تكتسب الزيارة المرتقبة لرئيس الجمهورية الإيرانية مسعود پزشكيان إلى مصر، للمشاركة في القمة الإقليمية لمجموعة “دي 8″، أهمية خاصة في ظل التطورات المتسارعة والعنيفة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن كونه ثاني رئيس إيراني يزور القاهرة خلال أكثر من أربعة عقود منذ قيام الثورة الإسلامية يُعَدّ كافيًا لتوجيه الأنظار نحو الضيف الإيراني في قصر الاتحادية حيث يقيم رئيس جمهورية مصر العربية عبد الفتاح السيسي.
مصر وإيران بين المد والجزر
في تاريخ العلاقات المتقلبة بين طهران والقاهرة، يصعب العثور على محطات بارزة ومؤثرة؛ فهو تاريخ حافل بالقطيعة والتقارب الحذر الذي توقف نبضه تقريبًا عند محطة “كامب ديفيد” في سبتمبر 1978م. هذا الحدث جعل مصر، بقيادة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، وإيران الثورية الناشئة قطبين متعارضين تمامًا.
لاحقًا، استمرت العلاقات بين البلدين في حالة من التوتر والتقارب المتردد، نتيجة جهود القاهرة للخروج من حالة الاعتراف بإسرائيل. في هذا السياق، حاول الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك، خليفة السادات، إنهاء عزلة مصر التي فرضتها اتفاقية “كامب ديفيد” على الصعيد الإقليمي.
ومن أجل ذلك، اصطفت مصر إلى جانب العراق والدول العربية الأخرى خلال الحرب الإيرانية – العراقية، ما عمّق الخلاف مع طهران، وجعل أي أمل في استئناف العلاقات في السنوات الأولى من الثورة الإيرانية أمرًا بعيد المنال.
بعد حرب الثمان سنوات (1980م – 1988م) بين العراق وإيران، سعت إيران إلى تبني سياسة خفض التوتر – حتى مع العراق – وبدأت بمحاولة إنهاء خلافها مع القاهرة. وكانت أولى بوادر ذلك عبر اتصال هاتفي بين الرئيس الإيراني “سيد محمد خاتمي”، ونظيره المصري “محمد حسني مبارك”، ما كان يُنبئ بلقاء تاريخي بينهما. لكن هذا اللقاء لم يحدث في طهران أو القاهرة، بل في سويسرا على هامش المعرض الدولي المصري في عام 2003م.
في ذلك الاجتماع، صرح الرئيس مبارك قائلاً: “العلاقات مع إيران طبيعية”، لكن لم يمر عامان حتى أعلنت الأجهزة الأمنية المصرية أن إيران حاولت تجنيد جاسوس مصري، لتنفيذ عمليات تفجيرية في مصر والسعودية. هذا الأمر كشف أن مبارك لم يكن يملك تصورًا واقعيًا حول طبيعة العلاقات مع إيران، وأنها لم تكن كما ادعى “طبيعية”.
لاحقًا، زار خاتمي القاهرة عام 2007م ، ولكن ليس بصفته رئيسًا للجمهورية، بل كرئيس لمؤسسة الحوار بين الثقافات والحضارات. وخلال زيارته، أعرب عن أمله في اتخاذ خطوات لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين. ولكن يبدو أن خاتمي، على غرار حسني مبارك، بالغ في تفاؤله تجاه آفاق هذه العلاقات.
رفع الستار عن الحقيقة
في بداية الألفية الجديدة، وخصوصًا بعد احتجاجات الحركة الخضراء في إيران عام 2009م، شددت الحكومة المصرية على معارضتها للتطورات السياسية في إيران، متهمة إياها باستخدام العنف ضد المحتجين. لكن الساسة في القاهرة لم يتوقعوا أن يشهدوا نفس المصير بعد أقل من عامين، حيث أصبح الرئيس المصري الراحل “محمد حسني مبارك” أول ضحية للاحتجاجات الشعبية، ليخلفه الرئيس المصري المعزول “محمد مرسي” الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الذي فاز في انتخابات العام 2012.
في ظل هذه التغيرات الداخلية، والتي تزامنت مع التحولات الإقليمية، أصبح من الواضح أن استئناف العلاقات بين طهران والقاهرة بات أمرًا ضروريًا.
