مع اشتداد وتيرة الضغوط الخارجية التي تقودها القوى الكبرى والمعارضة الإيرانية في أوروبا والولايات المتحدة، إلى جانب الضغوط الداخلية التي تقودها الأطياف الإصلاحية والليبرالية في مقابل الضغوط الرسمية المضادة إزاء محاولة استخلاص أكبر مكاسب ممكنة من أي تسوية نووية بين إيران والمجتمع الدولي في العاصمة النمساوية فيينا، ثارت أزمة الحجاب الإجباري في إيران في الوقت الذي يعقد فيه الشعب الإيراني الآمال على توقيع مثل هذا الاتفاق الذي من المفترض أن يسمح للسلطات بتصدير النفط والعودة مرة أخرى إلى النظام المالي العالمي، ويفتح الآفاق أمام الانتعاش الاقتصادي لإيران بعد فترة طويلة من الأزمات السياسية والاقتصادية وما ترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية لا حصر لها.
البعد السياسي النووي للحجاب
يرى محللون أن السلطات الإيرانية زادت من حدة أزمة الحجاب مستهدفة أن تغض طرف المجتمع عن ما يجري في فيينا والدوحة والذي لم ينبئ حتى الآن بإمكانية التوقيع على اتفاق ينهي حالة العزلة الإقليمية لإيران، وتتعمد السلطات من وقت لآخر إثارة أزمات داخلية متعلقة بمعايش الناس كنوع من الإلهاء المقصود عن عدم القدرة الإيرانية على الانتهاء من تلك المفاوضات التي امتدت لأكثر من عام.
من أبرز تلك القضايا التي تتعمد السلطات إثارتها داخليًا هي قضية الحجاب سواء في الشارع أو للعاملات في مؤسسات الدولة ومبانيها الحكومية، خاصة بعد أن تم إقرار عقوبة عدم ارتداء الحجاب التي تتراوح بين غرامة مالية وصولا للحبس بحسب المادة ٦٣٨ من قانون العقوبات الإسلامية.
هذا بالرغم من أن الرؤية الإيرانية في أوساط المحافظين لأزمة الحجاب تنهض على أنها أزمة مفتعلة وممولة من أصوات إيرانية خارجية، وتقول تلك الأطياف المحافظة أن الوسوم “الهشتاجات” التي ثارت على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها: “لا للحجاب الإجباري” مصدرها حسابات من خارج إيران، وبالتالي كانت ردة الفعل الداخلية هي مواجهة تلك الحملة بحملة إلكترونية مضادة.
ونشرت حسابات تابعة للحكومة الإيرانية وحسابات لمواطنين عاديين وسم: “إيران عفيف”، وتصدر هذا الوسم مواقع التواصل الاجتماعي في إيران؛ ردا على حملة “لا للحجاب”، وقال عدد من المستخدمين إن الحجاب عفة للمرأة الإيرانية ولا دخل له بالأمور السياسية، وذهب البعض منهم إلى أن المرأة الفارسية ملتزمة بالحجاب حتى قبل دخول الإسلام إلى بلادهم قبل أكثر من 1400 عام.
الملاحظ هنا أن عددا من الباحثات الإيرانيات استشهدن بجدارية تعود إلى العصور الساسانية قبل دخول الإسلام وفيها تظهر المرأة إلى جوار الرجل جنبا إلى جنبا وهي تبني الحضارة مرتدية الحجاب، ونهضت قرينتهن على أن الإسلام أتى ليتمم مكارم الأخلاق التي كانت سائدة لدى الحضارات الفارسية قبل بعثة النبي محمد ﷺ.
الحجاب “السيء المقبول”
بالرغم من وجود قانون ينص على معاقبة النساء اللواتي لم يلتزمن بالحجاب الشرعي بالغرامة أو الحبس، إلا أنه فى أرض الواقع لم يتم تطبيقه إلا على من تتخطي الحجاب العرفي المألوف فى المجتمع الإيراني، والذي أصبح مقبولا لدى السلطات الإيرانية بعد أن تم انتشاره بشكل واسع.
