في منتصف مارس الماضي أعلنت منظمة الصحة العالمية أن أوروبا باتت “البؤرة” الجديدة لوباء كورونا المستجد، وقد شكّل الانتشار السريع لفيروس كورونا في أوروبا أمرًا مقلقًا للغاية؛ إذ تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن إجمالي الحالات المؤكدة في 9 إبريل 2020 قدر بعدد 760,610 في حين أن إجمالى الوفيات 61,532، وقد جاءت إسبانيا في المرتبة الأولى بواقع 146,690 مصابا ووصل إجمالى الوفيات إلى 14,555، وجاءت إيطاليا في المرتبة الثانية بإجمالى حالات مؤكدة 139,422 ووصل عدد الوفيات إلى 17,669.
انكشاف الإتحاد الأوروبي
وقد مثلت حالتا كل من إيطاليا وإسبانيا اختبارا حقيقيًا للاتحاد الأوروبي؛ ففي الوقت الذي ذهبت فيه تحليلات كثيرة في توقعاتها إلى تبدلات في العلاقات الدولية، كان اللافت أن هذه التحليلات في معرض حديثها عن التغييرات في العلاقات الدولية، تناولت مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي سيواجه التفكك بعد جائحة كورونا، على ضوء كيفية تعامل الاتحاد مع الوباء الذي اجتاح دوله، وخاصة الموقف السلبي تجاه إيطاليا التي كانت في حينه الأكثر تضرراً، وأعربت عن استيائها الشديد من تقاعس الاتحاد الأوروبي عن تقديم المساعدة لها، وعدم القيام بما يكفي لدعم المستشفيات وقطاعات الاقتصاد التي دمرها الفيروس. وفي هذا السياق؛ أكد رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي، أهمية “عدم ارتكاب الاتحاد الأوروبي أخطاء فادحة” في مكافحة فيروس كورونا المستجد، وإلا فإن التكتل الأوروبي بكامله “قد يفقد سبب وجوده”.
ترك التقاعس الأوروبي عن نجدة إيطاليا وإسبانيا الدولتين العضوين الأساسيين في الاتحاد، ردود فعل سلبية داخل البلدين اللذين شعرا بأنهما تُركا وحيدين يواجهان مصيرهما، وارتفعت داخلهما أصوات هي في الأساس ضد الاتحاد الأوروبي، داعية إلى الاقتداء بـ«البريكيست» البريطاني؛ لأن الاتحاد أدار ظهره لهما في وقت الشدة، على الرغم من اعتذار رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فاندير لاين، لإيطاليا عن عدم تضامن أوروبا معها في مواجهة الفيروس.
وكانت المفارقة في أن مدت أربعة دول من خارج المنظومة الغربية يد العون إلى إيطاليا؛ وهي الصين، التى نجحت فى تطويق الوباء وأثبتت قدرة طبية وتكنولوجية وتنظيمية هائلة وبادرت بإرسال خبراء وأطباء وأجهزة طبية لايطاليا.
أما روسيا التى تتعرض بدورها لضربات الوباء، فقد أرسلت هي الأخرى معدات وأدوية ومختصين فى مكافحة الأوبئة بزى عسكرى، وكذلك كوبا التي بدت الأكثر لفتاً للأنظار فى رحلات المساعدة لإيطاليا إذ أرسلت أكثر من 50 طبيبا متخصصا، لديهم خبرات متراكمة فى مكافحة الأوبئة بدول إفريقية ولاتينية. والدولة الرابعة هي مصر التي أقدمت على خطوة مُماثلة.
