لعب العامل الإسرائيلي دورا محوريا في العلاقات الإيرانية ـ العربية، وشكّل أحد أهم مرتكزات العلاقات الثنائية بين طهران وكل العواصم العربية، ومنذ قيام العلاقات الكاملة على مستوى السفراء بين إيران والدول العربية، مثّلت مواقف الطرفين من إسرائيل نقاط الاتفاق والخلاف الكبرى، ذلك أن مصر باعتبارها الدولة العربية المركزية لم تقطع علاقاتها مع إيران، إلا بعد اعتراف الأخيرة بدولة إسرائيل عام 1960م، كما أن إيران لم تقطع علاقتها بمصر إلا بعد توقيع الأخيرة معاهدة سلام مع إسرائيل في العام 1979.
واحتل العامل الإسرائيلي مكانة متزايدة لدى النظام الإيراني بعد نجاح الثورة الإسلامية بالعام 1979، وأخذ موضعه كمحدد رئيس في رسم معالم السياسة الخارجية لإيران تجاه الدول العربية على نحو بالغ منذ ذلك الحين وحتى الآن، لأسباب سياسية وجيوستراتيجية وليست دينية، وعليه يمكن القول إن موقف إيران من قضية القدس والصراع مع إسرائيل هو أبرز محددات العلاقات العربية ـ الإيرانية، منذ نشوء دولة الاحتلال بوجه عام، ومنذ سقوط الشاه محمد رضا بهلوي 11 فبراير 1979 على وجه الخصوص.
وبالرغم من السياسات الإيرانية الظاهرية المعادية لإسرائيل، والداعمة للقضية الفلسطينية؛ إلا أن حقائق الأمور تشي بأن هناك تفاهمات جوهرية بين طهران وتل أبيب، وأن هناك تنسيقا على أعلى المستويات بين العاصمتين يخدم المصالح البراجماتية لكل منهما، وتمثل ذلك عند ذروة سنامه في واقعة “إيران كونترا” الشهيرة إبّان حرب الخليج الأولى.
ويمكن تقسيم البحث إلى أربعة مستويات يسبقها مقدمة وتليها خاتمة ونتائج وتوصيات، وهى كالتالى:
المستوى الأول:
محددات قضية القدس في دوائر صنع القرار بإيران
تنطوي قضية القدس على درجة كبيرة من الأهمية في دوائر صنع القرار بإيران، نظرا لاهتمام مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الموسوي الخميني بالقضية، وإفراده عددا هائلا من الخطب والأحاديث المسجلة واللقاءات التلفزيونية والصحفية لها، فضلا عن كتاب “أحدايث في القضية الفلسطينية”، كما أنها كانت أحد أسباب الصدام الجوهرية بين الخميني والشاه محمد رضا بهلوي، ذلك الذي كان من أوائل الزعماء الإسلاميين الذين يعترفون بإسرائيل بعد تأسيسها في العام 1951، وعليه يمكن تلخيص محددا قضية القدس في دوائر صنع القرار بإيران في النقاط التالية:
أ ـ السعي نحو الزعامة الإقليمية
حاولت إيران استثمار القضية الفلسطينية للزعامة الإقليمية كمتحدث باسم القضية المركزية في الإقليم منذ قيام دولة إسرائيل بالعام 1948، فضلا استغلال إسرائيل كورقة ضغط على اللاعب الأمريكي في أي مفاوضات وتفاهمات مشتركة كمثل تلك التي تمت في عهد الرئيسين محمد خاتمي عام 2003 وحسن ورحاني عام 2013.
ب ـ اكتساب تعاطف الشعوب الإسلامية
ارتكز الدعم الإيراني للقضية الفلسطينية في عهد نظام ولاية الفقيه على اكتساب تعاطف الشعوب الإسلامية في المشاريع الخارجية ولذلك أعلن الخميني في يوم 7 أغسطس بالعام 1979م عن تأسيس ما يعرف بـ”جيش القدس” المعروف حاليا باسم “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري وأقرن هذا الإعلان بقوله: “الطريق إلى القدس يبدأ بالعراق”؛ ما يعني رغبة في استثمار تلك القضية لكسب تعاطف المسلمين والعرب في العداء المحتدم مع النظام العراقي بقيادة الرئيس صدام حسين.
