ما أسهل التقليد في عالم البحث والكتابة، وما أصعب التجديد والفحص والتمحيص، خاصة إذا كان الباحث يتصدى للكتابة عن زمن دارت حوله الدنيا بدورتها، وكتبت حوله الكتابات التي لم يخل معظمها من الميل والهوى، تارة بكاء على زمن الشاه وما تحقق فيه من تحديث وتغريب، وتارة أخرى انتصارا للثورة الإيرانية التي أزاحته وأسرته عن الحكم.
في مسألة الإمبراطورة “الشهبانو” فرح بهلوي، أرملة الشاه، ووالدة 4 من أبنائه الخمسة، يختلف الحديث تماما، فهي زوجة لملك ولم تكن مسؤولة رسمية، صحيح أن الشاه كان يوكل إليها بعضا من المهام لكن بقيت تلك المهام في إطار العلاقات الإنسانية التي ترمي إلى تقريب وجهات النظر وتلطيف الأجواء هنا وهناك.
إذن، فهل لقاء الإمبراطورة دوريا كل عام وإجراء مقابلة معها له أبعاد مختلفة؟
الإجابة: نعم.
الأبعاد بسيطة ويمكن تلخيصها من خلال تنصيب كشافات ضوء تبرز ملامح المقابلة وتعطي فكرة استباقية عن شخص فرح ديبا في حد ذاتها.
أولا: لم تكن فرح ديبا كباقي سيدات الأسرة البهلوية اللواتي دارت حولهن شبهات الفساد والتسلط مثل الأميرة أشرف بهلوي توأم الشاه، وبالتالي لم تطلها أية شبهات فساد مالية أو أخلاقية منذ نزولها عن العرش وحتى الآن، بالرغم من محاولات بعض الكتاب الإيرانيين النيل منها ـ من دون سند ـ والإيحاء بذلك إلى الكتاب الغربيين غير المتخصصين الذين ينقلون بلا تروي ولا تمحيص لحقائق الأمور، والبرهان على ذلك أنه في حالات سقوط العروش لا يفضح أمر الملوك إلا خدمهم، وقد تم ذلك بالفعل وكتب كثير من رجال وسيدات الحاشية والبلاط ما يسيء إلى سمعة سيدات العائلة، لكن ما وصل إلينا حتى الآن من مذكرات، ومنها مذكرات وصيفة “الشهبانو”، مينو ريفيز، التي نقلتها أسيمة جانو، يوحي بأنها كانت مختلفة كل الاختلاف عن البهلويات الأخريات.
ثانيا: كانت فرح ديبا إمبراطورة على العرش لأغنى ممالك الشرق الأوسط وجليسة متوجة عليه، وكانت السيدة الأثيرة لدى زوجها “الشاهنشاه محمد رضا بهلوي آريا مهر”، وهو لقب يعني “ملك الملوك ونور الجنس الآري بالكامل”، ومن الطبيعي أن تكون قد نالت كثيرا من الرفاهية والتنعم، وليس من قبيل المبالغة القول إنها كان لديها حوض سباحة خاص بها تحظى فيه برعاية جسدها الملكي، وللمفارقة فقد تسلمت السلطات الثورية هذا الحوض بعد 1979 وأنهت فيه حياة الرجل الثالث في الثورة الإيرانية، هاشمي رفسنجاني، الذي دارت الشكوك حول اغتياله غرقا في هذا الحوض، في يناير 2017.
ثالثا: إن أي حديث مع فرح ديبا ـ أو عنها ـ يجب أن يكون محاطا بإدراك أنها سليلة عائلة “ديبا” رفيعة المستوى، وربما تكون عائلتها ـ وهو الحق ـ أهم وأكثر أصلا وجذرا من عائلة زوجها الشاه، إذ كان والدها ضابطاً في الحرس الإمبراطوري الإيراني، وجدها سفيرا لإيران في العاصمة الروسية موسكو قبل مولدها بسنوات طويلة، بينما كان أجداد الشاه مجرد جنود في الجيش، وفقا لما أورده، أحمد الساداتي، عام 1939 في كتابه “رضا شاه بهلوي”، وعندما قابلها الشاه كانت تدرس الهندسة المعمارية في باريس، وهو نمط حياة لا تقوم به إلا العائلات المرموقة في الشرق الأوسط قديما وحديثا.