لذا فقد جاءت أزمة “كورونا” لتضع الإتحاد الأوروبي أمام اختبار صعب ولتضفي حالة من الغموض حول مستقبل هذا التكتل وما ستؤول إليه الأوضاع بعد انقضاء هذه الأزمة العالمية غير المسبوقة. في ضوء ما يلي:
غياب المسؤولية السياسية المشتركة: مع تفشي فيروس “كورونا” في القارة الأوروبية، بدا الاتحاد الأوروبي عاجزا عن احتواء الأزمة، ولم تنجح سياساته الوقائية والصحية الاجتماعية في السيطرة على انتشار الفيروس. كما لم يبد القادة الأوروبيون اهتماما كبيرا بهذا الوباء في بداية الأزمة، وهو ما عبرت عنه رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسورلا فون دير لاين، عندما قالت إن القادة الأوروبيين “قللوا في البداية من حجم خطورة الفيروس”. وكذلك، لم تطفو على السطح روح التضامن الجماعي والتعاون التي تقوم عليها فكرة الاتحاد الأوروبي بل بدت كل دولة منكفئة على ذاتها دون التنسيق مع غيرها، واتخذت عددا من الممارسات والقرارات المنفردة، منها غلق الحدود وتطبيق سياسات العزل.
غلبة المصالح الوطنية القومية: حذر رئيس البرلمان الأوروبي دافيدي ساسولي بأنه “من دون تضامن، فستصير الروابط والأسباب التي تجمعنا في حكم العدم” و”أنه بإمكان أوروبا أن تصير أقوى شرط أن تفهم دولنا أنه لا يمكنها الخروج (من الأزمة) عبر الانكفاء على نفسها”. إلا أن تقاعس الاتحاد الأوروبي عن تقديم الدعم المطلوب للدول الأكثر تضررا من الفيروس يرجع إلى عمق هذه الأزمة التي ضربت العالم أجمع، إذ إنه من الصعب على الاتحاد الأوروبي تلبية طلبات جميع الأعضاء، بالنظر إلى ضخامة حجم الأزمة، ومعاناة جميع الدول الأعضاء من نقص حاد على المستوى الصحي مع عدم وصول الاتحاد لتوافق حول آلية واستراتيجية للتصدي للفيروس، وهو ما ترك الباب مفتوحا أمام الدول الأوروبية للتصدي للفيروس كل حسب إمكانياته ورؤيته. وفرضت بعض الدول حظرا على تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج. وإن كانت ألمانيا قد وافقت خلال الأيام القليلة الماضية على استقبال مصابين بالفيروس من كل من إيطاليا وفرنسا لعلاجهم في مستشفياتها، وذلك في ضوء الأزمة البالغة التي تشهدها المستشفيات في شمال إيطاليا.
الانقسام حول سندات كورونا: ثمة هوّة فاصلة بين دول جنوبي القارة، مثل إسبانيا وإيطاليا، مدعومة من فرنسا، ودول الشمال، على رأسها هولندا وألمانيا. حيث تسعى مدريد وروما، الأكثر تضرراً حتى الآن من الوباء، واللتان تعانيان جراء هشاشة ماليّتهما العامة، إلى تعبئة دعم مالي مكثّف من الاتحاد الأوروبي لتجاوز التداعيات الصحيّة والاقتصادية والاجتماعية للأزمة عبر إصدار “سندات كورونا”.
السيناريوهات المحتملة
لعبت أزمة “كورونا” دورًا بارزًا في وقوع انقسام داخل الاتحاد الأوروبي وهو ما سيلقي بظلاله على وضع الاتحاد في المستقبل. ويبدو أن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة وهي:
تفكك الاتحاد الأوروبي: يمكن أن يتحقق هذا السيناريو استنادًا إلى تعلق نظام «شنجن» للتنقل الحر بين دول الاتحاد الأوروبي، وهي إحدى الركائز الأساسية التى قام على أساسها الاتحاد، بالإضافة إلى حالة الركود التي تواجهها منطقة اليورو والتي قد تمتد إلى وقت ليس بالقصير، خاصة وأن كل المؤشرات تؤكد أن التوصل إلى لقاح ناجع ضد فيروس كورونا قد يستغرق وقتاً طويلاً. فضلاً عن أن الخلاف القائم بين دول الشمال والجنوب فى أوروبا من شأنه أن يزيد من مخاطر التفكك ما لم تتم بلورة تعاون اقتصادي مشترك لاحتواء الأزمة.
المزيد من بريكست: إذا كنا نعتبر أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست” قد مثَل اختباراً حقيقياً لوحدة التكتل، فإن أزمة “كورونا” تشكل اختباراً أكثر صعوبة وتعقيداً أمام الاتحاد؛ إذ إنه إذا فشلت أوروبا في تجاوز هذا الاختبار فإنه من المرجح أن تحذو دول أخرى حذو بريطانيا في الخروج من التكتل ومن المحتمل أن نشهد “إيطيكست” أو “إسبيكست” أو حتى “فريكست”.
