مثل تجديد العقوبات الأمريكية ضد إيران في السابع من أغسطس ضربة أخرى للاقتصاد الإيراني، الذي ضعف بشكل مطرد منذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة “الاتفاق النووي” في الثامن من مايو 2018. ومن خلال تلك العقوبات تم حظر بيع الذهب والمعادن الثمينة إلى إيران أو العكس. كما حضر على الحكومة الإيرانية وشركات الصيرفة الإيرانية أو حتى شركات الاستثمار في هذا البلد امتلاك الدولارات، وهناك حظر على بيع الطائرات المدنية لشركات الخطوط الجوية الإيرانية.
وقد عززت هذه الخطوات سقوط العملة الإيرانية والأضرار التي لحقت بالاقتصاد المحلي، على خلفية الرسالة الأمريكية الواضحة: أي شخص يتعامل مع إيران لا يمكنه التعامل مع الولايات المتحدة.
أما الجولة الثانية من العقوبات التي تستهدف مشتريات النفط والتي من المتوقع أن يتم فرضها في الرابع من نوفمبر المقبل، فهي مصممة لضرب جوهر المنتج الوطني الإيراني. لكن في عصر العولمة هذا، من الواضح تماماً أن العقوبات لها تأثيرات متجاوزة لما هو أبعد من إيران.
العقوبات متعدية
نظراً للعلاقات الاقتصادية المتزايدة باستمرار بين الدول، فإن العقوبات المفروضة على دولة واحدة لا يمكن إلا أن تتحول إلى دولة أخرى، ما يؤثر على المؤسسات الاقتصادية والأفراد المستثمرين في الدولة التي تستهدفها العقوبات. مثال: العقوبات على إيران وتأثيرها على اقتصادات الغرب والشرق الأوسط، وخاصة العراق. وعليه يجب أن تدرك الولايات المتحدة أن الضرر الذي ستسببه هذه العقوبات للاقتصاد العراقي، كبير للغاية؛ لأن هذا جزء من الصورة الأوسع للصراع الأمريكي مع إيران يمكن أن ينظر إليه من زاوية النفوذ في العراق.
ولقد قدمت خطة العمل الشاملة المشتركة التي تم التوصل إليها في الرابع عشر من يوليو 2015 من قبل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا إقرارا عالميًا لممارسة الأعمال التجارية مع إيران. ونتيجة لذلك، أعربت العديد من الدول والشركات عن اهتمامها بالاستثمارات الكبيرة في إيران، بل إن العديد منها وقع عقوداً طويلة الأجل معها.
وبعد ثلاث سنوات، كان خروج الولايات المتحدة من الصفقة النووية هو الافتتاح الرسمي في حرب اقتصادية وأدى إلى هجرة جماعية للشركات الغربية من التدخل الاقتصادي في إيران، ففي صناعة السيارات، ألغت شركات مازدا اليابانية وهيونداي الكورية الجنوبية وبيجو وستروين الفرنسيتين، عقودًا بقيمة مليارات الدولارات مع الشركات الإيرانية وسحبت استثماراتها في البلاد حتى إشعار آخر.
كما أعلنت البنوك أنها ستغلق فروعها الإيرانية وتوقف تحويلات “سويفت” المرتبطة بالمشتريات في إيران، كما ألغت شركة توتال الفرنسية عقدًا لتطوير المرحلة الحادية عشرة من حقل بارس الجنوبي الغازي الأضخم. وتراجعت شركة بوينج عن العقود لتوفير طائرات بقيمة 20 مليار دولار لإيران.
هذه مجرد أمثلة قليلة على الصفقات بين الشركات الكبرى وإيران التي انهارت وتأثرت بها ليس فقط إيران ولكن هذه الشركات أيضا، التي خططت لدخول سوق جديدة كبيرة كان يمكن أن تسفر عن مكافآت غنية في الأجلين القصير والطويل.