رابعا: إننا لم نكن معها وقت أن كانت على العرش ولم نكن معها حين غادرت بلادها بفعل الزخم الثوري وجاءت إلى مصر، فقد حدث ذلك قبل مولدي شخصيا ـ وربما قبل مولد أغلب الذين سيقرأون هذه السطور ـ وبالتالي فإن الحديث معها هو أحد سبلنا لمعرفة ما جرى ثم مطابقته ومقارنته مع أقوال ووثائق أخرى، ولذلك فإن الاقتراب من ذاكرة الإمبراطورة السابقة وشحذها ليس محاولة منا للحكم؛ بل محاولة لفهم ما جرى وما يجري، من خلال مناقشة قضايا التاريخ الكبرى ومسائل السياسة الآنية الملحة.
خامسا: تناول التاريخ بقلم مصري يعني فهم الخصوصية التي تربط فرح ديبا بمصر والمصريين، مع الوضع في الحسبان علاقة الصداقة الحميمة التي تشبّكت بين زوجها وبين الرئيس السادات من جهة وبينها وبين السيدة جيهان السادات من جهة أخرى، تلك الصداقة المستمرة منذ نحو نصف القرن، إلى جانب اعتبار آخر وهو أن زوجها ووالده دفنا في مصر ـ في الموضع نفسه ـ وأنها عاشت صدمة الأيام الأولى بعد الثورة في هذه البلاد.
سادسا: إدراك أن أي مقابلة أو اقتراب من فرح ديبا هو اقتراب من قلب امرأة مثقلة بالأسى، فهي سيدة مكلومة تلقت في حياتها عددا من الفظائع التي لا تقوى على تحملها امرأة أخرى، بعد أن فقدت عرشها وسلطتها، وفقدت زوجها في المنفى وتلقت خبري انتحار اثنين من أبنائها بسبب أمراض نفسية ألمت بهما، ورغم عراقة عائلتها الآذرية المتحدرة عن مدينة تبريز عاصمة محافظة أذربيجان الشرقية ـ للمفارقة هذه المحافظة هي مسقط رأس عائلة علي خامنئي مرشد الثورة الإيراني الحالي ـ إلا إنها لا تتمكن من العودة إلى وطنها للاعتبارات المعروفة.
سابعا: ملاحظة أنها ـ على المستوى الشخصي ـ لم تنل من سهام الثورة شيئا ذا بال، وعليه فإنه من المنطقي أن يتم تحييدها عن أي صراع في دائرة الطعن في سلوك الشاه وشقيقاته. على سبيل المثال، أفتى الخميني بحرمة اغتيالها واغتيال أطفالها عندما كانوا في مصر حتى خريف 1980، بل تشير المراجع ـ ومنها ما كتبه الأستاذ فهمي هويدي في كتابه إيران من الداخل ـ إلى أن الخميني بنفسه أوقف عملية كانت إحدى الجماعات المتطرفة في مصر تخطط لها، وكانت تقتضي بتحين فرصة خروجها من قصر القبة في منطقة كوبري القبة، وإطلاق وابل من الرصاص عليها.
ثامنا: تسجيل وفائها إلى زوجها ودفاعها المستدام عن قضيته ـ نختلف أو نتفق معها ـ في حيز الحسبان، فقد كان من الممكن لها أن تختفي في أوروبا وتتزوج رجلا آخر، خاصة أنها حين فارق الشاه الحياة لم تكن تبلغ من العمر سوى أقل من 42 عاما، وكانت بكامل عنفوان جمالها، والحياة أمامها بملذاتها في أوروبا وأمريكا مفتوحة على مصرعيها، ولم تكن بحاجة إلا لأن تفسح المجال للرجال، ومن المؤكد أنها كانت ستجد رجلا يريد أن يحل محل ملك. وفي بلاد الشرق يُنظر إلى هذا النوع من النساء بكثير من الاحترام، رغم إتاحة الشرع والتقاليد زواج المرأة من رجل آخر بعد وفاة زوجها.
