يتناول هذا المقال تداعيات ظهور فكرة امتلاك إيران للقوة النووية وذلك في ظل التحولات التي مرت بها طهران من جهة وأسلوب تعامل الإدارات الأمريكية المختلفة مع الملف النووي الإيراني من جهة أخرى، وذلك بدءا من إدارة الرئيس “الديمقراطي” جيمي كارتر وصولا للرئيس “الجمهوري” دونالد ترامب، وذلك في عرض للفعل ورد الفعل بين البلدين وتصوير حالة العلاقات في خروجها من شكلها الطبيعي وصولا للعداء وتبادل الاتهامات.
تعود الإرادة الإيرانية في امتلاك القوة النووية إلى عهد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي لم تردعه أي مخاوف من إعلان هذا الطموح مرات عديدة وذلك بدعوى سعيه لتأسيس اقتصاد صناعي قوي.
وبالفعل في عام 1957 أبرمت طهران اتفاقا مع واشنطن للتعاون في المجال النووي تحت شعار “تسخير الذرة من أجل السلام” وبعد ١٠ سنوات، عادت الولايات المتحدة ومنحت مركز البحوث النووية بجامعة طهران، مفاعلا نوويا وزودته باليورانيوم المخصب بنسب كافية لإنتاج سلاح نووي.
ثم في عام ١٩٦٨ وقعت إيران معاهدة “عدم انتشار الأسلحة النووية”، وذلك لإثبات حسن نوياها وسعيا منها لإطلاق برنامجها النووي، وعليه شرعت في توقيع عدة اتفاقات للتعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا لتحقيق برنامجها وتأهيل علمائها للعمل فيه، لكن الأحداث تطورت بتسارع متلاحق وفي يناير ١٩٧٩ نجحت الثورة الإيرانية في السيطرة على العاصمة طهران، وكأن الطفل قد أمسك بالسكين وبدأ يداعب أخوته.
موقف جيمي كارتر من الملف النووي الإيراني
بات أسلوب تعامل الجمهورية الإسلامية الإيرانية واضحا تجاه واشنطن بعد أن أمر الخميني، المرشد الأعلى في الجمهورية الجديدة، باحتلال السفارة الأمريكية واحتجاز رهائن بها لمدة ٤٤٤ يوما، وبدأ الصراع يتشكل بين الطرفين بعد ما أمر كارتر بتنفيذ عملية “مخلب النسر” وهي عملية عسكرية نفذتها القوات المسلحة الأمريكية إلى جانب القوات الخاصة في ٢٥ إبريل ١٩٨٠ لتحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران، ولكنها باءت بالفشل.
وهو ما يعتبر إشارة إلى أن إدارة الصراع مع الوضع الجديد لطهران لم تكن بالعملية السهلة التي تستطيع الولايات المتحدة استعراض قواها فيها، وتقديم نفسها باعتبارها القطب الأقوى والقادر على رسم النظام العالمي الجديد آنذاك.
في ديسمبر ١٩٧٩، بدأت إدارة كارتر جولة الصراع هذه المرة، وأصدرت تقريرا رئاسيا بمثابة إخطار للكونجرس توجيها لوكالة الاستخبارات المركزية بإجراء عمليات الدعاية والعمل السياسي والاقتصادي لتشجيع قيام نظام موالي في إيران.
كما أوردت الوكالة في مذكرة إلى كارتر وكبار مستشاري الأمن القومي بما يفيد أنه على الولايات المتحدة الإسراع في إسقاط النظام الإيراني ووضع الفصائل الموالية لها في وضع يمكنها من وراثة عباءة القيادة.
عليه بدأ تنظيم قوة متماسكة من مجموعات المعارضة والمنشقين والقوى الإقليمية كذلك للمساعدة في تقويض النظام الناشئ، لكن الوقت كان قد انتهى، وقد حان موعد هزيمة إدارة كارتر وقدوم إدارة رونالد ريجان في انتخابات خريف العام ١٩٨٠.
موقف رونالد ريجان من الملف النووي الإيراني
وصل توم ريجان البيت الأبيض، وفي عهد إدارته لم تتغير طبيعة العلاقات، بل تدهورت في العام ١٩٨٣ حين انفجرت ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في بيروت، وعليه جاء الرد الأمريكي بتصنيف إيران دولة راعية الإرهاب، وهو الوسم الذي لم تستطع الجمهورية الإسلامية التخلص منه حتى الآن.
