تُعد الحروب والنزاعات الدولية بمثابة مواقف كاشفة لطبيعة النظام الدولي السياسية والاقتصادية وتراتبية الدول الفاعلة “الكبرى” وما يسمي بدول العالم الثالث، كما تجيب عن السؤال: إلى أي مدى تقوم كل دولة بالتوفيق بين مصالحها وبين ما يعرف بـ”معايير القانون الدولي وحقوق الإنسان”.
في هذا الإطار تعتبر الحرب الروسية ــ الأوكرانية بمثابة دليل دامغ على أن “نظام المستعمرات” لم ينته؛ لكنه تغير من حيث الشكل والإطار فقط، فالصراحة السياسية بدون مواربة تلك التي تمثلت قديماً في اتفاقية سايكس ــ بيكو، وما شابهها لم تعد تجدي في عصر العولمة والإندماج الاقتصادي غير المتكافئ وليس من منطلق الندية.
نموذج الحرب الروسية ــ الأوكرانية
تنتقل التداعيات الاقتصادية من دولة لأخرى استناداً لنظرية كرة الثلج، ويبدو العالم الثالث في مشهد مُثير للسخرية والدلالة في الوقت ذاته، من حيث الأثر الواقع عليه في نطاق ارتفاع أسعار السلع الزراعية ومصادر الطاقة، وكأن العالم يصبح نموذجاً للقرية الصغيرة في حالة الأزمات بالتحديد.
كما يبدو المشهد السياسي الحالى على النهج نفسه من مفهوم “النخبة الدولية التي تتحكم في مصير الأغلبية”، كما أنه بدلاً من أن يشهد الشرق الأوسط مزايا “التعددية القطبية” التي تنتشر دعوات التأييد لها منذ عقود، بدا أن خير إطار تظهر من خلاله هو “النزاع في حرب بين قوى دولية مختلفة”.
تبدو الولايات المتحدة بوضوح أنها وإن كانت طرفًا لا يستهان به في المعادلة السياسية للحرب من خلال تأييدها للنظام الأوكراني، إلا أن روسيا كقطب دولي فاعل مناوئ أثبتت أن مفهوم الأحادية القطبية الذي ساد في العديد من الكتابات منذ سقوط الاتحاد السوفيتي لا يستند إلى أسس واقعية عملية في الوقت الحالي.
في ذلك السياق، تباينت مواقف دول الشرق الاأسط المرتبطة بعلاقات متفاوتة العمق والتأثير بكل من الولايات المتحدة وروسيا ولكنها في كل الأحوال علاقات “قائمة ولا غنى عنها” كما كشفت التبعية الاقتصادية والتي تثير العديد من علامات الاستفهام لدى دول عربية رئيسة على الاستيراد من الخارج مما لا محل لمناقشته بوضوح الآن.
لكن ذلك الأمر يكشف بوضوح عن أن القاعدة التي سادت في أوائل القرن العشرين وما قبله من توزيع الاختصاصات بين القوى الكبرى والصغرى لم تتغير في جوهرها حتى الآن.
وتسعي المقالة إلى تناول الملامح الرئيسية لموقف إيران على وجه التحديد من الحرب الروسية الاوكرانية القائمة حاليا وذلك مع الأخذ في الاعتبار التطورات المستمرة في الموقف الحإلى مما ينفي صفة الحسم عن المواقف والتوجهات السياسية القائمة بطبيعة الحال .
موقف إيران من الحرب الروسية ــ الأوكرانية
بوجه عام تسعى منطقة الشرق الأوسط إلى إحداث قدر من التوازن في تصريحاتها ومواقفها المعلنة بالنظر إلى التداعيات المحتملة على نظامها السياسي في ضوء ما تقرره وتتبناه من توجهات.
من هذا المنطلق اتخذت إيران موقفاً متوازناً حرصاً على علاقتها مع روسيا من جهة وبما لا يؤثر على مسار مفاوضات فيينا من جهة أخرى، والذي تتداخل فيه كل من روسيا والولايات المتحدة كما هو معروف، ومن ثم امتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة فيما يخص إدانة الحرب الحالية.
تمحورت أبرز التصريحات الأساسية الصادرة عن النظام الرسمي الإيراني في انتقاد موقف الولايات المتحدة والإشارة إلى دورها في الأزمة، علاوة على الموقف التقليدي الخاص بالـتأكيد على ضرورة وقف النزاع.
على سبيل المثال: أكد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن توسع حلف شمال الأطلسي يُعد تهديداً لأمن المنطقة واستقرارها، ومن ناحية أخرى صرح المرشد، على خامنئي بما يعني أن الأزمة الحالية تتصل بسياسات الولايات المتحدة والدول الغربية التي تسعى إلى فرض التغييرات على النظم، وتستهدف ترسيخ مبدأ الموالاة لها من جانب باقي الدول في إطار نظرية “تدعيم مفهوم مناطق النفوذ”.
كذلك يري خامنئي أن موقف إيران ثابت من غزو أوكرانيا من حيث تأييد وقف الحرب، ووصف الولايات المتحدة بأنها مصدر الأزمة ارتباطاً بخبراتها المتعارف عليها في مجال صناعة الأزمات تمهيداً للتدخل وفرض رؤاها حول ما “ينبغي أن تسير عليه الأمور”.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن الولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز وجودها الأمني في شرقي أوروبا، وعلى سبيل المثال: قيامها بنشر القوات في منطقة يسهل منها الوصول إلى إيران من الشمال عبر البحر الأسود.
كذلك قام خامنئي بتحميل أوكرانيا المسؤولية باعتبارها دولة رهنت موقفها بالوعود الغربية، لكنها تُعد من ناحية أخرى ضحية للسياسة الأمريكية.
