تعد منطقة القرن الإفريقي من أهم مناطق العالم الإستراتيجية، بسبب موقعها الجغرافي المترامي الأطراف، المسيطر على مدخل البحر الأحمر الجنوبي عند مضيق باب المندب، والمؤثر أيضاً في مدخله الشمالي من جهة قناة السويس، لذلك فإن البحر الأحمر هو شريان الحياة الواصل بين أرجاء العالم أجمع، وحلقة الوصل المحورية لسريان التجارة العالمية.
علاوة على ذلك فإن البحر الأحمر له باع كبير من الناحية الاستراتيجية، إذ يعد صمام الأمن والأمان والمحدد الرئيس لاستقرار الدول العربية والإفريقية بصفة عامة ومصر بصفة خاصة، ويمثل أهم مصادر الدخل القومي لمصر ومرآة التجارة المصرية المنعكسة على العالم أجمع عن طريق قناة السويس، بالإضافة لما تخطط له مصر من آمال واعدة مستقبلاً في المنطقة الاقتصادية في إقليم قناة السويس.
مدخل إلى فهم القرن الإفريقي
نتيجة للأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة سواء لمصر والعالم العربي، فمن المهم تتبع كل التحديات والمخاطر الحافلة بهذه المنطقة، التي على رأسها التوغل الإيراني السياسي والديني في منطقة القرن الإفريقي، وآثار ذلك على مضيق باب المندب من جهه، وقناة السويس من جهه أخرى، ومن المفيد رصد الأدوات والآليات الإيرانية في تحقيق حلم الهيمنة الإيرانية على هذه المنطقة وتحليلها، وفي أبعاد التنافس مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى الموجودة هناك مثل: إسرائيل وتركيا وإيران من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية والصين من جهة أخرى.
الملاحظ في هذا الصدد أن التعريفات الخاصة بمنطقة القرن الإفريقى متعددة، إذ سُميت هذه المنطقة بهذا الاسم نظراً إلى إمتدادها داخل المياه بشكل يشبه قرن حيوان وحيد القرن، وكأنه يشق الماء إلى شطرين، الشطر الشمالي هو البحر الأحمر، والشطر الجنوبي هو المحيط الهندى، وهو يضم عدد من الدول تتمثل في: (إريتريا ـ إثيوبيا ـ الصومال ـ جيبوتي ـ السودان ـ كينيا ـ رواندا ـ بوروندي ـ تنزانيا ـ أوغندا)، وذلك في ضوء استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في شرقي ووسط إفريقيا، الأمر الذي يوضح أن مفهوم القرن الإفريقي أكثر عرضه لأن يتسع ويضيق طبقاً لسياسات الدول ومصالحها.
مع ذلك فإن بعض الرؤى تفترض أن مصطلح القرن الإفريقي في جوهره يعد مصطلحاً سياسياً قد مر بعدد من المراحل، وأن مرحلته الأخيرة لم تتشكل بعد؛ نتيجة لكم المصالح المتضاربة بين القوى الكبرى والإقليمية في هذه المنطقة، ولكن في كل الأحوال فإن دول القرن الإفريقي نفسها بإمكانيتها وقدراتها لا يمكنها تحديد الإطار المفاهيمي الواضح والمحدد لحدود وسياسات هذه المنطقة، بسبب عدم استقرار الحدود السياسية لهذه الدول التي تمتلئ بالكثير من العرقيات المختلفة، ومن ثم فإن بعض الرؤى ترى أن هذا المسمى “القرن الإفريقي” مفهوم غامض ومتغير بفعل تغيرات البيئتين الدولية والإقليمية معاً، كما أنه مصطلح أكثر مرونة وقابل للتعديل في أي وقت، وفقاً لقدرات القوى الكبرى ومصالحها.