التوصل إلى حل وسط: ترتبط فرص تحقيق هذا السيناريو بالتوصل لحل يرضي جميع الأطراف، وإتخاذ قرارات تتجاوز من خلالها دول الاتحاد الأوروبي الخلافات السياسية والاقتصادية حول عدم تقديم مساعدات كافية لإيطاليا وإسبانيا؛ وحيث إن فرنسا وألمانيا هما المخُتلفان الرئيسان حول تقديم المساعدات، فإنهما حريصان في الوقت نفسه على بقاء الاتحاد الأوروبى. ومن المتوقع أن ينجح وزراء المالية الأوروبيون في التوصل إلى اتفاق لصالح خطة إنعاش منسقة على نطاق واسع وتضامن في إعادة الإعمار.
التداعيات على علاقات بروكسل بطهران
بينما ينصب تركيز العالم أجمع على مواجهة جائحة كورونا، وعلى الرغم من أن المخاوف حيال فيروس كورونا قد تسببت بتأخير عدة مراحل من البرنامج النووي الإيراني ضمن أجندة طهران، إلا أن الأمر الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار هو أن الوضع مهيأ للاستغلال المحتمل من جانب طهران لهذه التطورات جراء جائحة كورونا إذا ما قرر النظام التحرك بينما يركز العالم أنظاره على الوباء المتفشي.
على سبيل المثال، قد تؤثر الأزمة على قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مواصلة التحقق من امتثال إيران للاتفاق النووي. وعلى الرغم من أن “الوكالة” قد شددت مؤخراً على أن عمليات التفتيش على الضمانات مستمرة في جميع أنحاء العالم، إلا أنها أشارت أيضاً إلى أنها قد تواجه “بعض التشويشات في السفر”، وهو عامل قد يعوق جهود المراقبة الفعالة لإيران المنكوبة بالفيروسات. وتستخدم “الوكالة” أنظمة المراقبة عن بُعد لرصد المنشآت النووية في البلاد، إلّا أن بعض إجراءات التحقق لا تزال تتطلب زيارات ميدانية.
وسبب آخر للقلق هو تاريخ إيران الحافل بالخداع النووي. وتشمل مخالفاتها السابقة بناء منشأة تخصيب سرية في فوردو، وإخفاء أرشيف نووي في أعقاب التوصل إلى خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي”، ورفض التعاون مع تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أنشطتها السابقة.
وبينما يعتقد الاتحاد الأوروبي بأن الجدل المتعلق بقرض صندوق النقد الدولي لإيران، وأن حجب القرض سيقوّض نفاذ إيران إلى السلع الإنسانية، من المهم أن يحول تركيزه تجاه ممارسات إيران النووية.
بموازنة السيناريوهات المطروحة، يبدو أن السيناريو الثالث هو الأكثر رجحاناً، إذ يُمثِّل حلاً وسطاً ومَخْرَجَاً متوازِناً لتحقيق متطلبات الخروج من الأزمة؛ فمما لا شك فيه أن أزمة كورونا ستكون لها تداعيات اقتصادية وصحية واجتماعية وسياسية على أوروبا؛ إلا أنها لن تكون سلبية جداً في إتجاه تفكك الاتحاد، والعودة إلى حال التقوقع على الذات؛ ذلك أن الاتحاد بات ضرورة لكل دولة بنسب مختلفة، فحتى الدول التي لها تحفظات على دور الاتحاد وسياساته لن تدعو إلى التخلي عنه، وإنما إلى إصلاحات بنيوية سياسية واقتصادية وصحية. فبعد أزمة كورونا ستكون الدول الأوروبية في أزمة اقتصادية كبيرة، خاصة إيطاليا وإسبانيا، وغيرها من الدول التي ستكون بحاجة إلى تضامن أوروبي، وإيجاد استراتيجية للخروج من الأزمة الاقتصادية نظراً لمصلحة تلك الدول في التمسك بالاتحاد ومؤسساته.