في تلك الأثناء وما قبلها اتجهت واشنطن لدعم العراق في الحرب العراقية ــ الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨) فعادت إيران لتحسين علاقتها مع واشنطن من أجل الحصول على سلاح لموازنة الحرب مع العراق، حيث بلغ التهديد الذي مثله القصف العراقي للمدن الإيرانية الحد الذي دعا لتغيير مؤقت في أوراق اللعبة،
رحبت إدارة ريجان بالفكرة وبالفعل حصلت طهران على السلاح المناسب فيما عرف بفضيحة “إيران كونترا”، أو صفقة شراء إيران السلاح الأمريكي من الجيش الإسرائيلي، وكان عراب تلك الصفقة، يعقوب نمرودي، العقيد في الجيش الإسرائيلي.
ثم اتجه الأمريكان إلى خوض عدة مناوشات مع العناصر البحرية الإيرانية في إطار تأمين ناقلات النفط في الخليج العربي وردا على نشر طهران ألغام بحرية في الخليج، وفي عام ١٩٨٨ أسقطت القوات الأمريكية – عن طريق الخطأ – طائرة مدنية إيرانية.
وهكذا كانت إدارة ريجان استمرارا لأسلوب إدارة كارتر في إدارة الملف النووي الإيراني تحت سيطرة الإسلاميين.
موقف جورج بوش الأب من الملف النووي الإيراني
وصل النائب المعروف بـ”بوش الأب” للسلطة بعد ٨ سنوات من عمله كنائب للرئيس ريجان، وبالتالي كانت سياساته تجاه ايران تمثل حلقة لا تنفصل عن سلسلة العلاقات الأمريكية ــ الإيرانية التي لم يكتب لها جديد في عهده.
لكن عهده شهد أحداثا لم تنفصل عن أي شأن دولي، فقد شهد سقوط الاتحاد السوفيتي وانتهاء سباق التسلح، وهو ما يعنى بداية نظام عالمي جديد، تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرشه بلا منافس، وبدأت السياسة الخارجية الأمريكية تسطر على هذا الوضع الجديد.
موقف بيل كلينتون من الملف النووي الإيراني
تسلم “ويليام كلينتون” الشهير بـ“بيل كلينتون” مقاليد الحكم بالبيت الأبيض الذي لم يعد مقر رسم سياسات الولايات المتحدة فقط وإنما وصلت تلك السياسات لما هو أبعد من ذلك، طبقا للنظام العالمي الجديد في هذا الوقت.
بدأت إدارة كلينتون تطور وجهة النظر لمفهوم “الإرهاب”، في الوقت الذي بدأ العالم يتحول من مواجهة الخطر الأحمر – في إشارة للشيوعية – لمواجهة الخطر الأخضر – إشارة للإسلام – وهو ما استدعى تغيير في السياسات والوسائل وتحول وجهة العداء من دول لأخرى.
ركزت الإدارة الأمريكية آنذاك على أن الجمهورية الإسلامية في إيران ومجموعات تابعة لها مثل حزب الله اللبناني، تقف خلف أعمال التفجير منها على سبيل المثال “تفجير الخبر” و”جمعية التضامن الإسرائيلية الأرجنتينية” و”تحطم الطائرة في بنما”.
بالتالي تسبب الجمهورية الإسلامية حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، حتى ظهر على طاولة النقاش أن أحد الخيارات الأمريكية تتمثل في توجيه ضربات في الداخل الإيراني ردا على هذه التفجيرات.
وفي عام ١٩٩٥ اتهمت إدارة كلينتون طهران بدعم ما تصفه بـ”الإرهاب الدولي”، ومعارضة جهود السلام في الشرق الأوسط، والسعي للحصول على أسلحة للدمار الشامل، وتضمنت الأوامر التنفيذية التي أصدرها كلينتون منع الشركات الأمريكية من الاستثمار في النفط والغاز الإيرانيين والاتجار مع إيران.
في العام نفسه أقر الكونجرس الأمريكي قانونا يجعل الحكومة الأمريكية تفرض بموجبه عقوبات على الشركات الأجنبية التي تستثمر في قطاع الطاقة الإيراني بأكثر من 20 مليون دولار في السنة.
موقف جورج دبليو بوش من الملف النووي الإيراني
تسلم جورج دبليو بوش المعروف بـ“جورج بوش الابن” الملف الإيراني، وقد صرح بأن كل الخيارات مفتوحة في التعامل مع إيران بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، ولكن الرجل الجمهوري كان يأمل أن تحل القضية بالطرق الدبلوماسية.