وفي عام 2012م، بدأ “مرسي” خطواته الأولى نحو التقارب مع إيران بالمشاركة في قمة “حركة عدم الانحياز” في طهران، تلتها زيارة الرئيس الإيراني “محمود أحمدي نجاد” إلى القاهرة للمشاركة في مؤتمر “منظمة التعاون الإسلامي”.
ولكن مرة أخرى، وفي عام 2013م، لم تسمح التغيرات السريعة في الداخل المصري للبلدين بتحديد مصير علاقتهما، حيث وجد “مرسي” نفسه في مواجهة عملية تغيير سياسية قادها قائد الجيش عبد الفتاح السيسي، الذي تولى السلطة بعد الإطاحة به.
وفي إطار التحولات الإقليمية، قرر الرئيس السيسي دعم المملكة العربية السعودية في صراعها المتصاعد مع إيران بينما قدمت دول مجلس التعاون الخليجي مساعدات مالية ضخمة لمصر، للحفاظ على استقرارها الاقتصادي الذي تأثر جراء التقلبات الداخلية والخارجية.
مواجهة القاهرة مع الواقع الجديد
يعد كسر جمود العلاقات بين طهران والرياض في مارس 2023م تحولًا كبيرًا، حيث توصلت البلدان صاحبتا النفوذ في غربي آسيا إلى قناعة مشتركة مفادها، أن التعاون بينهما يمكن أن يضمن أمن المنطقة.
بالإضافة إلى هذا التحول، كانت هناك عوامل أخرى، مثل التغيرات في السياسة الإقليمية الإيرانية خلال السنوات الأخيرة من حكم حسن روحاني، وهذا خلق سياقًا يمكن أن يكون مقدمة لتغيير كبير في العلاقات الإيرانية – العربية، بما في ذلك العلاقة بين طهران والقاهرة.
في هذا السياق، بدأت المفاوضات السرية بين المسؤولين الإيرانيين والمصريين في عواصم وسطاء عرب، وتطور الوضع إلى أن قررت مصر إرسال وزير خارجيتها، بدر عبد العاطي، للمشاركة في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني المنتخب “مسعود بزشكيان” في طهران.
بعد ذلك، أصبح من الواضح أن نجاح الحكومة الإيرانية في إدارة الأزمات الإقليمية، بما في ذلك دورها البارز في تسهيل وقف إطلاق النار في حرب لبنان، قد جعل من الحوار حول تغيير العلاقات الثنائية بين البلدين أمرًا ضروريًا من وجهة نظر الحكومة المصرية.
اليوم، تواجه القاهرة في عهد الرئيس بزشكيان واقعًا جديدًا، حيث تجد نفسها مضطرة للتجاوب مع دعوة التعاون الإيرانية في المنطقة. وتسعى إيران، التي فتح رئيسها أبواب التعاون مع دول المنطقة واحدة تلو الأخرى، إلى فرض عمق استراتيجي على سياساتها الخارجية التي كانت في السابق غير قابلة للتطبيق.
خاتمة
يمكن اعتبار حضور بزشكيان إلى القاهرة انعكاس لهذا التاريخ المليء بالتقلبات، ودليل على صوابية مبادرة حكومته الناشئة، والتي يسعى من خلالها إلى الوفاء بوعده وهو “مد يد الصداقة والأخوة إلى جميع دول المنطقة، لاسيما الجيران”.
هذا الوعد لا يعدّ فقط معيارًا لقياس درجة قرب العلاقات بين إيران والدول العربية، بل أيضًا اختبارًا لقدرة وكفاءة الحكومة الرابعة عشرة في مرحلتها الأولى، كما يحمل إمكانية التغلب على موجة اليأس في واحدة من أصعب الفترات التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
علاوةً على ذلك، يمكن لهذا الإنجاز الدبلوماسي أن يمهد الطريق تدريجيًا، لتعزيز العلاقات بين إيران وبين دول المنطقة، بدءًا من السعودية ومصر وصولًا إلى الأردن والبحرين، ما يجعل تحقيق هذا الهدف واقعًا ملموسًا.
ــــــــ
(*) المقالة مترجمة من صحيفة إيران الحكومية بعنوان “ایران ومصر در فصل تنشزدایی” أي إيران ومصر في مرحلة خفض التوتر، الرابط: https://irannewspaper.ir/8629/1/108774 كتبتها الصحفية “مريم سالاري” بتاريخ 25 آذر 1403 هـ. ش. الموافق 15 ديسمبر 2024م.
مانشيت جريدة إيران الحكومية يوم الأحد 15 ديسمبر 2024.