كما أشار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى أن اللجوء لقرار الحرب ليس هو الحل وأن المساعي يجب أن تُبذل وصولاً لوقف إطلاق النار والاتفاق على حل سياسي ديمقراطي.
دبلوماسية إيران وإستراتيجية التوجه شرقاً
تنطبق سمة “الدبلوماسية التقليدية” على الاتجاه العام لموقف إيران من الحرب الروسية ــ الأوكرانية، فهي من جهة حريصة على روابطها الاقتصادية والسياسية مع روسيا في إطار سياسة التوجه شرقاً التي تنتهجها برغم الانتقادات داخل إيران حول أهمية التوازن في علاقاتها الخارجية، ومن جانبها تتعامل روسيا مع إيران على أنها جزء من مشروعها الاستراتيجي لتحدي النفوذ الأمريكي.
من ناحية أخرى سادت آراء حول مدى تأثير الأزمة الروسية ــ الأوكرانية على الملف النووي الإيراني، والدور الذي قد تمارسه روسيا في توجيه موقف إيران، والتساؤل عن “احتمالات خروج روسيا من الاتفاق النووي”، وأنه سبق لها وأن طالبت بضمانات سعياً وراء تجنب انعكاسات العقوبات الغربية على روسيا في ظل الأزمة الحالية على العلاقات الإيرانية ــ الروسية، بالإضافة إلى آراء لبعض الباحثين عن توظيف إيران “على نحو نسبي”، كمصدر بديل للطاقة في ظل الأزمة الحالية.
علاوة على التأثير الاقتصادي والسياسي المحتمل من جراء الحرب القائمة، أشارت الصحف مؤخراً إلى انقطاع جزء من سعة عرض النطاق الترددي الدولي للإنترنت بإيران الذي توفر الخدمات الخاصة به، شركة روسيا للاتصالات، حيث تم قطع سعة الـ400 جيجا التي يتم توفيرها من خلال الشركة عبر أوكرانيا.
وقد تزامن ذلك مع الإشارة إلى طبيعة النظام الإيراني بوجه عام، والذي يهدف إلى تقييد الاتصالات والانترنت تحسباً لتأثيره المتعارف عليه على الاستقرار وإتاحة وسائل للمعارضة وحدوث اضطرابات داخلية كنتيجة لذلك.
لكن مما لا شك فيه أن التداعيات الاقتصادية على إيران وغيرها من دول الشرق الأوسط قائمة وستتضح مع الأيام المقبلة في ظل التطورات اليومية للأحداث الجارية.
خاتمة
مما تقدم يُمكن القول إن الموقف الإيراني من الأزمة الحالية يُعد “نموذجاً مصغراً” لحال الدول التي ترتبط مُقدراتها السياسية والاقتصادية بدول الغرب والولايات المتحدة، فلديها أكثر من دافع للحذر والتوازن في المواقف والتصريحات ويأتي على رأس أولوياتها كما سبقت الإشارة، في ظل الاحتمالات المستقبلية لتداعيات الأزمة على الملف النووي الإيراني علاوة على حرصها التقليدي على “مسار علاقاتها وتفاعلاتها الدولية”.
كما أن الحرب الحالية كانت كاشفة على نحو مطلق لما يُعرف بازدواجية المعايير في تقييم الأوضاع عندما يتعلق الأمر بالدول الغربية ودول الشرق الأوسط، فمما لا شك فيه أن استهجان أثر الحرب على مواطني أوكرانيا يتضمن بعداً انسانياً مُتفقا عليه في ضوء حقوق الإنسان الدولية (بصرف النظر عن مستوى تطبيقها).
لكن أثارت الأزمة تعليقات عديدة مشروعة ومُقارنات لافتة بين ما يحدث من تعاطف دولي ومساعدات للاجئين واهتمام بتأثير الحرب على الداخل الأوكراني من المنظور الاجتماعي، وما سبق أن حدث لدول عربية أبرزها سوريا والعراق وفلسطين التي صار مجرد ذكر اسمها يعطي انطباعا بأنها من “كلاسيكيات السياسة العربية والدولية في آن واحد”.
غير أن تلك الملاحظة العابرة تكشف عن توازنات القوى على الساحة الدولية وأنه على مستوى الأفراد كما الدول: يربح القوي دائما، ويُنظر للأكثر نمواً وتطوراً على المستوى الاقتصادي والعسكري والسياسي أنه الأكثر جدارة بالرعاية والالتفات.
إلى جانب كل ما سبق، يعبر سلوك الولايات المتحدة في إصرارها الدؤوب عبر العقود على انتقاد الغير في ما تفعله هي بذاتها، يُعبر عن حاجة ماسة إلى جهود بحثية مكثفة لتطبيق نظريات علم النفس على سلوك الدول رغم أن الدوافع البرجماتية والمصلحة بالطبع قائمة في كل الأحوال.
ومن خلال متابعة تطورات الأحداث، يترسخ لدى المراقبين اعتقاد أن المدخل البحثي لسلوك القادة ودوافعهم الذاتية في دراسة العلاقات الدولية لا يزال من أكثر الوسائل الواقعية للدراسة والتحليل، وهو وإن كان لا يُقدم رؤية شاملة بطبيعة الحال إلا أنه يفسر جزءًا لا يستهان به من الأحداث.
وأخيراً من المهم التأكيد على أن الحرب الحالية تُمثل حلقة من حلقات متتالية من المتوقع أن يشهدها النظام الدولي في السنوات المقبلة، من حيث كشف حقيقة الاتجاه الفعلي التنفيذي للنظام نحو التعددية القطبية، ما سينعكس على المشهد السياسي الدولي والعربي في آن واحد معا.