على الجانب الآخر، تحتوي منطقة القرن الإفريقي على الكثير من الثروات الطبيعية مثل: الذهب والنفط، كما تعد هذه المنطقة غنية باحتياطيات ضخمة من المعادن المستخدمة في الصناعات الثقيلة والنووية مثل: الكوبالت واليورانيوم، بالإضافة إلى ذلك تطل منطقة القرن الإفريقي على عدة جزر لها أهمية استراتيجية خطيرة كجزر “حنيش” الممتدة في اليمن من جهه، وأرخبيل “دهلك” الواقع بالقرب من السواحل الإريترية من جهه أخرى.
كل هذه الامتيازات قد جعلت من منطقة القرن الإفريقي مطمعا لكثير من الدول الكبرى لإقامة مشاريعها الاستغلالية هناك كالمشروع الأمريكي نفسه المعروم بإسم “القرن الإفريقي”، كما أن التوغل الإيراني حالياً في منطقة القرن الإفريقي ليس بالأمر الذي وجد مصُادفةً، إذ إن هذا الوجود يقع ضمن بوتقة إيرانية حقيقية، مفاداها تحقيق حلم الهيمنة الفارسية على دول العالمين الإسلامي والعربي، والذي لا يتحقق إلا من ثنايا الدول الإفريقية التي تتوافر فيها كل العناصر والآليات من الضعف والفقر والجوع، التي تجعل من هذه الدول الإفريقية أكثر عرضة للسيطرة الإيرانية من أي مكان آخر، عن طريق الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي يجعل من المهم طرح التساؤل عن ماهية الآليات والأدوات الإيرانية للتوغل في منطقة القرن الإفريقي ومعرفة أثر ذلك على الأمن الإفريقي والعربي.(1)
أولاً: أهداف السياسة الخارجية الإيرانية في القرن الإفريقى
تسعي إيران إلى الهيمنة والسيطرة على منطقة القرن الإفريقى، وذلك من خلال الحصول على موطئ قدم لها في مدخل البحر الأحمر وإقامة قواعد عسكرية لها في المنطقة، ومن ثم فإن ذلك الهدف يُعد هدفاً رئيساً للسياسة الخارجية الإيرانية في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما يُحتم على إيران انتهاج كل الوسائل والأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، من أجل تحقيق ذلك الهدف، إلا أن تحقيق هذا الهدف الأولي والكلي لن يتم تحقيقه في حقيقة الأمر، إلا من خلال بعض الأهداف الجزئية التي تتشكل وتتحد معاً لتحقيق الهيمنة الإيرانية في منطقة القرن الإفريقي على النحو التالي:
أ ـ الأهداف السياسية:
تحاول إيران بسط نفوذها الشيعي في منطقة القرن الإفريقى، وتكوين محور معادي للغرب تحت رايتها من دول العالم الثالث، وذلك سعياً لتقليل النفوذ الغربي والأمريكي في المنطقة لصالحها، كما تهدف إيران إلى الخروج من العزلة الدولية الغربية التي فُرُضت عليها بسبب برنامجها النووي.
أيضاً تسعى إيران إلى الحصول ولاء هذه الدول، ومن ثم تأييدها في المحافل والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة، إضافةً إلى ذلك تطمح إيران للسيطرة على الممرات المائية الدولية لتكبيد الغرب والمنافس السني اللدود المتمثل في المملكة العربية السعودية، أكبر الخسائر من خلال فرض السيطرة على مضيق باب المندب؛ لأن ذلك سوف يُحتم على الدول التحول إلى طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً من المضيق، إذ يعد مضيق باب المندب حالياً أهم الممرات المائية الدولية للسفن التجارية حاملة النفط، حيث يعبر المضيق يومياً نحو 3.5 مليون برميل نفط تقريباً.
على ذلك يمكن إشعال صراع حول إمدادت الطاقة مستقبلاً، بالتالى تطمح إيران إلى السيطرة على المضيق لكسب أوراق ضغط جديدة على الأعداء والمنافسين على حد سواء، وهو ما يمكنها من أن تساوم بأوراق الضغط تلك في الكثير من ملفات الشرق الأوسط والعالم كله.