***
على كل حال…
في 27 يوليو 1980 رحل شاه إيران، محمد رضا بهلوي، بعد صراع مع المرض وخضوعه لعدة جراحات في مستشفى المعادي العسكري بالقاهرة، وفي هذا اليوم دفن إلى جوار شقيق طليقته، الملك فاروق، بمسجد الرفاعي بحي القلعة بالقاهرة، وفي المكان نفسه الذي دفن فيه والده رضا خان بهلوي، وقد ودعه الرئيس السادات في جنازة رسمية مهيبة، وبعد أن وري جثمانه الثرى وقف “بطل الحرب والسلام” قبالة باب المسجد ونصب قوامه الرشيق وألقى التحية العسكرية إجلالا لذكراه.
وفي مثل هذا اليوم من كل عام تحيي زوجته الأخيرة الإمبراطورة “الشهبانو” فرح ديبا، ذكراه بمراسم ثابتة تبدأ بوضع إكليل من الزهور على قبر صديقه الرئيس السادات في النصب التذكاري بمدينة نصر، ثم إقامة سرادق للعزاء في مسجد الرفاعي، ثم الدعوة إلى حفل استقبال للعائلة البهلوية ومؤيدي الملكية ومحبي الشاه الإيرانيين الذين يفدون من أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا والذين غادروا إيران بعد قيام الثورة 1979 وما بعدها.
منذ سنوات طويلة، أتلقى دعوة كل عام لحضور تلك المراسم، وهي فرصة بحثية/ ميدانية، لا يمكن تفويتها ـ لأي باحث يدرك قواعد أنماط البحث الحديثة ـ لاستخلاص العبرة من دروس التاريخ ومتابعة ما يدور في كواليس السياسة الإيرانية الراهنة، خاصة أن نجل الإمبراطورة، ولي العهد الأمير رضا بهلوي، ما يزال يلعب دورا بارزا في المعارضة الإيرانية من الخارج.
في كل عام بعد حضور تلك المراسم أحرص على إجراء مقابلة مع الإمبراطورة فرح بهلوي، وهي تخصني بهذا الامتياز، لكن عندما تنتهي المقابلة وأعود إلى مكتبي وأجلس بين أوراقي وأقلامي، وتعود هي إلى باريس، حيث إقامتها الدائمة، أجد علامات استفهام جديدة تطل برأسها عليّ من خلال المؤلفات الحديثة التي أقتنيها وما يصل إلي من وثائق جديدة ولذلك تعود أسئلة جديدة تشغلني، وأجد نفسي في حاجة إلى الإجابة عنها من بطلتها وراويتها العليمة.
وقد عاب علي كثير من القراء والمتخصصين في السنوات الماضية عدم تطرقي معها إلى كثير من مواطن الضعف المفصلية في فترة حكم زوجها ومنها استشراء الفساد والقمع الممنهج من جهاز السافاك للمعارضة، والاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاث، وغيرها من الأمور المشابهة.
وفي الحقيقة ألتمس العذر ـ بكل تسامح ـ لمن أخذ عليّ هذا المأخذ؛ لأنه لا يعرف أنني بالفعل تطرقت مع الإمبراطورة إلى كثير من تلك الجوانب، لكن احتفظت بالإجابات للمؤلفات والأطروحات والأبحاث العلمية، ورأيت أنه من غير المناسب أن أسرد ردودها في هذا الموضع حتى لا تظهر في سياق الدفاع عنها وعن زمن زوجها، ومرد ذلك اعتبار بسيط للغاية وهو التزامي بالتجرد التام من الميل والهوى في نقل الروايات، ولإمهال نفسي الفرص تلو الأخرى لتمحيص تلك الروايات عندما تحين اللحظة المؤاتية.
هذا العام أجريت مقابلة بحثية مطولة وحصرية مع الإمبراطورة تناولت فيها جوانب جديدة منها:
ـ ردها على روايات تاريخية تفيد بأن الخميني، مرشد الثورة الإيرانية، أوقف عمليات اغتيال كانت تدبر بحقها من قبل جماعات متطرفة في مصر بدعم من بعض آيات الله في قم، وأفتى بحرمة دمها ودم أطفالها.
ــ مسألة الدعم الغربي للخميني والثورة الإيرانية، وتهيئة الأجواء لإزاحة الشاه عن العرش، وسبب الامتعاض الأمريكي/ الأوروبي المتزايد من الشاه في الأعوام الثلاثة الأخيرة من حكمه، وخاصة ما أثاره الدكتور هوشنك نهاوندي في كتابه “الخميني في فرنسا”.