والحجاب العرفي المألوف في أوساط المجتمع الإيراني ينقسم إلى قسمين: “الحجاب السيء المقبول” و”الحجاب السيء غير المقبول”، والنوع الأول هو الأكثر انتشاراً في إيران بحيث يظهر جزءا من شعر الرأس وترتدي المرأة ملابس غير فضفاضة مثل البنطال الجينز وخلافه وتسرح شعرها وتصبغه وفق أحدث التقاليع والألوان العالمية، وتضع قطعة من القماش فوق رأسها تكشف أغلب شعرها.
أما النوع الثاني غير المقبول والذي تعتبره السلطات خادشًا للحياء، فهو الذي تكشف فيه المرأة جزءًا كبيرًا من شعرها وتتزين بشكل لافت، وهناك نوع ثالث من ملابس المرأة وحجابها وهو الحجاب الشرعي المعتمد لدى علماء الشيعة فى إيران ويطلق عليه بالفارسية “چادر” أو “التشادور”، وهو عباءة سوداء طويلة فضفاضة تغطي جسد المرأة بالكامل من الرأس إلى القدمين تشبه الإسدال في البلدان العربية، وهو الزي الذي تلتزم به المرأة المتدينة أو المسؤولة في النظام الإيراني.
اليوم الوطني للحجاب والعفة
تحولت مناسبة “اليوم الوطني للحجاب والعفة”، التي أقرتها السلطات في إيران لأول مرة العام الحالي، إلى مظاهرات وحملات مضادة بينها وبين بعض نشطاء المجتمع المدني، خاصة بعد أن قررت السلطات الإيرانية هذا الشهر منع دخول النساء لمترو الإنفاق إذا لم يلتزمن بقواعد وقوانين الحجاب الصارمة وتعميم المصارف على الموظفات بمنع ارتداء الأحذية العالية ذات الأصوات ومنع التزين بالماكياج.
اللافت هنا أن هذا القرار لم يصدر إلا بعد أن أعلنت هیئة الأمر بالمعروف تلك التي تعمل تحت إشراف منظمة الدعوة الإسلامية ومجلس صیانة الدستور قرارها بمعاقبة رؤساء المصارف ومسؤولي الإدارات العامة الذين يسمحون لنساء غیر مرتدیات الحجاب الكامل بالدخول إلى هذه المؤسسات واستخدام الخدمات العامة.
أدى هذا القرار بطبيعة الحال إلى انتقادات داخلية يري فيها المنتقدون والنشطاء أن جهود الدولة للتضييق على النساء والمعارضة والإصلاحيين وسط استياء وضغط بسبب صعوبات الاقتصاد والضغط الغربي المتزايد بسبب برنامج البلاد النووي الشامل، ما هو إلا ذريعة لقمع للنساء.
ونشر إيرانيون بداخل إيران وخارجها عبر مواقع التواصل الاجتماعية وسما هو: “حجاب بي حجاب” أي: “حجاب بلا حجاب” وانتشرت أيضا مقاطع مصورة لنساء يخلعن حجابهن في أثناء السير فى الشوارع.
وقد أثارت تلك الحملة تفاعلات مؤثرة ضد “الأغنية” التي أذاعتها السلطات برعاية الحرس الثوري الإيراني والتي حملت اسم: “سلام فرمانده” ومعناها: “تحية للقائد” فى وقت يواجه فيه النظام استياء اجتماعيا من توسيع دوره الخارجي على حساب عدم الاهتمام بالتنمية الداخلية.
الطابع السياسي للحجاب
تسببت تلك الإجراءات في أن اتخذ الحجاب طابعًا سياسيًا نوويا مثيرًا للجدل، بعد أن كان التزامًا دينيا بين المرأة وربها، أو مسألة اجتماعية توارثتها المرأة الإيرانية عن جداتها قرنا من بعد قرن منذ ــ أو قبل ــ دخول الإسلام إلى إيران في أعقاب الفتح الإسلامي لبلاد فارس، لكنه حديثًا بات يمثل شعارًا للجمهورية الإسلامية بعد الثورة الإيرانية، وكذلك بات شعارًا للدولة، وملمحًا لإثارة الجدل حول قضيته لدى الحكومات المتعاقبة كلما مرت بإيران ضائقة سياسية أو استراتيجية.