ب ـ الأهداف الاقتصادية
لإيران فرص ومصالح اقتصادية حيوية في منطقة القرن الإفريقي مستقبلاً، وهو ما قد أكده نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون الإفريقية، محمد رضا باقري، وبالفعل نجد أن هناك تعاونا في العديد من المجالات الاقتصادية، الفنية والثقافية، وذلك في إطار وجود رغبة إفريقية واضحة المعالم في الاستفادة من المساعدات والخبرة الإيرانية في قطاعي التكنولوجيا والنفط بالإضافة إلى رغبة الدول الإفريقية في الحصول على الخبرة الإيرانية في المجال العسكري، إلا أن كل هذه المساعدات في تقديرات الجانب الإيراني لحجم القيمة المضافة التي ستعود عليها من منطقة القرن الإفريقى، على رأسها تأييد الدول الإفريقية لأحقية إيران في تطوير مشروعها النووى.
جـ ـ الأهداف الدينية الإستراتيجية والأمنية
يعد مبدأ تصدير الثورة الإسلامية من أهم الأهداف الإيرانية العقائدية والدستورية على نحو دقيق، وذلك من خلال المؤسسات الإيرانية والمراكز الثقافية التي تسعي إلى تشييع منطقة القرن الإفريقى، ويظهر ذلك بقوة في دول شرق إفريقيا، من خلال السفارات الإيرانية والبعثات الدينية والتعليمية التي ترسلها إيران إلى إفريقيا.
كما تطمح إيران إلى جعل منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا إحدى أهم نقاط الارتكاز الاستراتيجية لمواجهة وتنافس قوى الإقليم لاسيما إسرائيل وتركيا، كما تعمل على تصدير الأسلحة لمناطق الصراعات الإفريقية مثل ما تم مؤخراً، إذ زودت إيران إريتريا بالمئات من عناصر فيلق القدس وضباط البحرية والخبراء العسكريين من الحرس الثوري الإيراني الذين يشرفون على قواعد صاروخية بطول الساحل الإريتري على البحر الأحمر والمقابل للمملكة العربية السعودية واليمن.
بالإضافة إلى ذلك تشير بعض الوسائل الإعلامية إلى قيام إيران بتهريب السلاح وعناصر من “تنظيم القاعدة” من أفغانستان إلى جنوبي اليمن، إلى جانب تدريب عناصر التمرد الحوثي بمعسكر “دنقللو الإريتري”، مع قيام إيران بتزويد العناصر العسكرية البحرية التابعة لها في خليج عدن قبالة السواحل الصومالية، ذلك تحت ذريعة محاربة القرصنة، وخير مثال على ذلك هو: القاعدة الإيرانية في ميناء عصب الإريترى.(2)
ثانياً: الآليات والأدوات الإيرانية للتوغل في القرن الإفريقى
تمتلك إيران الكثير من الأدوات والآليات التي بمقدورها توظيفها لخدمة الأهداف الأولية للسياسة الخارجية وتنفيذ مشروعها الشامل في منطقة القرن الإفريقى، إذ تنتهج سياسة ناعمة إزاء دول منطقة القرن الإفريقي تعتمد في الأساس على التشييع والدعم والمعونات الاقتصادية على النحو التالى:
أ ـ المعونات والحوافز الاقتصادية
تستغل إيران حالات الفقر والجوع والمرض التي تعاني منها أغلب بلدان هذه المنطقة، مقدمة لها العون والمساعدة لتوطيد علاقتها بهدف نشر التشيع، كما تسعي إيران لعمل علاقات ثنائية ومتعددة الأطراف مع دول هذه المنطقة، وهو ما يعد تعاطيا مضادا مع الضغوط الدولية الممارسة على إيران من القوى الغربية بشأن برنامج إيران النووى.
ومن المُلاحظ أن هذه الآلية قد برزت على الساحة داخل منطقة القرن الإفريقي بعد إنعقاد القمة الإيرانية ـ الجيبوتية بين رئيسي البلدين، التي قد انتهت بتوقيع مذكرة تفاهم للتعاون المشترك، تضمنت بناء مراكز للتدريب، والإعفاء من تأشيرات الدخول لمواطني البلدين، بالإضافة إلى منح البنك الإيراني قروض للبنك المركزي الجيبوتي، وتقديم منح للطلاب بهدف الدراسة في الجامعات الإيرانية.