ــ رأيها في الدعم الأمريكي/ الإسرائيلي للنظام الإيراني في حرب الخليج الأولى (1980-1988) وتفسيرها لواقعة “إيران كونترا”، حين أمدت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان بالتعاون مع تلك أبيب، إيران بصفقات أسلحة وذخائر ومعدات قتالية.
ــ حكايات الشاه الخاصة لها عن زوجتيه السابقتين الإمبراطورة المصرية فوزية ابنة الملك فؤاد وشقيقة الملك فاروق، والإمبراطورة ثريا، وهل كان يحبهما فعلا؟ وهل كان هناك تواصل مع الإمبراطورة فوزية قبل رحيلها، وهل هناك تواصل مع ابنتها من الشاه الأميرة شاهيناز بهلوي من عدمه؟!
ــ مستقبل النظام الإيراني الحالي في ظل حالة التوتر في الخليج العربي، على خلفية احتجاز إيران ناقلة النفط البريطانية وما يمكن أن يترتب على ذلك، من خلال ما تعرفه من حقائق وما تتنبئ به في ضوء رؤيتها الاستراتيجية.
دار الحوار على نحو عميق أردت فيه الاستفادة من خبرات مقابلاتي السابقة معها، من خلال النفاذ إلى التفاصيل الدقيقة وشحذ ذاكرتها البالغة من العمر 81 عاما، لإخراج ما بها من كنوز معلوماتية، أخذا في الاعتبار أنها كانت سر زوجها ومفوضته الخاصة لتقريب وجهات النظر بينه وبين كثير من ساسة العالم وساسة إيران أنفسهم، كما أكد ذلك وزير بلاطه أسد علم في مذكراته “الشاه وأنا” وكما قالت هي في مذكراتها “فرح بهلوي”.
***
قبل الخوض في ما جاء بالمقابلة أود أولا أن أورد عددا من الأمور والملاحظات التي حدثت هذا العام والتي كان بعضها جديدا علي وبعضها الآخر غريبا ومدهشا على نحو تام.
أولا: عشية الذكرى تلقيت اتصالا من رجل أعمال إيراني يقيم في أمريكا، وتربطني به علاقة صداقة قديمة، ونحرص على الالتقاء كل عام في مثل هذه الأيام، وسألني كيف ستحضر إلى المنصة؟ وكيف ستنتقل إلى مسجد الرفاعي؟ ومن ثم الفندق الذي يقام به حفل الاستقبال؟ وهي مراسم شاقة ومرهقة تستغرق نحو 12 ساعة، تبدأ في منتصف الظهيرة وتنتهي في منتصف الليل؛ فأخبرته أنني مثل أغلب الأعوام السابقة سأحضر بسيارتي، فاستأذنني أن أحتفظ بسيارتي في المنزل، وأقبل استئجاره سيارة خاصة “ليموزين” تقلني وتنقلني بين مدينة نصر، ثم القلعة، ثم مصر الجديدة، ثم العودة مرة أخرى؛ فاعتذرت له، وقلت إن هذا واجبي بحكم أنك ضيف في بلدي وليس العكس، ومع إصراره؛ قبلت العرض الكريم.
ثانيا: أقلتني السيارة الألمانية الفارهة إلى النصب التذكاري بمدينة نصر وعند دخولي إلى المنصة ـ وقد سمحت قوات الأمن المنظمة للحدث بدخول السيارة إلى داخل المكان ـ وجدت عددا من الزملاء الصحفيين يقفون في قارعة الطريق تحت شمس يوليو الحارقة في انتظار وصول الإمبراطورة وتصوير الوفد المرافق لها، فشعرت بالامتعاض؛ لأن هؤلاء السادة هم زملاء وبعضهم تربطني به علاقة مودة وعيش وملح. وبعد أن ترجلت من السيارة وجدت الجهة المنظمة للحدث قد وضعت اثنى عشر كرسيا لكبار الحضور على ميمنة قبر الرئيس الراحل أنور السادات وقد خصصت لي أحد هذه المقاعد، بالرغم من أن الحضور كان في حدود 400 شخص.
ثالثا: زاد هذا الأمر من شعوري بالضيق، إذ كيف أستريح على كرسي وثير في الظل، بينما يقف الناس رافعين مظلاتهم المطبوعة بعلم الشاهنشاهية ذي الأسد والسيف؛ تحت الأوار القائظ؟! وكيف أهنأ في تلك الجلسة على بعد 3 خطوات من مشهد وضع الإمبراطورة وصديقتها السيدة جيهان السادات إكليل الزهور، بينما يقف زملائي الصحفيين بالخارج؟!
