عندما أعلن عالما السياسة الأمريكيان صمويل هنتنجتون وفرانسيس فوكوياما رؤيتيهما الشهيرة حول صراع الحضارات ونهاية التاريخ بدا الأمر وكأنه تحولا جذرياً عن ما سبق في العصور السابقة التي تنافست فيها الأيديلوجيا الرأسمالية والاشتراكية على سيادة العالم، وطُرحت آراء معارضة للحتميات في السياسة الدولية والتي تتجاهل المتغيرات المستقبلية في النظم الدولية المعاصرة.
الحركة الفكرية الحديثة
على المستوى الفكري داخل مصر، سبق وأن نشر الدكتور مصطفي محمود كتابيه: “لماذا رفضت الماركسية؟”، و”سقوط اليسار”، واللذان أدان فيهما آراء اليسار وفشل هذا التيار السياسي الذريع، ومساوئ التجربة الناصرية والسوفيتية، على حد سواء.
شهدت الحركة الفكرية على المستوى الدولي صدور كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” من تأليف علي عزت بيجوفتش، أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك، والذي تناول رؤية راقية ونموذجية للإسلام كنموذج حياة شامل وجامع للدين والدنيا (لم يشهده الواقع بالطبع ومن ثم فهي رؤية فكرية بالأساس).
وربما كانت التجربة السياسية المرتبطة بالإطار الديني والعقيدة في أقصى حالاتها من حيث النجاح إبان حكم الخلفاء الراشدين (بصورة نسبية ومحل جدل في ضوء تجربة كل من الصحابيين الجليلين: عثمان بن عفان وعلى بن أبي طالب رضي الله عنهما) إذ شهد المجتمع الإسلامي بعدهما ملحمة من الإطار السياسي الحاكم المُستند ولو بصورة ظاهرية على أحكام الشريعة.
غير أنه من حيث مستوى الممارسة يُنافس الصراعات الدولية الحالية ولكن في سياق تاريخي مختلف مروراً بالدولة الأموية والعباسية، وصولاً لنموذج تركيا، إمبراطورية الخلافة الإسلامية التي تراوحت الآراء بشأنها في مراحل متقدمة ما بين الرفض للتبعية للخلافة وما بين الولاء لها في مواجهة الاستعمار.
العلاقة بين الأيديلوجيا والحكم
إذن يمكن القول إن التجربة السياسية على أرض الواقع تنبئ عن عدة مؤشرات فيما يخص العلاقة بين الأيديلوجيا من جهة (العقيدة تنطوي على المبادئ السياسية والأسس الدينية والفكرية) ونظام الحكم من جهة أخرى، أبرزها:
1ـ أن الأسس الحاكمة للنظام السياسي تقترب من البرجماتية دوماً في العلاقات الدولية، من حيث التعامل مع الأعداء أو الخصوم السياسيين، ونظام الاقتصاد الذي قد يستند في ظاهره أحياناً على أسس عقائدية أيديلوجية حاكمة لكنه في النهاية يرتبط بالدوافع المادية لصالح الدولة بالأساس بدءًا من فكرة بيت المال وصولاً إلى أحدث آليات المؤسسات الدولية الحاكمة للنظام المالي العالمي وبصرف النظر عن الأساس الفكري الحاكم سواء كان دينيا، أو رأسماليا، أو اشتراكيا أو غيره.
2ـ بالنظر إلى الدوافع السياسية لدى الدول – سواء في الماضي البعيد أو الأحداث العاصفة التي شهدها القرن العشرين وما تضمنه من مواجهات أيديولوجية سافرة – تظل دوماً مرتبطة بمفهوم المصلحة العليا للدولة، والرغبة في السيادة عن طريق عدة محاور من ضمنها الترويج للفكر السياسي السائد الذي يمثل إطاراً، ربما تعمل الدولة بعيداً عنه في بعض الأحيان إذا ما اتجهت إلى تعزيز مكانتها أو الاهتمام بالتسليح أو مواجهة الدول الأخرى في حروب سافرة علنية أو مستترة بالوكالة.
3ـ شعارات الدولة بصرف النظر عن مضمونها الفكري والأيديولوجي في تحول مستمر عبر العصور ونرى ذلك في حالة الدولة المصرية ما بين التجربة الناصرية وعصر السادات، روسيا السوفيتية والمعاصرة وغيرها من النماذج، كما أن التحالفات السياسية ذاتها قد تضطر أطرافها إلى التعامل بتناقض مع التوجه السياسي ذاته بأساليب مختلفة كحالة الإخوان المسلمين في مصر وعلاقتها بثورة يوليو والرئيس السادات.
هنا ليس المقصود دوماَ هو التغيير السافر والمثير للانتقاد والذي عبر عنه الكاتب الإنجليزي جورج أورويل ببراعة في روايته الخالدة من حيث المغزى السياسي “مزرعة الحيوانات” إذ عبر بطريقة واضحة عن تغيير الشعارات والمبادئ الحاكمة للدولة وإقناع المواطنين بها وكأنه لم يكن هناك أصلاً توجهات سياسية معلنة في السابق وذلك عن طريق ما يعرف بتشكيل العقول والتلاعب بالألفاظ وتغيير المسميات وتعديل القوانين.
لكن ما يحدث على أرض الواقع هو أن التوجهات الأيديولوجية أو المبادئ السياسية الحاكمة تكون معلنة، لكن البرجماتية السياسية تكون هي الحاكمة بصورة أكبر في التحالفات العلنية والسرية (بصورة أكبر) بين الدول أيا كان وضعها في النظام الدولي.