ب ـ دور السفارات والمراكز الثقافية
تعد السمات الشخصية الإفريقية المتسامحة والمتقبلة للآخر في إطار من العاطفة وحسن النوايا، فضلاً عن محبة المسلم الإفريقي لآل بيت النبي، أحد أهم عوامل انتشار التشيع في منطقة القرن الإفريقى، فقد أدرك القائمون على نشر المذهب الشيعي هذه الشخصية واستطاعوا إقتحامها بكل سهولة ويسر.
وتستخدم إيران المال عن طريق الأنشطة الثقافية والفنية التي تقوم بها للتأثير على الفئات الفقيرة والمهمشة وبعض المسلمين السُنة المحبين لبعض الطرق الصوفية لتشييعهم، إذ يمثل المركز الثقافي الإيراني أهم آليات هذا المسار الناعم، ذلك بتدعيم المشاركة في معارض الكتب والأسابيع الثقافية.
ولعل من المفاجآت المبهرة في هذا الصدد هو إعلان رئيس حرس رئيس جمهورية جزر القمر عن تشيعه عام 2008، بالإضافة إلى وجود تسريبات عن وجود تشيع واسع النطاق في السودان لم يتم الإعلان عنه رسمياً، ولعل ما يفسر ذلك إقدام السودان على غلق جميع الحسينيات الإيرانية في سبتمبر 2014، الأمر الذي يكشف عن أهم آليات إيران للهيمنة داخل المنطقة وعن مشروعها الثيوقراطي المذهبي، سعيها لتحقيقه بكل الوسائل للتأكيد على أنها المرجع الديني والسياسي الأمثل في العالمين العربي والإسلامي.
جـ ـ المليشيات العسكرية الإيرانية
تعتمد إيران في الأساس على مبدأ تصديرالثورة الإيرانية في كل دول المنطقة، الأمر الذي يستلزمه عدة طرق وآليات، هذا وإن استعرضنا الأدوات الإيرانية الناعمة للهيمنة، فلا يمكن إغفال بأي حال من الأحوال القوة الصلبة لإيران، المتمثلة في الأذرع العسكرية التابعة لقوات حرس الثورة الإيراني في منطقة القرن الإفريقى، التي من أهمها “جماعة الحوثيين” المسيطرة على الأوضاع في اليمن والمستخدمة في استنزاف القوة العسكرية السعودية تدريجياً بصفة خاصة وقوة تحالف دعم الشرعية في اليمن بصفة عامة.(3)
ثالثاً: التنافس الدولي والإقليمي في القرن الإفريقي
ظلت منطقة القرن الإفريقي محل اهتمام القوى الكبرى والإقليمية على مر التاريخ، حيث كان لعدة دول استعمارية مناطق نفوذ ومستعمرات في منطقة القرن الإفريقى، إلا أن الاهتمام بهذه المنطقة قد تزايد بشكل سريع للغاية؛ نتيجة لتفاقم الفوضى على الساحل الصومالي، حيث عمليات القرصنة للسفن العابرة من قبل بعض الجماعات المسلحة المتشددة، وهو ما يشكل تهديداً جسيماً للتجارة العالمية المارة عبر هذه المنطقة، أيضاً زاد الاهتمام بهذه المنطقة عقب تمرد جماعة الحوثيين الموالية لإيران وأحد أهم أذرعها في اليمن، التي تسعي لتطويق منافسها اللدود المتمثل في الممكلة العربية السعودية من خلال الاستيلاء على اليمن، الأمر الذي أشعل لهيب الصراع في منطقة القرن الإفريقي.