رابعا: طلبت من الصديق الإيراني أن يعذرني لعدم تمكني من إكمال الجولة بالسيارة الليموزين على أن أستقل إحدى الحافلات المخصصة لنقل الضيوف الإيرانيين وقلت له إن وجودي معهم في الحافلة سيمكنني من فتح أبواب للنقاش حول المستجدات الراهنة وأعود مع بعض المسنين منهم إلى ما دار في العام 1979 وما بعده، وبعد أن رأى إصرارا مني قبل اعتذاري وصرف سائق الليموزين.
خامسا: عندما حضرت الإمبراطورة فرح استقبلتها الحشود بهتاف باللغة الفارسية “شاهنشاه حضرتشاه” ومعناها غير الحرفي “روحي فداء الملك”، وشعار “ما هستیم” ومعناه “نحن موجودون” في إشارة إلى تضامن الحضور مع الأسرة البهلوية، وشعار “شهبانو دوستت داریم” ومعناه “نحن نحبك يا إمبراطورة”. وقد كان لافتا تغيب السيدة جيهان السادات التي تحضر كل عام، وعندما سألت عن سبب التغيب قال البعض إن السيدة جيهان تمر بوعكة صحية وإن حالتها المرضية لم تسمح لها بالحضور. وقد استشعرت أن هناك احتمالات أخرى للتغيب بعضها ذو أبعاد سياسية.
سادسا: حضرت الإمبراطورة ومعها طفلة صغيرة، تبين أنها حفيدتها الصغرى، آريانا بهلوي، ابنة الأمير علي رضا بهلوي، الذي قضى منتحرا يوم 4 يناير 2011، بولاية ماساتشوستس بعد فترة طويلة من إصابته بالاكتئاب النفسي، وقد ولدت الطفلة السمراء التي إذا نظرت إليها من الوهلة الأولى شعرت أنها نسخة طبق الأصل من والدها وجدها، بعد رحيل والدها بسبعة أشهر، عن ارتباط مع السيدة، راها دايديفر Raha Didevar التي تعمل في نشاطات علم النفس، ولديها رسالة دكتوراه في علم النفس السريري Clinical Psychology، والتي جابت قارات العالم للعمل في مجال الرعاية النفسية، والتي اتشحت بالسواد، فيما حرصت على أن ترتدي طفلتها فستانا أبيضَ كي تبدو بداخله كملاك صغير لا علاقة له بتعقيدات السياسة وتاريخ الصراع على السلطة في بلاد أبيها.
سابعا: لاحظت أن الطفلة البالغة من العمر نحو 8 سنوات وغير المدركة تماما تفاصيل ما يدور من حولها وأسبابه، والتي رافقت والدتها وجدتها في وضع أكاليل الزهور على قبر الرئيس السادات وجدها الشاه، مندهشة من المشهد برمته، ذلك أنه عندما يهم الناس بإبداء رغبتهم في التقاط الصور معها، يزيد اندهاشها، فهم ليسوا أساتذتها في المدرسة ولا هم زملاؤها في الصف، ويدور في خلدها السؤال الذي لا إجابة مقنعة عنه لديها: لماذا يحرص الناس على التقاط الصور معي والاحتفاء بي إلى هذا الحد؟!
ثامنا: جثم الليلُ على القاهرة وبدّل ضوءَ النهارِ إلى عتمةٍ لم تبددها إلا أضواء أعمدة الإنارة في الشوارع، وعندما وصلنا إلى الفندق في هدأة المساء اقتربت من الأميرة الصغيرة، وحاولت محاورتها عن جدها وأبيها؛ غير أنها لم تتمكن من التحدث وأبدت خجلا كبيرا، حينها شعرت أنني إزاء طفلة مكلومة كُتِبَت عليها الحياة في أجواء دراما التاريخ، ولم يُقدر لها أن ترى جدها الذي كان حتى يناير 1979 أقوى حكام الشطر الشرقي من الكوكب، ولم تر أباها الذي كان يدرس الدكتوراه في الشؤون الإيرانية، والذي عاني الأمرين إزاء انتقاله من ساحة الأمراء إلى الضياع التام في أدغال أوروبا وأمريكا، والذي لم يكمل بعدُ عامه الثالث عشر عندما قضت الثورة الإيرانية على عرش أبيه.