نموذج الدولة الإيرانية
بالنظر إلى نموذج الدولة الإيرانية، نجد أنها نموذج سافر ومباشر للدولة التي ترفع شعار العقيدة، والأسس المرتبطة بولاية الفقيه ونظام الحكم المرتبط بالمسميات الدينية كالمرشد الأعلى وغيرها من التفاصيل التي يدركها المتابع لنظام إيران السياسي الداخلي.
وهي منذ قيام الثورة عام 1979 طرحت نموذجاً أثار حفيظة الدول التقليدية في النظام الإقليمي العربي والدول ذات التوجه السياسي المعتدل على السواء، بالنظر إلى نجاحها في فرض ذاتها على الساحة الدولية كنموذج يستند للعقيدة/ الأيديولوجيا في نهايات القرن العشرين وفي حقبة تاريخية لم تكن بعيدة عن اقتراب نهاية الصراع السافر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
لكن يثور التساؤل في هذا الشأن عن مدى ارتباط العقيدة بأسس السياسة الخارجية الإيرانية وهل تسير السياسة في فلك منفصل فعلياً عن العقيدة أو ربما كان هناك ترابط ظاهري فيما بينهما؟ ومن ناحية أخرى إلى أي مدى كانت ستختلف السياسة الخارجية الإيرانية إذا لم تكن الدولة ترفع شعار الحكم الديني.
أولاً: الطموح النووي لإيران
يمكن القول إن الجهود الدؤوبة التي تبذلها الدولة الإيرانية في تطوير القوة النووية تُعد امتداداً لعصر ما قبل الثورة الإيرانية 1979، والتطور التكنولوجي والتقني ساعد بطبيعة الحال على تسريع وتيرة الملف النووي بصرف النظر عن ما إذا كان النظام يرفع شعار العقيدة الدينية أو يتبنى توجهات أخرى تحكم الإطار السياسي للدولة.
ثانياً: الموقف الإيراني من الصراع العربي الإسرائيلي وأمريكا
يستند الموقف الإيراني من الولايات المتحدة الأمريكية على رفض سافر وتحالفات سرية استناداً إلى أسس برجماتية واقعية صريحة حتى وإن اشتملت العقيدة والفكر الإيراني على توصيفات للولايات المتحدة تحمل في طابعها الظاهري إيحاءً دينياً تقليدياً لكن يبقى الأساس عملياً ومستنداً للواقع الدولي المعاصر.
على سبيل المثال: كانت الدولة المصرية في حقبتي الخمسينيات والستينيات أكثر اقتراباً من الاتحاد السوفيتي مقارنة بالعلاقات المصرية ــ الأمريكية لكن الأخيرة كانت موجودة وقائمة على المستوى الاقتصادي والسياسي وبالطبع تحمل أبعاداً ظاهرة وخفية.
ويمكن أن تتبنى الدول سلوكاً دوليا متشابهاً نسبياً لكن مع اختلاف العقائد الحاكمة، فإيران تدعم الصراع العربي ــ الإسرائيلي وحركات المقاومة “حزب الله وحماس” ولكن لا يشترط أن يستند هذا الموقف لأساس أيديولوجي/ ديني مُحدد لا بديل له.
ثالثاً: الدور الإيراني في النظم العربية
تسعي إيران إلى الحصول على مكانة إقليمية متميزة ودور متفرد في محيطها، وهو هدف سياسي عملي بالأساس، تدعمه الأدوار السياسية والعسكرية المختلفة التي تمارسها إيران في العديد من النظم العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربي.
رابعاً: التحالفات السياسية بين إيران ودول الجوار
ينطبق ذات التوصيف البرجماتي على الدوافع للتحالفات السياسية التي تحكمها الأسباب المرتبطة بالموقف الدولي وتطورات الأحداث على الساحة الدولية والمكاسب السياسية المعلنة وغير المعلنة التي تحققها الأطراف المتفاوضة.
إذن يمكن القول إنه مع الاعتراف بالكيان الأيديولوجي الظاهري الحاكم للنظام الإيراني والذي يدركه الباحثون في الشأن الإيراني بدون أدنى شك، لا يمكن جعل الحكم على الدولة الإيرانية قاصراً على الدوافع النابعة من إطارها الديني الحاكم والمنظم لشؤونها الداخلية والخارجية.
غير أن الهدف هو التأكيد على البعد الواقعي في السياسة الخارجية للدول والذي لا تُعتبر إيران خارجة عنه على مستوى الممارسة خاصة وأن السياق الدولي في حد ذاته لم يعد معترفاً بالفوارق الفكرية بين الدول والشعوب والتنميط هو الهدف، والخصوصية الثقافية والاجتماعية صارت ترفاً فكرياً إذا جاز التعبير.
بالتالي إذا تم تطبيق التوجه ذاته على الجانب السياسي والاقتصادي والعسكري الأكثر ديناميكية بطبيعة الحال بالمقارنة بالجانب الثقافي والفكري والاجتماعي، يبدو الأمر وكأن التوجهات السياسية تتشكل أولاً بناءً على السياق الدولي وطبيعة التسلسل الحاكم للنظام العالمي وأقصر الطرق لتحقيق المصالح وإن اختلفت الشعارات المرفوعة سواء بالتصريحات أو بوضع الدولة ذاتها داخل إطار أيديولوجي/ عقائدي صريح.
خاتمة
يمكن القول إن ما سبق خاضع للأخذ والرد ككل الآراء على المستوى السياسي والفكري العام، في ضوء الإيمان بأن الارتقاء الثقافي دوماً يرتبط بالبعد عن القوالب الجاهزة في الفكر والتسليم بمجريات الأمور من دون نقاش، وأخيراً تعامل الباحث مع رأيه على أساس أنه نقطة في محيط العلم والرؤية الشاملة للأحداث، والتي تخضع للتغيير دوماً وعدم الثبات على توصيف بعينه لا بديل له.