علاوة على ذلك فقد تزايد تنافس القوى الدولية كالصين والولايات المتحدة الأمريكية، والقوى الإقليمية كإسرائيل وتركيا وإيران لإيجاد سبل لتعزيز نفوذهم السياسي والاقتصادي والعسكري، ذلك على حساب بعضهم البعض في منطقة القرن الإفريقي، من ثم فإن التنافس بين القوى الدولية والإقليمية قد برز في منطقة القرن الإفريقي بعدة صور وأشكال، إلا أن أبرز هذه الأشكال قد تمثلت في التنافس العسكري والاقتصادي على النحو التالي:
أـ القوي الدولية: الولايات المتحدة الأمريكية والصين
اهتمت الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة القرن الإفريقي بشكل كبير في وقت متأخر خاصة بعد أحداث 11 سبتمر 2001، الأمر الذي شكل بالأساس تغيرات في استراتيجية السياسة الخارجية الأمريكية إزاء العالم كله، ومنطقة القرن الإفريقي بصفة خاصة، ومن ثم فقد تم استحداث مفهوم القرن الإفريقي الكبير الذي يضم عشرة دول إفريقية وفق الاستراتيجية الأمريكية الجديدة صوب شرقي ووسط إفريقيا، إلا أن الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة يستند إلى عدة عوامل محددة لهذا المفهوم الواسع، تكمن في اكتشافات النفط في القرن الإفريقى، لكن الأوضاع السائدة داخل هذه المنطقة قد أثرت سلباً على المصالح الأمريكية، لاسيما عقب تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبى (كينيا)، ودار السلام (تنزانيا) عام 1998م.
بالتالى أعلن المسؤولون الأمريكيون إنشاء عدة قواعد عسكرية بغطاء شرعي تمثل في عدة شعارات أهمها، الحرب على الأرهاب، وإدارة أزمات المنطقة، وتحسين حالة الأمن الغذائي في القرن الإفريقى، ومن ثم فقد سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحسين علاقتها مع جيبوتي رغبة منها في استثمار موقعها الحيوي اقتصادياً، فأنشأت “قاعدة ليمونيير” على أراضيها.
وتمثل هذه القاعدة مدينة متكاملة الحياة، وامتد عقد إيجار هذه القاعدة حتى عام 2025، أيضاً توجد بها القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا وهي “أفريكوم”، وهي المسؤولة عن متابعة وتنفيذ البرامج المتعلقة بالأمن والاستقرار في القارة الإفريقية وعن العلاقات العسكرية مع كل دول القارة الإفريقية فيما عدا مصر.(4)
علاوة على ما قد سبق، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ليست القوة الكبرى الوحيدة المتواجدة في منطقة القرن الإفريقى، حيث هناك وجود قوي ومنافس للولايات المتحدة في هذه المنطقة متمثل في الصين، التي تسعي إلى تطويق الأمريكان بسياج أمني على رقعة “شطرنج العالم” لاسيما منطقة القرن الإفريقى.
إذ دخلت منطقة القرن الإفريقي حيز السباق على الهيمنة نظراً لإعتبارها أحد أهم وأغنى أقاليم العالم الجيوسياسية، فأصبحت القوتين الدوليتين “الصين، الولايات المتحدة الأمريكية” متنافستين بقوة في القرن الإفريقى، إلا أن هذا التنافس ذو صبغة اقتصادية في الأساس، فالصين تمتلك منطقة لوجيستية مهمة في جيبوتى، وهو ما تراه الولايات المتحدة أمرا يرقى إلى كونه قاعدة عسكرية في جيبوتي منافسة لها.
كما ترى الولايات المتحدة أن الصين تعمل على تطويق جيبوتي التي تعد من أحد أفقر بلدان العالم من خلال قروض صينية بالمليارات ومن خلال بناء تحالفات استراتيجية مع حكومتها، وتعتبر واشنطن أن التمدد الصيني في جيبوتي بلا شك يشكل خصماً من رصيد الولايات المتحدة في منطقة القرن الإفريقى، فضلاً عن حرص الصين على الوجود العكسري بهذه المنطقة عن طريق وحداتها البحرية في خليج عدن لتأمين قوافل التجارة البحرية المارة به والبالغ عددها 6000 قافلة بحرية سنوياً.
