كما قوبل مؤتمر مدريد بالرضا الأمريكي ــ السوري المشترك، حدث الأمر نفسه أيضًا لكن بالقلق من تقليص “عرفات” لدور “كلينتون”، وذلك عن طريق التودد بشكل أكبر إلى الإسرائيليين والثقة بهم لدفع عملية السلام.
قام “كلينتون” بإرسال رسالتين، الأولى بتاريخ الرابع من سبتمبر لعام 1993م ــ قبيل اتفاقية أوسلو – والثانية بعدها مباشرة بتاريخ الثاني من ديسمبر من العام نفسه. كما أكّد “كلينتون” في مكالمةٍ هاتفيةٍ له مع “الأسد”، على التزامه في دفع عملية التفاوض الخاصة بالشأن السوري، وأعرب عن أمله في أن تكبح سوريا الجماعات الفلسطينية المعارضة لاتفاقية “أوسلو”.
من جانبه رفض الرئيس “الأسد” طلبه معتبرًا أنها قضية فلسطينية داخلية تخص الفلسطينيين أنفسهم؛ لأنه كان يعتقد أن هناك عدة أسباب غير مبررة من ناحية الهيكل السياسي الداخلي أدت إلى تشكيل هذه المعارضات القوية ضد “أبو عمار”.
جاءت تصريحات “روبن” بناءً على عدم قدرة الرأي العام الإسرائيلي على تقبّل اتفاقيتين للسلام متزامنتين مع سوريا والفلسطينيين في الوقت نفسه، كما أدى هذا الرفض إلى تعميق حالة الجمود.
وأثارت فينا هذه التصريحات الشعور بأن إسرائيل تحاول التهرّب تمامًا من استمرار عملية التفاوض مع سوريا. وحاول الرئيس “حافظ الأسد” السيطرة جيدًا على أعصابه في ذلك الموقف، لكنه كان غاضبًا للغاية مما حدث. ولو صح التعبير، فإن مشكلة “الأسد” النفسية والسياسية لم تكمن في مباحثات الآخرين أو اتفاقياتهم، بل في خلف العهد وانتهاك المعايير السياسية العالمية.
نضيف إلى هذا، أن “الأسد” نفسه لم يكن غافلا عن حنكته وأهمية اللجوء إليه من حين لآخر، لكنه كان يمينيًا إلى حدٍ كبير، يستغلّ خططه بعينٍ ثاقبة لديها بُعد مستقبلي في إطار استراتيجي واضح لا يخيب.
كنت برفقة الرئيس “الأسد” من القاهرة في اجتماعه مع الرئيس المصري “محمد حسني مبارك” في الثاني والعشرين من سبتمبر لعام 1993م، والذي كان مجرد بداية لاستئناف مثل هذه اللقاءات بعد معاهدة أوسلو.
كتبت جريدة “الأخبار” بالقاهرة، عن زيارتنا لمصر وعن مباحثات الرئيس، والتي كرّر فيها “الأسد” كلماته الشهيرة لعرفات خلال اجتماعه معه في الخامس من سبتمبر، وأضاف أن معاهدات أوسلو تزيد من “الضرر بالثغرات في المشهد الفلسطيني”، وعليه “فسوف يبقى الوضع تحت السيطرة الإسرائيلية ولن يتيح الكثير من الخيارات للفلسطينيين”.
نزلت تصريحات “الأسد” المكشوفة في لقائه مع “الأخبار”، كالصاعقة على مسامع “مبارك” ــ أحد مؤيدي معاهدة أوسلو ــ وهنا حاولت إدارة “كلينتون” اتخاذ خطوة أو على الأقل التظهار بمحاولاتها تداوي الجُرح السوري.
كما أننا اخترنا الطريق السلمي، ولم نعارض حركتهم، لكن تاريخ بلادنا لا يسمح لنا بالركوع أمام إسرائيل. وفي أثناء حضوري اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تعقد عادةً في شهر سبتمبر من كل عام، أكدت على الموقف السوري المتمثل في السعي نحو “سلام مشرّف لنا وللآخرين”.
قلت عن اتفاقية أوسلو: “إن إصدار الحكم التاريخي بشأن هذا الاتفاق، يقع على عاتقي الشعب الفلسطيني وقادته”.
وأضفت لطمأنة الجميع: “لا أحد يمكنه التهكن بأن سوريا ستواجه مشكلة مع هذا الاتفاق، لأنه ليس هناك ما يستدعي ذلك، وأن مصير هذا الاتفاق “الفاشل” مُتوقع، لكن في الوقت نفسه، من الضروري ألا ينتظر أحد من سوريا منع رفض الفلسطينيين لهذه الاتفاقية”.
بعد اتفاقية أوسلو مباشرةً، قامت عشرات الجماعات الفلسطينية بما فيها “جبهة الشعب” و”الجبهة الديمقراطية” لتحرير فلسطين – وهي من أهم الجماعات في منظمة التحرير الفلسطينية ــ بمعارضته بل وإدانته.
ونحن لم نفرض أية قيود على نشاط الجماعات الفلسطينية المعارضة لاتفاق أوسلو، بل أصبحت “دمشق” فعليًا أحد أهم المعارضين للاتفاق و”كشف أبعاده”. ويبدو أن الأمريكيين قاموا بتفسير تصريحاتي بأننا نريد البدء في شنّ هجومٍ ضدهم تحت عباءة عدم قمع آراء أحد.
في حين أن الأمريكيين لا يغضون النظر عن معارضيهم فحسب، بل يشجعون في مثل هذه المواقف أيضًا على قمعهم بحجة مكافحة الإرهاب! محكافحة الإرهاب الذي تعتبر إسرائيل حليفةً له، وتجلعه في مقدمة أولوياتها السياسية.
هاتفني “كرستوفر” في أواخر سبتمبر، ليخبرني باستئناف “روبن” للمحادثات مع سوريا ربما في خلال شهرين، وسوف يقوم بالتصريح عن هذا الأمر لاحقًا. وحينها شعرت بأن أعضاء وزارة الخارجية الأمريكية يحاولون في أفضل الأحوال إرشاءنا سياسيًا أو في أسوء الأحوال يجتهدون في إرضائنا.
في أوّل أكتوبر من عام 1993م، وجّه “كرستوفر” لي دعوة بزيارته في السادس من الشهر نفسه. واتفقنا على زيارة وزير الخارجية الأمريكية للمنطقة في أوائل نوفمبر. وفي استجابةٍ لهذه الدعوة، قام “الأسد” بإنابتي عنه لزيارة الرئيس “مبارك” في القاهرة، في السادس عشر من أكتوبر من نفس العام.
خلال اجتماعي مع “مبارك”، قمت بعرض مباحثاتي مع الأمريكيين في واشنطن، وقله له إن “كرستوفر” قد أكّد على التزام الولايات المتحدة بعملية السلام السورية ــ الإسرائيلية، كما كان مصير التوافق بين الفلسطينيين والدول المجاورة لهم، واحدة من أهم الموضوعات في المباحثات المصرية ــ السورية.
ــــــــــــــــــــــــــ
مادة مترجمة عن صحيفة: “ايران“، بعنوان: “خاطرات يك ديپلمات“، لوزير الخارجية السوري السابق، فاروق الشرع، ترجمها: حسين جابري انتصارى، يوم پنجشنبه ۱۳ آبان ۱۴۰۰ هـ. ش، الموافق الخميس 4 نوفمبر 2021.