كذلك أعرب عدد من أفراد هذه الإدارة عن تطلعهم لاستخدام استراتيجية الضربات الاستباقية مع طهران. كما أطلقت على “الحرس الثوري الإيراني” مسمى “ناشر أسلحة الدمار الشامل”.
ومددت كذلك إدارة بوش الابن العقوبات على طهران وبخاصة الاقتصادية منها، لاسيما تلك التي طالت البنوك الإيرانية وأفراد في الحكومة وشركات مملوكة لرجال متماهين مع النظام الإيراني.
موقف باراك أوباما من الملف النووي الإيراني
في عهد باراك أوباما بدأ فصل جديد بين الطرفين في إطار الملف النووي الإيراني، وقد رغب أوباما في توظيف القوة الناعمة تجاه إيران تلك التي جاءت نتيجة قراءة واقعية بعدم فعالية استخدام القوة الصلبة، وذلك بالإضافة إلى اعتقاد آخر يفيد بأن توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية لن يقدم سوى تأخير البرنامج النووي.
عليه بدأ الرئيس سياسة المفاوضات مع الجانب الإيراني، واستمرت هذه المفاوضات ما يقرب من ١٨ شهرا، مع عدم استبعاد استخدام الخيار العسكري في حال فشل هذا الأسلوب الجديد.
اللافت أن المفاوضات تقدمت وأثمرت عن عقد اتفاق في فيينا في الرابع عشر من يوليو عام ٢٠١٥، يقوم هذا الاتفاق على إعطاء الضوء الأخضر لطهران لتحقيق الطموحات النووية في الأغراض السلمية، وذلك بضمان حسن نيتها، في إطار الخضوع لشروط الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي المقابل تعهدت الولايات المتحدة برفع الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، إلى جانب تعهد الاتحاد الأوروبي باتباع سياسة أكثر انفتاحا تجاه إيران ذلك فضلا عن إلغاء العقوبات المفروضة.
وقد أعلن الجانبان أن الاتفاق بين إيران والدول الست الكبرى في فيينا يعطي فرصة للحل بطريقة سلمية، وأكدت إدارة أوباما أن الاتفاق يغلق أمام طهران كل الفرص لامتلاك سلاح نووي، كما أنه يجنب الشرق الأوسط سباق تسلح خطير، وأشارت كذلك إلى أن غياب مثل هذا الاتفاق سيعرض الشرق الأوسط لخطر نشوب حرب كبيرة، وشددت على تناسب هذه الصفقة مع المصالح القومية للولايات المتحدة وحلفائها.
كان الاتفاق يمثل لدى باراك أوباما نقطة إيجابية فقط في شأن الملف النووي الايراني، مع وجود خلافات ما تزال قائمة بين الولايات المتحدة وبين طهران، وذلك لأسباب أخرى منها مشكلات الدعم الإيراني للإرهاب، وأن إيران بعد الاتفاق لا تزال تمثل تهديدا للمجتمع الدولي.
لكن الأمور لا تسير في الإدارات الأمريكية بهذا الانسياب، فقد سارع مجلس النواب الأمريكي إلى انتقاد الاتفاق، وحذر من أن هذه الصفقة ستؤجج سباق التسلح في العالم، ودعم رئيس المجلس هذا التوجه ونوه إلى أن الاتفاق سيوفر لإيران الوقت والفضاء المطلوبين لتطوير السلاح النووي.
المجلس أضاف أن هذه الصفقة تظهر تراجع أوباما عن مبادئه، وعليه تمتع خصوم أوباما بغالبية تاريخية في مجلسي النواب والشيوخ وذلك بسبب قبوله رفع منظومة العقوبات المعقدة على طهرلان بدون تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية.
موقف دونالد ترامب من الملف النووي الإيراني
كان العالم على موعد مع تغيير السياسة الأمريكية وبالتالي تغيير الكثير من الأمور في القضايا الأكثر تأثيرا على الساحة الدولية ومن بينها ــ أو على رأسها ــ الملف النووي الإيراني، ففي يوم الثلاثاء الثامن من مايو عام ٢٠١٨ خرج ترامب من الاتفاق وأعلن عزمه توقيع عقوبات هي الأقسى في التاريخ على الجمهورية الإسلامية.
كان ترامب قد عقد عهدا على نفسه خلال حملته الانتخابية بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني إذا ما وصل للسلطة، وذلك امتثالا لتوجهات حزبه الجمهوري في مواجهة السياسة الأمريكية النابعة من توجهات الحزب الديموقراطي على يد سلفه باراك أوباما.