وتعمل الصين حالياً على بناء خط سكك حديد سريع يربط بين جيبوتي والعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وهو ما يعتبره الخبراء بمثابة رابط استراتيجي مهم في هذه المنطقة بإمكانه إشعال صراع جيوبولوتيكي في القرن الإفريقي في مواجهة القوى الإقليمية المتنافسة هناك.(5)
ب ـ القوى الإقليمية: إسرائيل وتركيا وإيران
تخوض تركيا وإيران وإسرائيل سباقاً من أجل تكثيف نفوذها في منطقة القرن الإفريقي، حيث تعمل إسرائيل على تعزيز وجودها في المنطقة، فوجدت ملاذها في إثيوبيا منذ ستينيات القرن الماضي من خلال إقامة علاقات أمنية، وعسكرية واقتصادية وبسط نفوذ تجاري واستثماري لها في هذه المنطقة، كما توجد إسرائيل في جزيرتي “دهلك” و”فاطمة” الإريتريتين، ومن ثم بإمكانها بناء مراكز رصد لها على البحر الأحمر تسهتدف السعودية والسودان واليمن. وتقيم إسرائيل في دهلك أكبر قاعدة بحرية لها خارج حدودها.
على الجانب الآخر تسعي تركيا للوجود في العمق الإفريقي لتعزيز نشاطها الاقتصادي والسياسي ولتوسع نفوذها العسكري، حيث تقيم تركيا مع إثيوبيا علاقات اقتصادية قوية للغاية، وتعد رابع أكبر شريك تجاري لأنقرة في القارة السمراء، وتتلقى وحدها نحو 2.5 مليار دولار من إجمالى 6 مليارات دولار تستثمرها في القارة.
في المقابل ينصب اهتمام تركيا الإنساني والعسكري كمزيج من الأداتين الناعمة والصلبة نحو الصومال، حيث بلغت المساعدات التركية الإنسانية والتقنية للصومال ما يربو على نحو 400 مليار دولار، بالإضافة إلى حرصها على قيام قاعدة عسكرية وكلية عسكرية تابعة لها في هذا البلد.(6)
في المقابل، تتبع إيران سياسة نشطة في إفريقيا بصفة عامة والقرن الإفريقي بصفة خاصة، من خلال شراكات اقتصادية وتحقيق اختراقات ثقافية والعمل على نشر التشيع، بجانب تعزيز وجودها العسكري في منطقة القرن الإفريقى، إذ تشير بعض التقارير إلى أنها تمكنت من بناء قاعدة بحرية عسكرية في إريتريا، ومركز لتموين سفنها، إضافة لتدريبها عناصر من الحرس الثوري والمليشيات التابعة لها في إريتريا.
ولعل أبرز دليل على ذلك هو العاصمة الإريترية أسمرة، التي تعد بمثابة حلقة وصل ودعم عسكري للحوثيين في اليمن ضد الشرعية والضغط على السعودية، ما جعل السعودية تستدعي الرئيس الإريتري أكثر من مرة لتنسيق المواقف بين البلدين بخصوص مكافحة الإرهاب والقرصنة في مضيق باب المندب.(7)
رابعاً: التغلغل الإيراني في إريتريا
تأثرت السياسة الخارجية الإيرانية في علاقتها مع النظام الإريتري بمجموعة من العوامل المتمثلة في حرصها على الوجود في منطقة القرن الإفريقي لتجنب فرض حصار خارجي عليها في محيطها الإقليمى، إضافة إلى ذلك تريد إيران إرسال رسائل لبعض خصومها في المنطقة من خلال تواجد قطع أسطولها البحري في بحر العرب وخليج عدن وجتوب البحر الأحمر، فضلاً عن تصنيف النظام الدولي لكل من إيران، وإريتريا، ضمن الدول غير المتعاونة، غير أن الدولتين تلتقيان على الأسس البراجماتية من أجل تمرير أهدافهما المتعارضة.