وقتها تذكرت ما قالته لي الإمبراطورة في أحد الأعوام السابقة حول أن سبب انتحار الأمير الشاب كان حزنا على شقيقته التي انتحرت هي الأخرى قبله بعشرة أعوام، وأنها (أي الشهبانو) عرفت فيما بعد أنه كانت تربطه علاقة ببعض من وصفتهم بـ”أصدقاء السوء”، الذين أوصوله إلى قرار مفارقة الحياة”.
تاسعا: في طريق العودة من النصب التذكاري بمدينة نصر إلى مسجد الرفاعي بالقلعة جلست إلى جوار رجل طاعن في السن أخبرني أنه يبلغ من العمر 77 عاما، وأنه متقاعد منذ سنوات طوال بعد أن عمل مهندس بترول لدى إحدى أكبر شركات النفط في العالم، وتنقل بين إيران وليبيا في عهد القذافي والإمارات العربية المتحدة في عهد الشيخ زايد، وتعلم بعضا من العربية، ويقيم الآن في مدينة دالاس بولاية تكساس الأمريكية، وعندما سألته عن المعارضة الإيرانية في الخارج أبدى رأيا سمعته من كثير من الحضور هذه المرة وفي كل المرات السابقة.
عاشرا: يرى مؤيدو الملكية أن النظام الإيراني الحالي، على بشاعته ـ من وجهة نظرهم ـ هو أفضل كثيرا من بعض أطياف المعارضة في الخارج وخاصة في باريس، وتحديدا جماعة “مجاهدي خلق” التي يشيرون إليها اختصارا بـ”MK”؛ لأن النظام الحاكم الآن دافع عن بلاده عندما وقعت الحرب مع العراق؛ لكن تلك الجماعة حاربت الإيرانيين واصطفت مع الجيش العراقي في حربه ضد إيران.
عندما سمعت ذلك تدبرت سبب إعلان خامنئي في أعقاب انتفاضة ديسمبر 2017/ يناير 2018 أن جماعة مجاهدي خلق هي التي نظمت تلك المظاهرات، وقد رمى خامنئي ـ بدهاء بالغ ـ من خلال هذا الإعلان إلى إفقاد الزخم الشعبي مصداقيته والطعن فيه عن طريق ربطه بجماعة غير مقبولة لدى أطياف القوميين الفرس وعلى رأسهم مؤيدي عودة الملكية.
ولقد كانت تلك المسألة من الأمور التي شغلت بالي كثيرا في السنوات الأخيرة، ومن المفارقات أنني قد طرحتها للنقاش بالفعل في مقابلة أجريتها أوائل العام الماضي مع، مريم رجوي، زعيمة تنظيم مجاهدي خلق، وكنت قد نشرت تلك المقابلة في صحيفة “اليوم السابع”، وأجدني الآن ـ تحت وطأة التزامي بالحياد التام ـ في مورد إعادة نقل إجابة رجوي بالحرف الواحد كما هي.
قالت لي رجوي ردا على سؤال، حول ما يثار بشأن اصطفاف الجماعة مع الجيش العراقي ضد الجيش الإيراني في حرب الخليج الأولى، بالحرف الواحد ما يلي:
“في العام 1980 أدانت منظمة مجاهدي خلق بشدة احتلال العراق للأراضي الإيرانية وشاركت في كتائب مستقلة في الحرب ضد القوات العراقية، وفي هذه المعارك قتل عدد من أعضاء مجاهدي خلق ومؤيديهم، وتم أسر عدد منهم، وبقوا في مخيمات العراق حتى حلول عام 1990، حين تم تبادل الأسرى، لكن منذ يونيو/ حزيران 1982 عندما ترك الجنود العراقيين الأراضى الإيرانية، لم يعد يبقى دليل لاستمرار الحرب، ولكن الخميني أصرّ لمدة ستة أعوام على مواصلة الحرب. فيما رفعت المقاومة الإيرانية خلال هذه الفترة راية السلام، وفى مارس عام 1983 وافق المجلس الوطني المقاومة الإيرانية على خطة سلام في الحرب الإيرانية ـ العراقية وقد أعلنت الحكومة العراقية رسميا أنها أساس مقبول لمفاوضات السلام، وأكثر من خمسة آلاف من الشخصيات والأحزاب الأوروبية والأمريكية أعلنت دعمها في بيان مشترك لخطة السلام التي قدمها المجلس الوطنى للمقاومة.
