اعتمد النظام الإيراني عقب ثورة 1979 على نمط يشبه نظام سلفه من ناحية شكل السلطة المتمثلة في توريث المناصب العليا في الدولة، محاولا من خلال تلك الآلية تثبيت دعائم حكم آيات الله وأبنائهم من بعدهم، وتكريس المناصب التنفيذية الرفيعة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية لحساب أبناء الطبقة الأوليجاركية الجديدة سواء الذين بقوا في الحوزة الفقهية أو حتى أولئك الذين فضلوا الانتقال من الحوزة إلى السلطة؛ انطلاقًا من كون آيات الله هم من حوّلوا مجرى الأمور في الدولة الجديدة، وقادوا الثورة ضد الأسرة البهلوية المازندرانية (1925 ـ 1979).
وقبل الولوج إلى مباحث تلك الفرضية، يتعين وضع عدد من المحددات التي تساعد على تحريها وفهم سياقها التاريخي ومآلاتها السياسية.
أولا: تنظر الطبقة الحاكمة في إيران حاليا ـ المكونة من رجال الدين ـ إلى الثورة الإيرانية نظر مِلكية خالصة، فهم يرون أنهم هم الذين قادوا الثورة ضد الشاه محمد رضا بهلوي (1941 ـ 1979م) وأنهم هم الذين اعتمد عليهم قائد الثورة آية الله روح الله الموسوي الخميني (1979 ـ 1989) في تأليب المجتمع على الشاه، ويرون أنهم أصحاب النصيب الأكبر من قمع الشاه خاصة في العقدين اللذين سبقا الثورة، وبالتالي فإنهم وأبناؤهم أحق بتولي زمام السلطة ومفاصلها في طول البلاد وعرضها، وأنهم أجدر بالقيادة من دون غيرهم من الطبقات الأخرى في البلاد.
ثانيا: ترى طبقة رجال الدين تلك أنه لاستمرار الحكم واستتباب السلطة يجب عليهم الاستعانة بالمدنيين والعسكريين والتكنوقراط وتوظيف كل منهم في الموقع المناسب لإدارة البلاد وتطبيق رؤيتهم إزاء أصول الحكم، لكن هذه الطبقات الأخرى برغم جدارتها لتولي الإدارة في أمور المال والنفط والاتصالات وغيرها، إلا أنها تظل بالنسبة لرجال الدين بمثابة السكرتارية التي تطبق ولا تخطط، وتدير ولا تقود، ولا يمكن لها تولي القيادة في المناصب السيادية؛ لذلك يلاحظ المراقب للشؤون الإيرانية أن رجال الدين المعممين القادمين من الحوزة يجلسون من دون غيرهم على قمم أرفع المناصب الأمنية والإدارية مثل وزارة الاطلاعات أو وزارة الداخلية أو جهاز استخبارات الحرس الثوري أو غيرها من المناصب التي يديرها رجال الدين بأنفسهم.
ثالثا: أنه لاستمرار تطبيق رؤية رجال الدين في إدارة البلاد ووضع السياسات العليا لها داخليا وخارجيا، فإنه يتوجب عليهم تعليم أبنائهم في الحوزة التي تخرجوا فيها، ثم إيفادهم في بعثات خارجية بجامعات الغرب والشرق للحصول على الشهادات الأكاديمية العليا، ومن ثم تأهيلهم لتولي السلطة من بعدهم، وهو ما حدث تماما في الأسر المسيطرة على المناصب العليا بالبلاد، بدءا من مؤسس الجمهورية آية الله الخميني، وخليفته آية الله خامنئي، مرورا بعائلات لاريجاني وروحاني ورئيسي وخالخالي وغيرها.
رابعا: ساهمت عدة منطلقات أيديولوجية تأسيسية في رسم السياسة الإيرانية الجديدة عقب ثورة رجال الدين أو آيات الله في إيران، والتي انطلقت من الحوزة الدينية في قم ومشهد وأصفهان، وأحدثت تلك الأيديولوجيات فورانًا هائلًا في شكل السياسة الإيرانية الجديدة منذ 1979، وحتى تلك اللحظة، بما ساهمت به من تشكيل جديد لشكل السلطة الهرمي وما تلاه من محاولات لتوريث ذلك الشكل لأبناء آيات الله، اعتمادًا على نجاحهم الكبير في هدم نظام وإقامة نظام بديل له.
خامسا: أفرز ذلك التموضع الجديد لرجال الدين منصة رأوا من خلال إطلالتهم عليها أنه لا يجوز أن تتسع الدائرة حول السلطة أو المناصب العليا في الدولة لتشمل أشخاصًا آخرين غير هؤلاء الذين اعتبروا أنفسهم سدنة الدين وحماة عرين السياسة في ثوبها الجديد تحت سطوة رجال الدين وسلطتهم، فعكفوا على السلطة والحكم تحت راية نظرية “ولاية الفقيه” التي دشنها الخميني وأقنع بها من حوله من رموز الحوزة الدينية الذين رسموا المشهد السياسي في ذلك الوقت ليكون مفصلًا على قياس الخميني وأتباعه من رجال الدين.
سادسا: دشن آيات الله بزعامة الخميني وخامنئي من بعده مشهدًا فكريًا وسياسيًا للسلطة بحيث لا يخرجون من ذلك المشهد بشكل نهائي ولا يمكن نزعهم منه إلا بخروج اجتماعي ضخم، واعتمدوا من خلال تثبيت ذلك المشهد على ظاهرة توريث المناصب لأبنائهم وذويهم ممن تخرجوا في الحوزة الدينية التي أصبحت بمثابة المؤهل الفكري والسياسي لتولي المناصب التنفيذية العليا في الدولة الإيرانية الجديدة بعد أحداث شتاء 1979.
سابعا: عمل آيات الله على إحداث نوع من التشابه بين الثيوقراطية السياسية والملكية الإمبراطورية، فاستخدموا الحوزة الدينية في قم ومشهد للترسيخ لفقه السلطة؛ فأصبح اقتران الابن بالحوزة الدينية هو الطريق إلى السلطة والمناصب العليا والتنفيذية، بداية من منصب المرشد رأسًا وحتى أصغر مسؤول تنفيذي في الدولة الإيرانية، ولقد تسببت تلك الحالة باحتدام الجدل الدائم حول مصير موقع السلطة الدينية التي يأتي على رأسها المرشد الأعلى علي خامنئي، حيث تثار التكهنات من وقت لآخر عن سعي خامنئي لتوريث منصب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية لنجله مجتبي، الذي يسيطر على بيت القيادة، وهو ما أثار الكثير من الجدل بين الأوساط السياسية والفكرية في إيران، وأظهر نوعًا من الارتباك حول فكرة التوريث التي حاربها آيات الله أنفسهم عندما ثاروا على الملكية، ما أوقعهم في شراك التناقض السياسي أمام الرأي العام الداخلي والخارجي سواء بسواء.
ـــــــــــــــــــ
نقلا عن مركز المسبار للبحوث والدراسات
لقراءة الدراسة كاملة يمكن تحميلها بالضغط هنا.
قم بتحميل الملف لقراءة المزيد