تصحيحًا للمسار الذي اتجه إليه الاتفاق النووي بعد عام ٢٠١٨، قطعت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإيران شوطًا كبيرًا من المفاوضات غير المباشرة لإعادة إحياء هذا الاتفاق، فإيران تخوض تلك المفاوضات مدفوعة باعتبارات عدة أهمها الرغبة في رفع العقوبات، أما الولايات المتحدة الأمريكية فترغب هي الأخرى في تحجيم إيران ومنعها من امتلاك سلاح نووي، ولكن بعد أحد عشر شهرا من المفاوضات برزت أبعاد وحسابات مختلفة لدى كل طرف، وبيد أن عراقيل وقضايا خلافية تلوح في الأفق وتبطئ من عملية إحياء الاتفاق.
تردد إيراني
بعد الرد الأمريكي على المسودة الأوربية، يمكن القول إن المسار الذي ستسلكه المفاوضات في الفترة القادمة يتوقف على موقف إيران من هذا الرد وحجم التنازلات التي ستقدمها، وتحمل مرونة المفاوض الإيراني فيما يتعلق برفع الحرس الثوري من على قائمة الإرهاب دلالة إيجابية تشير للرغبة في تذليل العقبات التي تطيل أمد العودة للاتفاق، فإيران تعد في حاجة لرفع العقوبات الاقتصادية عنها خاصًة في ظل أزمة الطاقة العالمية التي تتفاقم مع استشراء الحرب الروسية ــ الأوكرانية، إذ سيتيح لها ذلك رفع مستوى صادراتها النفطية من 881 ألف برميل نفط يوميا إلى 2.5 مليون برميل نفط يوميًا.
اقرأ أيضا:
من زاوية أخرى، يوجد على مستوى الداخل الإيراني تيار معارض للمفاوضات والعودة للاتفاق النووي يدعو للانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما يمثل تحديًا جديدًا، ولعل حجة هذا التيار تستند إلى كون مستقبل هذا الاتفاق غير مضمون في ظل رفض الإدارة الامريكية إبداء الضمانات اللازمة لاستمراره، وأن ما ستخسره إيران أكثر مما ستحصل عليه من مكاسب، في إشارة إلى ما سيترتب على الاتفاق من تحجيم للقدرة النووية الإيرانية بنقل معظم كميات اليورانيوم المخصب إلى خارجها والإبقاء على 202.8 كيلو فقط، وكذلك إمكانية استخدام التحقيقات التي تقوم بها الوكالة الدولية للطاقة الذرية كأداة للضغط على إيران في ملفات أخرى.
بالتالي فالموقف الإيراني تحكمه أبعاد عدة، فإلى جانب المماطلة التي تعد السمة الغالبة على المفاوض الإيراني تجاه العودة للاتفاق باتت هناك درجة من التردد والتأني للوصول إلى صفقة تخرج منها إيران بأكبر قدر من المكاسب.
حسابات أمريكية
تتعامل الإدارة الامريكية الحالية مع الملف النووي الإيراني كأحد أهم ملفات سياستها الخارجية، وعلى عكس ما قام به الرئيس الأسبق “ترامب” في 2018، يتبنى الرئيس الحالي “بايدن” نهجًا تصحيحيًا إذ أكد على أهمية العودة للاتفاق النووي مع إيران مرة أخرى، وهو ما ظهر جديته من خلال الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إيران. ويعد الهدف الأمريكي الرئيس من العودة للاتفاق هو تقويض قدرات إيران النووية ومنعها من حيازة سلاح نووي على الأقل في المدى القريب.
اقرأ أيضا:
لكن هناك بعض التحديات التي تضعها إيران على كاهل متخذي القرار الأمريكي، لعل أهمها ما يتعلق بتقديم ضمانات أمريكية بعدم التنصل من الاتفاق في حالة العودة إليه كما حدث من قبل، ولكن هذا المطلب يواجه برفض أمريكي فالرئيس “بايدن” قال إنه يمكنه أن يمنح إيران ضمانات بعدم الانسحاب من الاتفاق طوال فترة حكمه ولكنه لا يستطيع إلزام من يأتي من بعده بذلك وخاصة أن هذا الاتفاق لا يرقى لمستوى المعاهدة.