ولأن هذه الحرب كانت ضد مصالح الشعب الإيراني استطاعت المنظمة داخل البلاد شنّ حملة ضد الحرب الخيانية، وإفشال محاولات الملالي لتحشيد القوى لمواصلة الحرب، وبشكل متدرّج فقدت الحرب شرعيتها بين المواطنين الذين أرادوا عدم قتل أبنائهم في الحرب التي كانت تؤمِّن فقط مصالح الزمرة الحاكمة.
وفي عام 1986، نقلت منظمة مجاهدي خلق الإيرانية مقرها المركزي إلى العراق. وكان وجود مجاهدي خلق في العراق ضربة قوية لمحاولات الملالي المثيرة للحرب. لأنه أظهر للشعب الإيراني أن السلام في متناول اليد، وعلى العكس من ترويج النظام ليست هناك حاجة إلى حرب لزيارة مراقد الأئمة الشيعة في كربلاء والنجف. وفي وقت لاحق، تم تشكيل جيش التحرير الوطني الإيراني على الحدود الإيرانية ـ العراقية، وكان جيشا مستقلا تماما عن العراق، وعندما قام هذا الجيش بتحرير مدينة مهران غربي إيران، وهزم فرقتين للنظام وأخذ 1500 أسير من قوات النظام وحصل على ما يعادل ملياري دولار من الغنائم الحربية من الأسلحة الثقيلة أو دمرها، أدرك الخميني أن استمرار الحرب سيؤدي إلى إسقاطه، وبالنتيجة، وبعد أقل من أربعة أسابيع من تحرير مدينة مهران الحدودية، أعلن عن تجرعه كأس السم، حسب تعبيره”.
انتهى كلام مريم رجوي.
حادي عشر: في تلك الأثناء تحدثت مع أحد الأشخاص وثيقي الصلة بولي العهد السابق، الأمير رضا بهلوي، وقال لي إن الأمير يعد الآن لمرحلة ما بعد سقوط النظام الإيراني وأنه كوّن هيئة علمية من 50 خبيرا في كل المجالات لوضع خطة إصلاح تطبيقية عندما يعود إلى السلطة لرفع مستوى البلاد اقتصاديا وسياسيا وتعليميا وغير ذلك، كما أنه شكل هيئة قانونية لوضع تصور لدستور البلاد الجديد بعد سقوط النظام الحالي.
ثم قال لي إنه (أي الصديق الإيراني وثيق الصلة بالأمير) التقى مؤخرا وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، والمبعوث الأمريكي الخاص للشؤون الإيرانية، السفير برايان هوك، وناقشا الدعم الأمريكي للأمير، حال نجح في العودة إلى السلطة، وأقنعهما بعدم جدوى دعم ومساندة مجاهدي خلق، على حد قوله.
ثاني عشر: كان من اللافت هذا العام حضور عدد من صحفيي قناة “إيران انترناشيونال” ومقرها في لندن، وبدا كم أن القناة وثيقة الصلة بالأسرة البهلوية. وكانت القناة تنقل من خلال البث المباشر على هواء المحطة وعلى وسائل التواصل الاجتماعية، كلمات الإمبراطورة فرح، وكلمات المتحدثين الآخرين ومنهم ضباط سابقين في البحرية الملكية الإيرانية وضباط سابقين في القوات الجوية الملكية، وهم الذين كانوا يتولون تأمين الإمبراطورة ولا يسمحون لأحد بالاقتراب منها. وقد لاحظت أنها تطلب منهم الترفق بالضيوف الذين حضروا من قارات العالم لمصافحتها والتقاط الصور التذكارية معها.