العقوبات على الحكومات والشركات
العقوبات الأمريكية لا تؤثر فقط على الشركات الخاصة، ولكن أيضا على الدول الأخرى، وخاصة العراق، حيث تشارك الولايات المتحدة بشدة في إعادة الإعمار. ولقد عانى العراق منذ فترة طويلة من عدم الاستقرار منذ سقوط صدام حسين في إبريل 2003. وفي عام 2011 انسحب الجنود الأمريكيون من العراق. وبعد ثلاث سنوات، اندلعت الحرب الأهلية مرة أخرى بين النظام ونظام داعش الإرهابي.
في ديسمبر 2017 أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتهاء الأعمال العدائية والنصر ضد المليشيات. في ظل حكم العبادي، فإن العراق يتعافى ببطء ويتمتع باستقرار نسبي وينعكس ذلك بشكل أفضل من حقيقة أن اللاجئين العراقيين عادوا إلى ديارهم. للعراق أيضا علاقات أمنية مهمة مع الولايات المتحدة.
ومع ذلك فإن تأثير إيران على العراق كبير، ويتجلى في جملة أمور في المجال الاقتصادي. العلاقات الاقتصادية بين الجارتين تتزايد، والأهم في ثلاثة مجالات:
أولا: الواردات، فقد ارتفع نطاق التجارة الثنائية سنويا. بفضل الإطاحة بداعش من الأراضي العراقية، وبلغت التجارة أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 6 مليارات دولار في العام الماضي (اعتبارًا من مارس 2018). وتشمل الواردات، التي تمثل 15 في المئة من جميع الواردات إلى العراق في هذه الفترة، المواد الغذائية، والمنتجات الزراعية، ومواد البناء الأساسية، ومكيفات الهواء، وقطع غيار السيارات. تجعل الطرق السهلة والأسعار المنخفضة التجارة مع إيران جذابة للعراق.
ثانيا: السياحة خاصة الحج الشيعي الديني، إذ إنها تضيف خمسة مليارات دولار سنوياً إلى الاقتصاد العراقي، حيث تعتبر النجف وكربلاء أكثر الوجهات شعبية نظراً لأهميتها للتاريخ الشيعي. في العام الماضي، كان حوالي 85 في المئة من السياح إلى هذه المدن من إيران.
ثالثا: الروابط المالية، بسبب القلق من عدم الاستقرار في العراق وفي محاولة للحفاظ على قيمة أصولهم، نقل العديد من المواطنين أموالهم من العراق. وفي عام 2015 انهارت السوق العراقية بعد نجاح داعش، بالترادف مع الاتفاق النووي، ووقتها بدأ الاقتصاد الإيراني في النمو. وعرضت البنوك الإيرانية معدل فائدة سنوية بنسبة 20 في المئة في وقت كانت فيه الاستثمارات في العراق محفوفة بالمخاطر، ما دفع بالعديد من العراقيين إلى سحب أموالهم من بنوك العراق وإيداعها في البنوك الإيرانية.
تداعيات الانسحاب من الاتفاق النووي
أثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، والجولة الأولى من العقوبات، على السياحة في العراق والاستثمارات في البنوك الإيرانية. علاوة على ذلك، فقد بالفعل الريال الإيراني منذ إبريل 2018 أكثر من نصف قيمته مقابل الدولار الأمريكي، ما دفع العديد من الإيرانيين إلى إلغاء الحج المقرر إلى العراق.
ولعل أبرز مثال على ذلك، مطار النجف، الذي كان يعمل منذ بضعة أشهر 35 رحلة يومية بين العراق وإيران، بينما يعمل الآن فقط 12 رحلة ويقدم حوالي 300 فندق في المدينة غرف بتخفيضات تصل إلى 50٪ لجذب السياح الإيرانيين، لكن هذا العرض لم يكن ناجحًا إلى حد كبير.
