في إيران تلك البلاد المفعمة بالعجائب والمتناقضات، تبدو السينما كأحد مفاتيح فهم طبيعة الشعب، ومقياس صادق لحجم التغيير الذي يحدث في الداخل منذ نجاح الثورة في إسقاط الشاه بالعام 1979 وحتى اليوم، وهو ما يجعلنا باستمرار في حاجة ماسة إلى الإجابة عن علامات استفهام حول، كيف يرى الشعب الإيراني قيادته السياسية؟ وهل هو حقًا يقف في صف واحد مع السياسات الرسمية للدولة كما يؤكد البعض؟ أم أنه يقف ضدها على طول الخط كما يؤكد آخرون؟
يمكن حتى لغير المتخصص أن يكتشف بنفسه ـ ومن دون جهد كبير ـ خطأ هاتين النظرتين واستحالة التعميم في حالة المجتمع الإيراني الذي يحمل بداخله الكثير من الأفكار، ويعيش دائمًا في حالة صراع مكتوم بين أجنحة مختلفة، ذلك أن مسألة التأييد والمعارضة في إيران ليست مسألة مطلقة، إنما تخضع لعدة عوامل، لعل أهمها:
أولا: التوزيعات الجغرافية والطبقية، فمناطق بعينها في إيران يمكن اعتبارها مناطق تأييد وقوة النظام، في حين تعد مناطق أخرى مناطق أكثر ليبرالية وبعدًا عن التوجهات الدينية المتشددة الذي يفرضها المحافظون هناك، وبالطريقة نفسها، فإن طبقات اجتماعية بعينها هي الأقرب للنظام، في حين تبتعد طبقات أخرى عن السياسات ذات الطابع التوسعي للدولة، وترى بضرورة التركيز على الداخل المأزوم، ومن ثم فإن تعميم الحكم من هذا الطرف أو ذاك إنما يحمل في حقيقته رؤية مؤدلجة لا تلزم نفسها بالحقيقة، ولا تريد إلا أن تستخلص نتائج تخدم أيدولوجياتها وأفكارها.
ثانيا: صراعات الأجنحة في إيران من الداخل، فإذا كنا نعتقد بوجود صراعات قوية داخل المجتمع الإيراني، تنبئ بحالة من التفكك الداخلي الكبير، فإن السينما في هذا البلد المهم تعتبر دليلًا قاطعًا على هذه التوجهات المتباينة، ففي الوقت الذي تشق فيه السينما الإيرانية طريقًا دائمًا إلى منصات التتويج بالجوائز العالمية، تواجه داخل البلد ظروفًا غاية في القسوة من قبل التيارات المحافظة، لعل أبرزها ما تعرض له المخرج الإيراني الشهير جعفر بناهي عام 2009 حين حكم عليه بالسجن لمدة 6 سنوات، إلى جانب المنع من ممارسة الإخراج لعشرين عامًا، والمنع من السفر خارج البلاد، وإن كانت هذه الأحكام قد خففت لاحقًا، وخرج بناهي من السجن، إلا أنه ظل رهين الإقامة الجبرية لفترة أنتج فيها فيلمه “هذا ليس فيلمًا” من داخل منزله، وهرّبه إلى الخارج عبر قرص USB صلب مرر بداخل كعكة.
ثالثا: إن بناهي الذي أنتج أربعة أفلام منذ قرار منعه من الإخراج، فاز آخرها “ثلاث وجوه” بجائزة السيناريو من مهرجان كان، يثبت نظرية الصراع داخل المجتمع الإيراني، ويعريها بشكل فاضح، فالشعب المحب للسينما يقف مع المخرج الذي تطارده السلطة، والسلطة لا تستطيع إيقاف المخرج المهم من إنتاج الأفلام رغم قراراتها السابقة لأنه ـ على ما يبدو ـ يحمل النظام داخله تيارات إصلاحية تحمي مساحات من الحرية التي يمكن أن يتحرك فيها السينمائيون الذين يمثلون واجهة إيران المشرفة أمام العالم اليوم.
رابعا: تذكرنا مسألة مساحات الحرية هذه بالتأييد الدائم الذي يوجهه صناع السينما في إيران إلى أي مرشح رئاسي إصلاحي أمام أي مرشح محافظ، والذي لا يعبر عن قناعات سياسية بقدر ما يعبر عن رغبة في الحفاظ على المساحات الضئيلة التي يتحرك فيها صناع السينما هناك، تلك المساحات التي مكنت فيلم “نفس” من أن يكون أول فيلم ترشحه الدولة للمنافسة على الأوسكار وهو من إخراج امرأة – نرجس أبيار – وهي المساحات ذاتها التي سمحت بتمرير الفيلم بالرغم مما أثاره من جدل كبير وتحفظ واسع قادة التيار المحافظ الذي هاجم الفيلم بشدة، واعتبره نوعًا من الدعاية السلبية ضد الدولة.
يشير هذا التمرير إلى أن شيئًا يتعدى مسألة السينما يحدث داخل الكواليس هناك في إيران، فإما أن الدولة تريد أن تبيض وجهها أمام العالم وتستخدم السينما لإيصال رسائلها، أو أن حركة تغيير بطيئة للغاية تحدث على نحو محسوس داخل النظام وتعكسها السينما على الشاشات بهذا القدر من زخم.
الحق أن السينمائيين في إيران سواء من اختاروا التكيف مع المساحات الضئيلة المتاحة، أو من اختاروا الهرب والعيش خارج البلاد، لم يحملوا أفلامهم بالكثير من الإشارات السياسية، ولم يهتموا كثيرًا بالدخول في حالة صراع مع الدولة، لكنهم اهتموا بإبراز الجانب الإنساني في حياة الشعب، وأشاروا إلى القيود الرقابية بشكل ذكي ومعبر، من دون رسائل صاخبة، ومن دون شعارات عالية، فقط فن عالي الجودة، نجح في أن ينتزع الاعتراف بوجوده داخل الدولة انتزاعًا.
ومع الحديث عن مساحات الحرية – وإن كانت ضئيلة -، أو عن عدم التعرض لجعفر بناهي رغم خرقه الدائم لقرار عدم الإخراج – مع عدم الاستجابة للدعوات العالمية بإسقاط قرار منعه من السفر – مع الحديث عن هذه الإشارات الجيدة، والتي تشعر أي محب للثقافة والفنون بالبهجة، يجب الإشارة إلى أن هذه الإشارات لم تتولد من تلقاء نفسها، ولم تمن بها الدولة على الفنانين هناك، إنما الأمر هو نتيجة لحركة كفاح طويلة استمرت لعقود من بعد الثورة الإيرانية.
وفي الأخير فإن تلك الحركة الفنية التي واجه فيها مخرجو حركة التجديد في إيران صعوبات هائلة، تحملوها بصبر مذهل، حرّكت المياه الراكدة، وحوّلت السينما من عدوة للشعب، إلى مصدر فخر وطني، يجعل من المخرج شخصًا مهابا، يستطيع تحدي دولة بكاملها، من دون أن يلقى حتفه نتيجة لهذا التحدي، ومن دون أن يؤدي الخوف إلى صمت غيره من الفنانين عن المطالبة بحقه في الحرية.