تضع الإدارة الأمريكية المواقف والتوازنات الداخلية نُصب أعينها خلال تعاملها مع ملف الاتفاق النووي خاصة مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ويمكن القول بإن نتائج تلك الانتخابات ستكون مؤثرة بشكل كبير على السياسة الأمريكية تجاه هذا الملف، ففي حال استحواذ الجمهوريين على الأغلبية من المتوقع تبني نهج أكثر تشددًا مع إيران في ظل رفضهم العودة للمفاوضات، وبالتالي يعلم “بايدن” أن إتمام هذا الاتفاق في الوقت الحالي لن يكون في صالحه سياسيًا، لذا قد يكون توقف المفاوضات هو توقف مؤقت لحين تجاوز فترة الانتخابات.
أبعاد إقليمية ودولية
لا يقتصر أثر الاتفاق النووي الإيراني فقط على إيران والولايات المتحدة الامريكية، وإنما يعد ذا طابع وتأثير إقليمي ودولي متشابكين، ولعل هذا ما يفسر توقيع دول (4 + 1) على الاتفاق النووي 2015، وأيضا يفسر تدخل الاتحاد الأوروبي كوسيط في المفاوضات غير المباشرة ليعبر عن مصالح الدول الأوروبية حتى لا يخل بها الاتفاق المنشود. وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط يعد ملف الاتفاق النووي أحد محددات سياسة دول الخليج العربي تجاه إيران، فمن مصلحة تلك الدول عدم امتلاك إيران لسلاح نووي خاصة في ظل توتر العلاقات معها.
يتملك الدول الأوروبية قلق بشأن الأنشطة النووية السرية التي كشفت عنها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبالتالي فهذه الدول ترغب في إتمام المفاوضات والعودة للاتفاق النووي، وهو ما يظهر في تصريحات المسؤولين الأوربيين الذين يرون أن الجانب الأكبر من مسؤولية إتمام الاتفاق يقع على عاتق إيران، ودليل ذلك ما قاله الرئيس الفرنسي ماكرون بأن الكرة باتت في ملعب إيران لإتمام الاتفاق النووي، وعلى المستوى الإقليمي يتعلق الملف النووي الإيراني بالأمن والسلم في المنطقة، وهو ما يفسر ترحيب قطر باستضافة جولة مفاوضات غير مباشرة للعودة للاتفاق.
اقرأ أيضا:
فيما يتعلق بالموقف الإسرائيلي، فتل أبيب ترفض المفاوضات مع إيران وتحرص على استمرار العقوبات، إذ ترى في إيران تهديدًا مباشرًا لنفوذها الإقليمي كونها الدولة النووية الوحيدة في المنطقة، وتضغط إسرائيل على الإدارة الامريكية لعدم إتمام الاتفاق وتبذل مساعيها المختلفة مع الدول الأوروبية لإقناعها بعدم الموافقة على هذا الاتفاق وهو ما ظهر من خلال تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي “لابيد” الذي أشار إلى أن إسرائيل أجرت حوارا سريا مكثفا مع فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وقدمت لهم المعلومات حول النشاط النووي الإيراني.
خاتمة
تعترض مسار المفاوضات للعودة للاتفاق النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران عقبات وأمور خلافية عدة تحتاج للوقوف على جوانبها بشيء من التريث للوصول لحلول وسط ترضي الأطراف المعنية، فكلتا الدولتين في حاجة للعودة إلى الاتفاق في أسرع وقت لتحقيق أهداف معينة ولكن الأمر يتوقف على مدى ما سيتحقق من توافق حول الأمور الخلافية المطروحة وهو ما ستظهر ملامحه بعد تقييم إيران للرد الأمريكي على المسودة الأوربية وبيان موقفها من هذا الرد، ولعل الراجح أن المفاوضات ستعود إلى الطاولة مرة أخرى بعد الانتخابات البرلمانية الأمريكية، ويعول بشكل أكبر على ما يمكن أن يقدمه الجانب الإيراني من تنازلات تعجل من أمد الاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــ
محمد أحمد السيد
باحث مساعد في العلاقات الدولية