إن أكثر من نصف مليون عراقي يعملون في صناعة السياحة، والخوف الأساسي هو أن استمرار العقوبات سيؤدي إلى تسريح جماعي لهم، بالإضافة إلى صناعة السياحة المضطربة، إذ يشعر العديد من العراقيين بالقلق من أن استثماراتهم في إيران ستفقد كل القيمة. تم تحويل أموالهم إلى الريال لحظة إيداعها. وبالتالي مع انخفاض قيمة العملة، تتعرض الاستثمارات العراقية للخطر أيضًا. واليوم تحد البنوك الإيرانية من سحب ما يعادل 200 دولار في اليوم، ما يمنع تحويل أي أموال متبقية إلى العراق.
لقد تسبب الضرر الناجم عن العقوبات المفروضة على السياحة والاستثمارات العراقية الخاصة في قلق بالغ في العراق بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي الوشيك. ولذلك أعلن رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي مؤخرا أن وفدا عراقيا سيزور واشنطن قريبا للوصول إلى تفاهمات مع الإدارة الأمريكية حول استمرار التجارة العراقية الإيرانية.
وذكر العبادي بالفعل أن العراق لن يفي بالجزاءات وسيواصل التجارة مع إيران وإن كان بعملات أخرى غير الدولار الأمريكي، لأن العراقيون يشعرون بالقلق من أن النقص في المنتجات الأساسية المستوردة حالياً من إيران سيؤدي إلى عدم الاستقرار في البلاد. من جانبها، لدى إيران مصلحة واضحة في الحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع العراق، ومن المتوقع بالتالي أن تحاول منع العراق من التعاون مع نظام العقوبات.
خاتمة
يجب على الولايات المتحدة أن تفكر في حل للتحدي الاقتصادي الذي يواجه العراق في الوقت نفسه الذي تستجيب فيه للتحدي السياسي الذي تمثله إيران. ولأن لدى إيران العديد من الوسائل المتاحة لها لزعزعة استقرار الساحة الداخلية للعراق؛ فإن الولايات المتحدة يجب أن تولي اهتماما لذلك التحدي أيضا.
حتى وقت قريب، عانى العراق من عدم استقرار مزمن، والقيادة العراقية قلقة حقًا من أزمة اقتصادية قد تؤدي إلى فوضى سياسية. بعد أن ساهمت الولايات المتحدة كثيراً في الأمن العراقي وما هو حالياً واقع سياسي مستقر نسبياً، يجب أن تفكر الآن في الاستقرار الاقتصادي كوسيلة لمنع عدم الاستقرار المتجدد. لذلك يجب ألا نقلل من شأن الأضرار الجانبية للعراق بسبب العقوبات المفروضة على إيران.
علاوة على ذلك، حتى امتثال العراق الرسمي للعقوبات لا يضمن عدم وجود تهريب من قبل العناصر المؤيدة لإيران في العراق. ومرة أخرى، لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة تحتاج إلى فرض قرار عراقي بتجاوز العقوبات، لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى تقوية علاقات طهران ببغداد، التي هي أقوى بالفعل من علاقات بغداد مع واشنطن. بالنظر إلى أنه يتعين على الولايات المتحدة معاملة جميع الأطراف التي تحتفظ بعلاقات اقتصادية مع إيران بطريقة متسقة، فإن الصورة الاستراتيجية الأوسع تشير إلى جولة أخرى في الصراع الأمريكي ـ الإيراني من أجل النفوذ على العراق.
إذا شنت الولايات المتحدة حملة ضد إيران، فإنها لن تسمح بأن تصبح الحدود الإيرانية – العراقية قناة لتجاوز العقوبات. ومن ثم، فإن عدم وجود بديل للتجارة مع إيران وأزمة العراق الاقتصادية بعد العقوبات من شأنها أن تعرقل عودة العراق إلى حالة عدم الاستقرار السياسي وتدفعه إلى أذرع إيران المنتظرة.
ـــــــــــــ
ورقة بحثية نشرها، تومر فضلون وساسون حداد، يوم 13 سبتمبر 2018 في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي.
نقلتها من العبرية للعربية: دينا زيدان.