بالإضافة إلى عقدة القوة التي يشترك فيها النظامان ويحاولان إثباتها بشتي السبل، إذ تسعى إيران لتأكيد قوتها من خلال مد نفوذها في محيطها الإقليمي وسعيها الدؤوب لحيازة القوة النووية، بينما تحاول إريتريا تعزيز قوتها بالتحالفات الأمنية والسياسية مع القوى الإقليمية، بيد أن إريتريا تعتبر مرتعاً خصباً لكل القوى الإقليمية من خلال القواعد العسكرية والموانئ البحرية المؤجرة لهذه الدول وهي إسرائيل وتركيا وإيران على حد السواء.
وتطمح إيران بمرجعيتها الدينية الشيعية إلى أن تكون القطب الإسلامي المهيمن على شئون الدول الإفريقية التي تحظى بأقليات ملسمة من خلال استغلال بعض التنظيمات الإرهابية، لا سيما إريتريا في هذا الصدد، مع وجود “الحزب الإسلامي الإريتري للعدالة والتنمية” وهو الذراع السياسية للإخوان المسلمين في إريتريا.
وبالتالي فإن ولاء هذا الحزب لجماعة الإخوان المسلمين هو فكري أكثر منه تنظيمي، وتكمن خطورة الحزب في إمكانيات قيام تحالفات بين إيران وجماعة الإخوان المسلمين في منطقة القرن الإفريقي بهدف حماية المصالح المشتركة في مضيق باب المندب وتضييق الخناق على مصر عن طريق مدخل قناة السويس الجنوبي وسيطرة دولة إسلامية على الأوضاع الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي بغض النظر عن ماهية المذهب سواء أكان سنيا أو شيعيا، الأمر الذي يشكل خطورة بكل حال من الأحوال عن الأمن العربي والإفريقي.(8)
خامساً: تداعيات التوغل الإيراني في القرن الإفريقي على الأمن العربي وسبل مواجهته
تأمل إيران في سعيها الحثيث لتحقيق مشروعها السياسي في المنطقة الشرق أوسطية كقوة إقليمية تسعي للهيمنة والسيطرة على النسق الإقليمي الجديد، وهو ما قد تبين من خلال مهام الحرس الثوري الإيراني وأعماله الخارجية في دول الجوار الإفريقي والعربي، لاسيما عقب ثورات الربيع العربى، تلك التي مهدت للأذرع الإيرانية الاندفاع بقوة نحو الإقليم الشرق أوسطي من جهه كما هو واضح في العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان والبحرين.
إلى جانب الوجود والهيمنة أيضاً في منطقة القرن الإفريقي من جهة أخرى، لذلك تسعى إيران لتكوين واستكمال الدوائر المفرغة من “الهلال الشيعي”، الذي لا يكتمل إلا من خلال سيطرة إيران على الجانب الجنوبي من هذا الهلال على حساب دول منطقة القرن الإفريقي ومضيق باب المندب على وجه الخصوص، عن طريق بذر الفتن والصراعات على أسس ثورية شيعية ضد الدول الإفريقية والعربية على حد السواء، وهو الأمر الذي يشكل تهديدا واضحا وصريحا للأمن القومي العربي، الأمر الذي يتطلب استراتيجيات تعاون جديدة وجدية في كل المجالات بين الدول العربية والإفريقية لتحجيم الدور الإيراني المتغلغل داخل منطقة القرن الإفريقي.(9)
وفي حقيقة الأمر، فإن الإقليم الإفريقي يفتقد جدياً للمنظومة الجماعية أو حتى الفرعية لضمان الأمن فيه، إذ إن منظومة الأمن الجماعي فيه تقوم بتأمين الدول داخلياً وتدفع التهديد عنها خارجياً، بما يكفل لها الأمن والاستقرار، بشرط توافق مصالح، وغايات وأهداف أطرافها، إذ كان من الممكن في وقت سابق قيام منظومة عربية ـ إفريقية جماعية لحماية الأمن في منطقة القرن الإفريقي، إلا أن الوضع الآن أصبح مُعقدا للغاية لوجود أطراف إقليمية ودولية ذات مصالح متضاربة في هذه المنطقة، على من ذلك فإن تكوين هذه المنظومة ليست بالأمر المستحيل؛ لضمان حماية بقاء وأمن واستقرار الدول العربية والإفريقية معاً.