بالإضافة للضغوط التي مارسها الحزب الجمهوري على ترامب بعد وصوله البيت الأبيض من أجل تنفيذ وعده، فضلا عن الضغوط التي مارستها إسرائيل وذلك لتخوفها من تطوير إيران سلاحها النووي بما يهدد أمنها، وأيضا رغبة الولايات المتحدة في حماية حلفائها في الشرق الأوسط وعلى رأسهم دول الخليج وإسرائيل.
توقعت الإدارة الأمريكية في عهد ترامب أن امتلاك طهران لقنبلة نووية سيؤدي حتما لسباق تسلح طويل في الشرق الأوسط تشارك فيه دول الخليج العربي، كما سيؤدي إلى سعي إسرائيل لتعزيز ترسانتها النووية.
كل هذه العوامل دفعت الرئيس ترامب إلى اتخاذ قراره بالانسحاب من الاتفاق للنووي الإيراني، وتوقيع مذكرة الانسحاب في عرض إعلامي، كان هو الأسلوب الذي اعتاد أن يتخذ ترامب به قراراته المثيرة للجدل.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تمثل طرفا بين ستة أطراف أخرى، وعلى الرغم كذلك من أن إيران نفسها لم ترد بالانسحاب، لكن الانسحاب الأمريكي قضى بنهاية الاتفاق، حيث بموجبه فرض ترامب حزمة من العقوبات الاقتصادية مستغلا التفوق الأمريكي الاقتصادي وتحكم واشنطن ــ شبه المطلق ــ في الاقتصاد العالمي.
ونجح ترامب في تشبيك علاقات وطيدة مع دول الخليج العربي وشارك في توقيع البيان الختامي لمؤتمر القمة الإسلامية ـ الأمريكية ـ العربية، ذلك الذى نص على اعتبار إيران دولة راعية وممولة للإرهاب، وهو خصم رهيب من رصيد إيران الاستراتيجي الذي حصّلته إبّان علاقتها بإدارة الرئيس أوباما.
أما إيران فردت من جانبها بأربع خطوات قلصت فيها من التزاماتها إزاء الاتفاق النووي، بدأت هذه الخطوات في مايو من العام 2019 بموجب خطوة كل شهرين حتى انتهت في نوفمبر 2019 إلى تفريغ الاتفاق من محتواه، وواصلت العمل في تطوير قدراتها النووية وحرصت على أن ترسخ تموضعها في الملفات الإقليمية خاصة في العراق وسوريا واليمن.
خاتمة
تمثل منطقة الشرق الأوسط أهمية كبيرة لأي قطب دولي؛ إذ تتحكم في أهم الممرات الملاحية في العالم، وامتلاك بلدانها النصيب الأوفر من ثروات الطاقة في العالم، والتي جعلت من هذه المنطقة سببا من أسباب استقرار الاقتصاد العالمي.
وترتب على هذا الوضع لتلك المنطقة أن تنافست الدول العظمى لاستقطاب دول هذه المنطقة كل إلى معسكره، وبعد انتهاء هذه الحقبة من التاريخ حرصت هذه الدول الكبرى على أن تحافظ على وجودها في دول المنطقة في شكل اتفاقات اقتصادية وعسكرية تحقق مصالح هذه الدول وتضمن حماية دول المنطقة.
ـــــــــــــ
المصادر:
ــ إيلينا داغر، برنامج إيران النووي تاريخ من التناقضات والتعهدات المبتورة، إندبندنت عربية، الرابط: https://www.independentarabia.com/node/194286
ــ سوسن مهنا، ما هي “عقيدة كارتر” تجاه إيران؟، إندبندنت عربية، الرابط: https://www.independentarabia.com/node/200011
ــ جورج بوش الأب.. قاد حرب تحرير الكويت ودعم وحدة ألمانيا، الرابط: https://p.dw.com/p/39Fav
ــ وثائق كلينتون الرئاسية، الشرق الأوسط، الرابط: https://aawsat.com/home/declassified/88801
ــ العقوبات الأميركية على إيران.. من كلينتون لترامب، مركز الروابط للدراسات والبحوث، الرابط: https://rawabetcenter.com/archives/66444
ــ د. شيماء عادل فاضل، د. علي طارق، الاتفاق النووي الإيراني: دراسة مقارنة بين عهدي أوباما وترامب المركز العربي الديموقراطي، مجلة مدارات إيرانية (العدد الثالث – مارس٢٠١٩).
ــ د. محمد محسن أبو النور، إيران وترامب: إشكاليات خمس سنوات من موات الاتفاق النووي، المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، 25 يوليو 2020م، الرابط: https://bit.ly/3jOJFwm