جـ ـ الخصم من رصيد الحكومات والمنافسين الإقليميين
اعتمدت إيران من خلال تبنيها لغة خطاب ثابتة نحو القضية الفلسطينية على محاولة الخصم من رصيد الحكومات والمنافسين الإقليميين خاصة أولئك الذين تناوئهم في عدد من الملفات؛ لذلك دائما ما تقرن الدولة على لسان مرشدها الحالي آية الله علي خامنئي تأييد حق الفلسطينيين في أرضهم بِحَثْ الحكومات والدول العربية والإسلامية على أن “تتماشى مع مطالب شعوبھا المسلمة، وأن تساند ھذا التحرك العظیم، وأن تقطع كل أنواع العلاقة بنظام الاحتلال بشكل كامل، وأن تستفید من كل أنواع المقاطعة الاقتصادیة والآلیات الأخرى لمواجھة ھذا النظام الغاصب، وأن توجھها للمساعدات الشعبیة لإنفاقھا على قضیة فلسطین الأساسیة ولمعالجة الجرحى وترمیم الخراب”.
المستوى الثاني:
موقف إيران من الصراع العربي ـ الإسرائيلي
تعاملت إيران منذ نجاح الثورة في العام 1979 مع الصراع العربي ـ الإسرائيلي من منطلق المصالح المباشرة، وبالرغم من أنها تبنت خطابا عدائيا ضد إسرائيل وداعما لقضية الفلسطينية؛ إلا أن الحقائق التاريخية تشير إلى تنسيق رفيع المستوى بين البلدين، ويمكن تحري مجموعة الحقائق تلك من خلال السوابق التاريخية التالية:
1 ـ سماح إيران بهجرة عدد من يهودها إلى إسرائيل في مجموعة من حملات الهجرة بين أعوام 1983 و1986 قدرت تلك الأعداد بنحو 31 ألف يهوديا إيرانيا عبر تركيا وعبر باكستان.
2 ـ في أثناء الحرب الإيرانية ـ العراقية عقد الرئيس الإيراني علي خامنئي جلسة مباحثات سرية مع وزير خارجية إسرائيل شيمون بيريز على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتمحورت الصفقة حول أن تسعى إيران للإفراج عن الرهائن الأمريكيين في لبنان مقابل تزويد طهران بصفقة أسلحة تتضمن صواريخ أرض ـ جو وقطع غيار لطائرات فانتوم الأمريكية.
3 ـ في يوليو بالعام 1981 بدأت إسرائيل في إرسال شحنات السلاح إلى إيران في إطار ما عرف بعد ذلك بفضيحة “إيران كونترا” مقابل تسليم إيران لإسرائيل 1000 صورة جوية للمفاعل النووي العراقي كانت طائرات فانتوم الإيرانية قد التقطتها، ما مكن إسرائيل من التخطيط للغارة الجوية على المفاعل يوم 6 يونيو بالعام 1981.
4 ـ تدريب مستشارين عسكريين إسرائيليين للقوات الإيرانية في حرب الخليج الأولى ومشاركة بعض الضباط الإسرائيليين في معارك الأحواز عامي 1985/1986.
5 ـ وجود استثمارات إسرائيلية داخل الأراضى الإيرانية، وقال تقرير لصحيفة يديعوت إحرونوت إن إسرائيل تعتمد على التين والبلح الإيرانى، بالإضافة إلى أن هناك العشرات من الشركات الإسرائيلية تقيم علاقات تجارية مع إيران وأغلبها شركات نفطية تستثمر فى مجال الطاقة داخل إيران، وأن إيران تشتري منتجات المستوطنات الإسرائيلية.
6 ـ تستفيد إيران من يهودها فى أمريكا عبر اللوبي اليهودي بالضغط على الإدارة الأمريكية لمنع ضرب إيران مقابل تعاون مشترك تقدمه إيران لشركات يهودية.
عليه يمكن استنتاج أن موقف إيران من الصراع العربي ـ الإسرائيلي استثماري من أجل الحصول على تعاطف الشعوب في مشاريعها الإقليمية وجذب أكبر عدد من مواطني الدول العربية والإسلامية خاصة تلك الدول التي تسعى إيران لبسط نفوذها فيها وعلى رأسها الدول العربية والدول الإسلامية بجنوب شرقي آسيا ومنها ماليزيا وإندونيسيا.
المستوى الثالث:
حقيقة التنسيق الإيراني ـ الإسرائيلي حول القدس
على عكس ما يتم الترويج له إعلاميا، فإن عوامل التحليل مجتمعة تشي بأن هناك تنسيقا إسرائيليا ـ إيرانيا حول قضايا فلسطين والقدس على سبيل التحديد؛ لذلك يمكن ملاحظة أنه لأول مرة فى تاريخ رؤساء الجمهورية الإيرانيين لم يتحدث الرئيس حسن روحانى عن القضية الفلسطينية في خطاب توليه الفترة الرئاسية الثانية ذلك الذي ألقاه يوم السبت الخامس من أغسطس بالعام 2017.