بناء على ما قد تقدم، فإن منطقة القرن الإفريقي تمثل بالنسبة للأمن القومي العربي أهمية استراتيجية خطيرة، إذ تضم المنطقة أهم منابع نهر النيل، الذي يعد شريان الحياة لمصر والمصريين، وتعد إثيوبيا أحد أهم منابع نهر النيل بنسبة 86% بالنسبة لمصر من إجمالى المياه الواردة من دول حوض النيل جميعاً، ما يضعها على رأس قائمة أولويات السياسة المصرية.
ويمثل البحر الأحمر أهمية كبرى للأمن القومي المصري، ويعتبر حلقة الوصل لمصر باتجاه إفريقيا وآسيا، ويتميز بأهمية جيوبوليتيكية لما يحتويه من موانئ بحرية وإطلالة على طرق الملاحة البحرية للتجارة الدولية، وبالتالى تأمينه مسألة حياة للمصريين والعرب، ولذلك وجب على الدول العربية توحيد الصفوف وتكوين تكتلات عسكرية واقتصادية لتأمين هذه المنطقة من أي تهديد لها على غرار التهديد الإيراني عند مضيق باب المندب.
كما يجب التركيز على إيجاد حلول سلمية وجذرية للأزمات والمشاكل الإفريقية كما هو الحال في الصومال، وإريتريا، واليمن، وإثيوبيا، والسعي لاستخدام مصر والدول العربية القوة الناعمة المتمثلة في التقارب الثقافي والحضاري، وهو أفضل وأقل كلفة من التنافس مع القوى الدولية والإقليمية الأخرى بالأدوات والآليات العسكرية والقوى الصلبة.(10)
ـــــــــــــ
(1) مركز مقديشيو للبحوث، تحديد وأهمية منطقة القرن الإفريقى، 10 يناير 2015، الرابط : http://cutt.us/yNqi1
(2) شعبان مبروك، (دكتور) السياسة الخارجية الإيرانية في إفريقيا.. دراسات إستراتيجية، مركز الأمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، العدد (166) 2015، ص 70.
(3) عبد الله أوفى، (دكتور) الأذرع الطويلة لإيران في إفريقيا، موقع إضاءات، 21 يوليو 2016، الرابط: https://www.ida2at.com/long-arms-of-iran-in-africa-mali-tells-you/
(4) ناجي شهود، (لواء أ.ح) “عسكرة” التنافس الدولي والإقليمي في القرن الإفريقى، مجلة السياسة الدولية، العدد (212)، إبريل 2018، ص92.
(5) موقع البوابة نيوز، القرن الإفريقي يدفع فاتورة صراع النفوذ الأمريكي الصيني، 15 إبريل 2017، الرابط: http://www.albawabhnews.com/2478983
(6) بو زيدي يحيى، السياسة الإيرانية والسياسة التركية تجاه إفريقيا.. دراسة مقارنة، موقع قراءات إفريقية، 19 مايو 2016، الرابط: http://cutt.us/E4iyp
(7) محمد عمر، (دكتور) معركة النفوذ الكبري في القرن الأفريقي, موقع اضاءات, 23 يونيو 2016, الرابط: https://www.ida2at.com/battle-of-great-influence-in-the-horn-of-africa/
(8) نرمين توفيق، (دكتور) كيف تهدد التنظيمات الإرهابية الأمن في القرن الإفريقى، مجلة السياسة الدولية، العدد(212)، أبريل2018، ص132.
(9) أبو بكر الدسوقى، (دكتور) الأمن في القرن الإفريقي.. التحدي والإستجابة، مجلة السياسة الدولية، العدد (212)، أبريل 2018، ص90.
(10) سمير بدوى، (لواء أ.ح) تأثيرات الصراعات الحدودية في القرن الإفريقي.. إريتريا نموذجاً، مجلة السياسة الدولية، العدد (212)، أبريل 2018، ص103.