ثالث عشر: تزاحم الضيوف على الإمبراطورة فأحاطها هؤلاء الضباط في شكل دائري بمساعدة عناصر التأمين المصرية، وفي تلك الأثناء كانت سيدة برفقة طفلتها تقف على بعد خطوتين طلبا لالتقاط صورة تذكارية مع الشهبانو، غير أن الضباط لم يسمحوا لها، فأخبرت الوالدة طفلتها بأن الوقت المحدد لالتقاط الصور قد مضى، فانفجرت الطفلة التي تبلغ تقريبا نحو 10 سنوات، باكية، ولما سمعت الإمبراطورة صراخها؛ خرقت أذرع الضباط وهرعت إلى الطفلة وحملتها ورفعتها أعلى كرسي والتقطت معها عددا من الصور، وقد سجلت هذه اللحظات جميعها بكاميرا هاتفي المحمول.
رابع عشر: من بين الحضور هذا العام كانت الصحفية والمحللة الإيرانية المعروفة، كاميليا انتخابي فرد، وعندما تحدث معها وهنأتها بتوليها رئاسة تحرير جريدة “إندبندنت” في نسختها الفارسية، وسألتها عن سبب حضورها هذا العام قالت إنها حرصت على الحضور لتلمس عمق العلاقات المصرية ـ الإيرانية عن قرب، وتعايش محبة المصريين للإيرانيين وسبب الحفاوة المجتمعية التي تحظى بها الإمبراطورة من الحضور المصريين، خاصة أنها رأت مصريين يحضرون مراسم إحياء ذكرى الشاه في الأعوام السابقة وتريد هذه المرة أن تتعرف على تلك الظاهرة عن قرب.
خامسر عشر: من بين أهم الأمور التي سجلتها في مفكرتي أثناء الحديث مع الوفود الإيرانية، حديثهم عن التطور الذي يلحظونه في مصر بالسنوات الأخيرة والطفرة الكبيرة في الطرق والأنفاق وخلافه، وقالت لي سيدة مؤيدة لعودة الملكية تتنقل بين لندن وواشنطن إنها لم تتمكن في بعض السنوات السابقة من الحضور إلى مصر نظرا لحالة الاضطراب السياسي بين عامي 2011 ـ 2013.
وقد خطر ببالي وقتها امتناع الإمبراطورة عن إحياء ذكرى رحيل زوجها إبان تلك السنوات بسبب الأحداث الدرامية الدامية التي عمت البلاد في ذلك الحين، وفهمت منها أن الاستقرار الراهن في مصر واستتباب الأمن فيها، وبراعة التنظيم والتأمين الشرطي إزاء إحياء الذكرى، من الأمور التي سجلتها الوفود وسوف تنقلها إلى الأوروبيين والأمريكيين عند العودة إلى بلاد لجوئهم.
***
مع انتهاء اليوم الطويل الحافل بالأحاديث الجانبية والأحداث أجريت مقابلة مع الأمبرطورة “على انفراد” وقد ساعدت إدارة الفندق الشهير المطل على شارع صلاح سالم بحي مصر الجديدة، على مقربة من منزل السفير الإيراني، في إتمام المقابلة البحثية الحصرية من خلال تخصيص حجرة لائقة لهذا الغرض.
وفي تلك الحجرة الفسيحة خافتة الأضواء روت “الشهبانو” روايتها للتاريخ، وهي تعرف أنها تتحدث إلى باحث يتثبت من كل كلمة يسمعها، ويتحرى مناهج النقد الظاهري والباطني عند ذكر الروايات التاريخية، ثم يقارن تفاصيل الروايات بما جاء في روايات الشخصيات التاريخية الأخرى، ويقارن ذلك كله مع حقائق ما في بطون الوثائق الموجودة بحوزته.
الحقيقة أن هذا أمر عضال يحتاج إلى أسابيع وربما إلى أشهر طويلة، مع العلم أن صاحب تلك السطور يحسب أن التمهل التام في النشر رفاهية لا يطيقها بسبب حاجة القراء والمهتمين بالشؤون الإيرانية الماسة والعاجلة إلى معرفة الآراء المبدئية عن إحياء الذكرى هذا العام وعن عناوين ما في ذاكرة الإمبراطورة، كما أنه يود لو يسمح له القارئ بتقاسم الشغف حول معرفة ما دار في هذه الساعات الاثنتي عشرة.
وعليه فإن الحكمة تقتضي التمهل الجزئي قبل نقل حديث الشهبانو الخاص، المسجل بالصوت والصورة، إلى القراء والمهتمين، وكما تقتضي إخراج الحقائق التي وردت في المقابلة للقارئ على نحو يليق به، في المؤلفات والأطروحات العلمية.