ولقد منح روحاني المتلقين فكرة عن أولويات السياسة الخارجية لإيران فى المرحلة المقبلة، ومكانة القضية الفلسطينية حاليا فى الفكر الخارجى للبلاد؛ لأن الصراع الإسلامى ـ الإسرائيلى شكّل على مدى الثمانية والثلاثين عاما الماضية المنصة التى ينطلق منها الفكر السياسى الإيرانى ويستمد منها مشروعيته لدى العالم الإسلامى.
روحانى نوه فى نهاية الخطاب إلى الأزمتين اليمنية والسورية وتحدث بدلا من القضية الفلسطينية عن “التعامل البناء مع دول العالم والتنسیق المتعمق مع البلدان الجارة ودول المنطقة وتعزیز مستوی الشراکة مع الدول الصدیقة ضرورة هامة تؤدی إلی السلام والأمن الدولی”، وفقا لنص الخطاب، وهنا عدة إشارات إلى الدول العربية وأمريكا وإسرائيل فى مرحلة تبتغى فيها إيران التهدئة مع عدوتها التقليدية المتمثلة فى إسرائيل.
الواضح أن إيران تريد من خلال كلمات روحانى الانتقال من مرحلة “الدولة” إلى مرحلة “الأمة” بعد أن انتقلت من مرحلة “الثورة” إلى مرحلة “الدولة”، وتضع إيران نصب عينيها النموذج الإندونيسي والماليزي الذي يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني لكنه لا يدخل فى صدام مباشر أو عداء ـ على أي مستوى ـ مع إسرائيل، ولا أدل على ذلك من قول روحانى: “لا یمكن اجتیاز التهدیدات والمخاطر والمستجدات المعقدة في العصر الراهن من دون تعزیز الاتصالات والعلاقات والحوار بین الحكومات والشعوب”، وفقا لنص الخطاب.
المستوى الرابع:
أسباب معارضة إيران قرار أمريكا نقل السفارة إلى القدس
بنت إيران موقفها من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس على العوامل والمحددات السابقة، لذلك أعلن وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيُعَجّل بدمار إسرائيل في حين أجرى قائد كبير بالحرس الثوري الإيراني اتصالات هاتفية بجماعتين مسلحتين فلسطينيتين وتعهد بدعمهما، وعليه يمكن تلخيص أسباب تلك المعارضة الإيرانية في عدة عوامل:
أولا: المزايدة على الحكومات العربية واستغلال الاتصالات التي أجراها الرئيس ترامب بقادة الدول العربية لإلقاء التهم عليها وتحميلها مسئولية القرار.
ثانيا: النيل من مباحثات السلام التي تنادي بها الدول العربية ومبادرة السلام التي تقدمت بها المملكة العربية السعودية ـ المنافس الاستراتيجي لها ـ للتسوية الشاملة في الصراع العربي ـ الإسرائيلى.
ثالثا: ترسيخ وجودها لدى الفصائل الفلسطينية المسلحة وعلى رأسها حركة الجهاد وحركة حماس واتضح ذلك من خلال الإعلان الصريح لوزير الدفاع اتصاله بالحركتين.
رابعا: تعزيز تنامي حركة “الصابرين” الشيعية التي تدعمها إيران في فلسطين وإكسابها شرعية وجودية من خلال موقف معادي للقرار يطلقها الضامن الإقليمي والممول للحركة.
خامسا: استرضاء المتدينين من المجتمع الإيراني داخليا، وخاصة ساكني المناطق غير المأهولة وغير الحضرية، حيث تتمتع قضية القدس والاحتلال الإسرائيلي بمكانة متقدمة لديهم يغذيها الخطاب الديني لآيات الله في السنوات السبعين الأخيرة.
ـــــــــــــــ
ملخص بحث قدمه، محمد محسن أبو النور، أمام مؤتمر “القدس المحتلة ومستقبل القضية الفلسطينية” الذي عقد يومي الأحد والاثنين 29 – 30 إبريل 2018م، بجامعة عين شمس ـ كلية الآداب ـ قسم اللغة العبرية
بعنوان/
العامل الإسرائيلي في العلاقات العربية ـ الإيرانية
دراسة لـمواقف إيران من قضايا القدس والصراع العربي ـ الإسرائيلي
محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية ـ أفايب، يلقي ملخص بحث “العامل الإسرائيلي في العلاقات العربية ـ الإيرانية دراسة لمواقف إيران من قضايا القدس والصراع العربي ـ الإسرائيلي” بجامعة عين شمس.