تتبنى إيران مقاربة تدخلية في الدول العربية من خلال اعتماد عدة سياسات، منها الانخراط المباشر كما هو الحال بالنسبة للأزمة السورية، أو التدخل بالإنابة كما هو حاصل في الأزمة اليمنية[1]، أو التعامل الحذر كما يحدث بالنسبة للأزمة الليبية، وتشير الأحداث في محصلتها النهائية إلى أن إيران قد تدعم المشير خليفة حفتر في ليبيا تحقيقا لعدة أغراض استراتيجية في آنٍ معًا، ومن بينها تحسين العلاقات مع مصر والنكاية في تركيا.
وفي واقع الأمر تبدو ليبيا للوهلة الأولى بعيدة جغرافياً عن خريطة نفوذ النظام الإيراني واهتماماته، إلا أنّ تاريخ العلاقات بين النظام الإيراني والنظام الليبي السابق يقول العكس من ذلك تماماً.[2]
فقد لعب نظام معمّر القذافي دوراً مهمّاً في دعم نظام ولاية الفقية في إيران ضد العراق إبّان الحرب العراقية – الإيرانية، وحينها زودت طرابلس طهران بصواريخ سكود.[3]
وتُعد ليبيا محورية في التحرك الجيو إستراتيجي لإيران من خلال أدوات السياسة الخارجية الإيرانية سواء تلك المتعلقة بالتغلغل الثقافي والمذهبي لهويتها السياسية بأبعادها الثقافية والحضارية أو من خلال الوكلاء والفاعلين المسلحين من غير الدول. ويأتي هذا النهج المناهض لسيادة الدولة القومية في إطار لعب طهران دورها في منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا.[4]
وللتدليل على هذا المنحى يمكن الاستشهاد بالتقارير الإخبارية التي أوردت أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي أعطى توجيهاته لقوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، لتقديم مساعدة عسكرية لنظام معمر القذافي لقمع الاحتجاجات الليبية في العام 2011، وأشارت إلى أن الخطة تقضي بأن يتم نقل أسلحة، من بينها صواريخ أرض ـ أرض وأرض ـ جو، وراجمات تستخدم ضد القوات المعارضة.[5]
وفي تلك الأثناء أرسل بشّار الأسد حليف إيران الأوّل في المنطقة دعماً عسكرياً للقذافي وعليه عادت العلاقات تدريجيًا بين النظام السوري والحكومة التي تدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر من خلال زيارات لوفود اقتصادية متبادلة بين البلدين.[6]
وفي مارس 2020 بحث الرئيس السوري بشار الأسد مع وفد من الحكومة الليبية المؤقتة الموالية للمشير خليفة حفتر، التطورات الإقليمية و”معركة البلدين ضد الإرهاب والتدخلات الخارجية”، وخاصة من تركيا.[7]
وبالنظر إلى حالة السيولة التي فرضتها أحداث وحوادث العقد الماضي من تحولات في موازين القوى الإقليمية، وما شهدته بلدان المنطقة من احتجاجات شعبية وتغير ملامح خريطة الإقليم، فقد دفع كل ذلك نحو إعادة تموضع إيران على خريطة القوى المؤثرة في الإقليم من خلال الدخول في تحالفات مختلفة ومحاولة البحث عن أرضية جديدة للتدخل والتأثير وفرض نفوذها، ومن هنا جاءت ليبيا كمسرح جديد للتدخلات الإيرانية.
وقد رصد السياسي الليبي ومندوب بلاده الأسبق لدى الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلقم، ستة دوافع تحمل إيران لمحاولة السيطرة على ليبيا:
أولا: توافر السيولة الأمنية وغياب سيطرة الدولة القوية على مفاصل البلاد.
ثانيا: بُعد الإقليم عن المشرق العربي وهو مركز الصراعات والتداخلات السياسية والعسكرية بين القوى الإقليمية والدولية.
ثالثا: يعتقد الإيرانيون أن بقايا الموروث الفاطمي الشيعي لا تزال حية في اللاوعي الشعبي في شمالي إفريقيا، وأن الدولة الفاطمية التي سادت في تلك المنطقة قد تركت فلكلوراً ثقافياً يمكن توظيفه في عملية التبشير للمذهب الشيعي.
رابعا: أن المذهب السني المالكي الذي بقي قوياً خلال العهد الفاطمي لم يعد اليوم قوياً في عقول الأجيال الجديدة، وبالتالي فإن المقاومة لحملة التبشير الشيعي الجديد لن تجد مقاومة دينية صلبة.
خامسا: الحركات المتطرفة التي انخرط فيها آلاف من أبناء شمالي إفريقيا، تؤكد بالنسبة للرؤية الإيرانية استعداد شرائح من هؤلاء للانسياق في تيار الخطاب الإيراني المعادي للغرب وإسرائيل.