على الرغم من أن المجتمع الإيراني ينظر إلى الحجاب كهوية دينية واجتماعية وسياسية، وكونه محاولة لحفظ الثقافة الإسلامية للمجتمع، ويمثل إحدى ركائز عمل النخبة الإيرانية، أولئك الذين يعدون الحجاب من لوازم حفظ الدين؛ إلا أن ذلك الحجاب وشكله وقضيته بات مثار جدل بين النخبة السياسية من عدة جوانب.
تشير وقائع السياسة في إيران إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية فرضت ارتداء الحجاب على المواطنات الإيرانيات سواء في الشوارع أو للعاملات في مؤسسات الدولة، طبقًا لبنود قانون العقوبات الإسلامية، والذي فرض عقوبة تتراوح بين الغرامة المالية والحبس في حالة عدم ارتدائه، وهو ما تسبب في ظهور أصوات محسوبة على الجانب الحقوقي ترفض الممارسات الإيرانية المتعلقة بفرض الحجاب على المواطنات باعتباره حرية شخصية.
ومن هذا المنطلق بدأ نشطاء حقوقيون مدافعون عن حقوق المرأة في تبني حملة مضادة ضد ما وصفوه بـ”الحجاب الإجباري”، وتحدي السلطات عبر دعوة النساء في إيران لخلع الحجاب في الأماكن العامة، وحدد النشطاء يوم ١٢ من شهر يوليو الجاري لبدء تلك الفعاليات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
الحجاب والاتفاق النووي
ترى بعض التحليللات أن تلك الأصوات جاءت كرد فعل على ممارسات الدولة للتضييق على المعارضة وسط استياء من سياسات التفاوض مع الجانب الأوروبي والأمريكي بشأن الاتفاق النووي، إذ كلما تزايدت حدة الضغوط السياسية والإقليمية على السلطة الإيرانية، لجأت السلطات إلى إثارة مشاكل داخلية متعلقة بالحجاب أو ما دون ذلك.
الهدف ببساطة هو غض الطرف عن متابعة ما يحدث في فيينا أو الدوحة من تصعيد للأزمات التي تسببت في تراجع الآمال الشعبية في التوصل للحظة التوقيع على اتفاق جديد ينهي الوضع الاقتصادي المأساوي في الداخل الإيرانين ويحتفل الإيرانيون به في الشوارع تماما كما حدث في ليلة الرابع عشر من يوليو عام 2015 حين تم التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” في فيينا.
ومن أجل أن تضمن السلطات ألا يخرج الوضع عن السيطرة نشرت ما يعرف باسم “شرطة الأخلاق” والتي باتت تنشط فی كل المدن الإيرانية الكبيرة التي شملتها دعوة خلع الحجاب، ما تسبب في مواجهات حادة وعنيفة مع أنصار الدعوة لخلع الحجاب، كما نشر المواطنون صورا وبثوا مقاطع فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعية عن المعاملة السيئة من عناصر تلك الشرطة للسيدات اللواتي قررن الانضمام إلى مظاهرات خلع الحجاب.
خاتمة
جملة القول إن مشكلة الحجاب في إيران لم تعد مجرد مشكلة اجتماعية عادية فحسب، بل هي أيضًا تمثل مشكلة سياسية كبيرة بالنسبة للنظام الإيراني الذي بات يواجه رغبة حقيقية في بروز أصوات نسائية تريد التعبير عن نفسها من ناحية، ومن ناحية أخرى بات النظام يلجأ لتلك القضية ويتعمد تضخيمها من أجل غض الطرف عن طبيعة مجريات المفاوضات النووية والتي كشفت عن انخراط النظام في حالة ما يعرف بـ”التفاوض من أجل التفاوض”، في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها المجتمع الإيراني.