماية المراقد الشيعية، إلى الحفاظ على وجودها العسكري في المنطقة العربية.
وشهدت المناطق الحدودية ما بين سوريا والعراق ولبنان في الآونة الأخيرة صراعا شديدا من أجل السيطرة على تلك المناطق انطلاقا من مدينة القائم العراقية، مرورا بدير الزور السوري، وصولا إلى مناطق جرود عرسال وبعلبك في لبنان.
استراتيجية الميليشيات
الحقيقة أن طهران تحاول جاهدة عبر ميليشياتها فتح طريق بري لها يمتد من إيران مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وصولا إلى بحر الأبيض المتوسط، في إطار خطة “الكوريدور” التي رسمتها طهران لتحقيق أهدافها التوسعية في المنطقة العربية. استطاعت إيران الهيمنة على بعض الدول العربية والتوغل الواسع في بعض الآخر، نتيجة عدة عوامل، أهمها: ازدواجية المجتمع الدولي في التعامل مع أزمات المنطقة، وغياب مشروع عربي لمواجهة التحديات والمخاطر، التي تعصف بالمنطقة.
وبما أنه لا يمكن لأي طرف بلوغ أهدافه في معظم الحروب والمعارك، إلا من خلال المعرفة الشاملة بالخصم ومكامن ضعفه، إلا أنه لم يستطع أحد الاقتراب من مكامن ضعف إيران القاتلة.
ولعل قضية الشعوب غير الفارسية التي تشكل نحو ٧٠ بالمئة من سكان إيران وعلى رأسها قضية الأحواز العربية، تعتبر أهم نقاط ضعف لدى إيران، التي لم تؤخذ بعين الاعتبار في ردع التوسع الإيراني الخطير.
والمؤكد أن مواجهة البيادق الإيرانية ستبقى على رقعة شطرنج المنطقة العربية، من دون وضع خطة لحركة “كيش مات للملك”، كالانتظار للمصير المحتوم والمرسوم من قبل طهران في خطتها الخمسينية.
الآثار المترتبة على التوسع الإيراني
توالت المواقفُ والتصريحات الصادرة عن القيادة الإيرانية المنتشية بتوسع نفوذها في المنطقة العربية؛ إلى حد إعلان الجنرال رحيم صفوي، المستشار العسكري لمرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي، أن “القرن الحالي سيشهد تشكل حكومة إسلامية عالمية ستكون إيران مركزاً لها”.
من قبل رحيم صفوي قال رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية، محمد حسين باقري: “إن إيران تسعى لإقامة قواعد بحرية في اليمن وسوريا مستقبلاً”، أما المرشد الإيراني علي خامنئي فقال: “إن الحشد الشعبي ثروة ورأس مال كبـيران لحاضر العراق ومستقبله، وعلينا دعمه وتعزيزه”، وكان القائد العام للحرس الثوري السابق، اللواء محمد علي جعفري، قال إنه من الممكن أن تتوجه بعض مليشيات الحشد الشعبي إلى سوريا لدعم النظام بعد الانتهاء من معركة الموصل.
وعليه تأتي هذه التصريحات مؤكدة لسابقاتها التي تحدثت عن سيطرة طهران على أربع عواصم عربية (بغداد، دمشق، بيروت، صنعاء)، ومتسقة مع أهداف نظرية ولاية الفقيه ووليدتها نظرية أم القرى، اللتين تجعلان من إيران ونظامها السياسي دولة مركزية ومرجعاً متنفذاً على الإقليم والعالم الإسلامي.
وبالنظر إلى التطورات التي تشهدها المنطقة العربية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، وبروز التدخل الإيراني في شؤون الدول العربية، وبصور مادية مباشرة، تكون الاستراتيجية الإيرانية قد تجاوزت مرحلة التنظير ودخلت حيز التطبيق الفعلي على الأرض العربية؛ فقد استطاعت إيران خلال خمسة عشر عاماً أن تحقق مكاسب كبيرة بتكلفة مادية وزمنية محدودة؛ ففككت الدول السنّية في حدودها، بالتعاون مع الأمريكيين في احتلالهم لكل من أفغانستان في عام 2001، والعراق عام 2003، الذي تشكل فيه نظام جديد موالٍ لإيران، وغدت متحكمة فيه من خلال المستشارين، وإنشاء كيانات سياسية ومسلحة للجماعات الشيعية العراقية، باتت تتنافس في تقديم الولاء لإيران، وهو ما يضمن استمرار تحكمها في المشهد الشيعي الحاكم في العراق.
وكذلك عززت إيران علاقتها السياسية والعسكرية والاقتصادية بسوريا، وعملت على نشر المذهب الشيعي، واستقطاب النخب في النظام السوري، وهو ما جعل نفوذها عميق التأثير داخل نظام بشار الأسد. أما في لبنان فقد جعلت إيران من حزب الله مرجعية للحركات الشيعية في المنطقة؛ بالتدريب وتقديم الدعم لها، بعد أن أحكم سيطرته على المشهد اللبناني.
خاتمة
لقد مثَّل صعود الحوثيين في اليمن، وسيطرتهم على مؤسسات الدولة في صنعاء، مثالاً لحالة استمرار تخبط بعض السياسات العربية تجاه إيران التي جعلت القوى السياسية العربية في أعلى سلم التهديدات، مغفلةً الدور الإيراني وأدواته. ثم أحدثت إيران اختراقات سياسية جديدة أخرى في النظام العربي، ولأول مرة؛ وذلك بجرِّ جمهورية مصر لتأييد مواقفها وذلك في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي وتحييد دور مصر في المشروع العربي لمواجهة مشاريعها في المنطقة، هذا فضلاً عن تحويل السياسة العُمانية لمجرد وسيط ميسر للنفوذ الإيراني.
وفي السنوات الأخيرة تحركت السياسة الإيرانية تحت لافتات متعددة، منها (تصدير الثورة، ونصرة المظلومين، ودعم المقاومة الفلسطينية)، لكنها تعرضت لاختبارات كشفت حقيقة شعاراتها وانحيازها للمصلحة البراجماتية الوقتية على حساب المبادئ والقيم التي ظلت تتمدد من خلالها، منها الانحياز لنظام بشار الأسد ودعم جماعة الحوثي الإرهابية والقاعدة والحشد الشعبي في العراق وحزب الله وكل الجماعات الراديكالية الأخرى، وعليه فإن الأثر الأبرز المترتب على التوسعات الإيرانية في الوطن العربي هو إماطة اللثام عن حقائق الوجود الإيراني في هذا الإقليم المبني على اعتبارات استنزاف الشعوب وليس مصلحتها.