سادسا: يرى الإيرانيون أن وجود موطئ قدم لهم في شمالي إفريقيا يقدم لهم ورقة ضغط ذهبية على القارة الأوروبية.[8]
وفي الواقع تتعدد الأسباب التي تدفع إيران إلى تكثيف دعمها في الفترة المقبلة للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خلية حفتر استنادا إلى الوقائع والتحليلات والخلفيات التاريخية، على النحو التالي:
تصفية حسابات: إذ تحاول إيران مواجهة تركيا عبر الساحة الليبية لرفضها المقاربة السياسية التركية في الملف السوري، ذلك أن محاولة إضعاف تركيا في سوريا مفيد للأجندة الإيرانية بتصفية حساباتها مع أنقرة في ساحة أخرى بدلاً من الاصطدام المباشر في سوريا[9] بما يزيد حالة الاستقطاب الإقليمي والدولي حول ليبيا، خاصةً في ظل تباين المصالح بين أغلب الدول المنخرطة في ذلك الصراع. فالساحة الليبية تتشكل عليها الكثير من التطورات الميدانية بصورة متسارعة وجد خطيرة تنبئ مؤشراتها بتداعيات وخيمة ليس فقط على أمن واستقرار الدولة الليبية ودول الجوار المباشر، وإنما بالنسبة للسلم والأمن الدوليين بشكل عام.
إنقاذ الحليف: هنا تتكئ المقاربة التحليلية على أن إيران ستستخدم الملف الليبي لتحسين علاقاتها مع دول مثل فرنسا ومصر والإمارات كورقة مقايضة في البحث عن تسوية للأزمة السورية بالنظر لخريطة المصالح المتبادلة، التي فرضتها طبيعة التحالفات السياسية القائمة، لا سيما بعد تقارب وجهتي النظر الإماراتية المصرية مع طهران في الملف السوري، من خلال دعم أبو ظبي والقاهرة لنظام الأسد في استعادة سيطرته على كامل سوريا وإعادة مقعده في الجامعة العربية.[10]
مكاسب سياسية واقتصادية: في حكم المؤكد أن النظام الإيراني ليس لديه الموارد الكافية للعب دور مؤثر في الأزمة الليلية متعددة الأطراف، إذ تحتاج طهران للمزيد من الموارد المالية اللازمة للحفاظ على وكلائها في المنطقة، وخاصة قواعدهم الاجتماعية السياسية، ولذا فعادة ما يجري الحصول علي هذه الموارد من خلال أنشطة غير مشروعة تُسهلها إيران وتدعمها كما هو الحال في لبنان، من خلال إنتاج المخدرات وتهريبها.[11]
لكن الساحة الليبية من الممكن أن تتحوّل كذلك إلى سوق لأسلحتها أو لتجارة المخدرات أو لتبييض الأموال أو لاستغلال النفط الليبي، فضلاً عن مكاسب الحضور في الملف الليبي دون تحمّل تبعات مباشرة، وتعزيز نفوذها في سوريا من خلال ملء الفراغ الذي يتركه مقاتلو الجماعات الإرهابية الموالين لتركيا، وبالتحديد جبهة النصرة، الذين تقوم أنقرة بنقلهم لليبيا.
خاتمة
بناء على ما أعلاه يتضح أن الأزمة الليبية تتخذ مساراً أكثر تعقيداً، بالنظر إلى طبيعة التدخلات الإقليمية والدولية وحجمها، وتنبئ المؤشرات بمزيد من عسكرة المشهد وتتجه نحو الصدام والحرب أكثر منها نحو التوافق على حل سلمي يضمن الاستقرار ويحفظ وحدة الدولة ومؤسساتها. ولما كان الأمر كذلك ففي الحروب تتبدل المواقع بتغير الأسلحة ومستوى صوت البنادق، بكل ما يفرضه ذلك من تغير للأجندات وطبيعة التدخلات ومستواها وينطبق ذلك كله على مآلات النفوذ الإيراني في الأزمة الليبية سلباً أو إيجاباً.
ـــــــــــــ
[1] نيفين مسعد، محاضرات تمهيدي دكتوراه علوم سياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2018- 2019.
[2] على حسين باكير، هل تدعم إيران حفتر في ليبيا؟، متاح على الرابط التالى: https://bit.ly/2MDtPFo
[3] على هاشم، موسى الصدر: ما الذي يجعل من قضيته ملفاً لا يغلق؟، بي بي سي، متاح على الرابط التالى:
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-46949042 وانظر: علي حسين باكير، السابق.
[4] روبرت سبرينغبورغ, ف. س. “بينك” وليامز, جون زافاج، المساعدة الأمنية في الشرق الأوسط: رقعة شطرنج ثلاثية الأبعاد، مركز كارنيجي، متاح على الرابط التالي: https://carnegie-mec.org/2020/02/24/ar-pub-81130
[5] إيران تساعد القذافي لإضعاف قدرة الدول على التعامل مع سوريا، متاح على الرابط التالي:
https://elaph.com/Web/news/2011/7/667327.html
[6] تيم الحاج، ميس شتيان، وعلي درويش، خيوط اللعبة بيد موسكو وأنقرة.. سوريون على طرفي الصراع في ليبيا، متاح على الرابط التالى: https://www.enabbaladi.net/archives/371666
[7] الأسد يبحث مع وفد الحكومة الليبية المؤقتة سبل مواجهة سياسات تركيا، روسيا اليوم، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/2Umt1sH
[8] عبد الرحمن شلقم، ليبيا.. الجبهة الإيرانية الخامسة؟، جريدة الشرق الأوسط، 09 يونيو 2018، متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3h6PIuD
[9] على حسين باكير، مرجع سبق ذكره.
[10] السابق.
[11] روبرت سبرينغبورغ, ف. س. “بينك” وليامز, جون زافاج، مرجع سبق ذكره.