منذ الانتخابات البرلمانية العراقية تلك التي جرت في العام 2018 والتي أسفرت عن فوز التيار الموالي لإيران من خلال عملية التلاعب التي شابت نتائجها، وتشكيل الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي تلك التي استطاعت إيران من خلالها فرض سيطرتها على كل أجهزة الدولة العراقية، بدأت الحرب المفتوحة بين طهران وواشنطن؛ لأن الأخيرة في عهد الرئيس دونالد ترامب لديها عزم واضح على الخصم من رصيد طهران في بغداد.
الضغط الأمريكي وإيران
فمن جانبها لم تضغط واشنطن كثيرا في مسألة تشكيل الحكومة الجديدة ولم تتدخل في عمليات التزوير بل تركت الأمر يمر لأنها على دراية كاملة بأن هذا الوضع لن يستمر طويلا، وأن هذه التشكيلة غير متجانسة وسوف تنهار لأنها منشغلة بمصالح إيران أولا ثم مصالحها الشخصية في المقام الثاني ولا تولي مصالح العراق أي أهمية.
والحقيقة أن التقدير الأمريكي للموقف قام على أن نهاية الوضع إزاء هذه الحكومة لا بد أن يقود إلى التمرد والتظاهر والثورة خاصة أن النخبة الحاكمة عجزت عن تقديم أية خدمات بل زادت حالات الفساد وأعطيت الفصائل الموالية لإيران دورا كبيرا في إدارة شؤون البلاد وأصبحت هي من تتحكم في مقدراته الاقتصادية وأصبح القرار السياسي بيدها وتحول العراق إلى أداة لتنفيذ المخططات الإيرانية في المنطقة وكان حزب الله العراقي (يتبع حزب الله اللبناني) رأس الحربة في تنفيذ هذه الأجندة بقيادة أبو مهدي المهندس الذي تم اغتياله في يناير الماضي رفقة قائده قاسم سليماني، آمر فيلق القدس الذراع العسكرية الخارجية للحرس الثوري.
في الأول من أكتوبر من العام الماضي دعت بعض النخب المعارضة وقادة المجتمع بالخروج في تظاهرات ردا على تفشي ظاهرة الفساد وانعدام الخدمات في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية والتي تقطنها غالبية شيعية وهي ليست المرة الأولى التي تخرج فيها تظاهرات، لكنها في هذه المرة تختلف كثيرا عن سابقتها من حيث الحجم والطائفة والأهداف، من ناحية حجمها فكانت التظاهرات الأولى التي تخرج بمئات الآلاف وكان تنظميها عاليا بحيث لم ترفع شعارات لأي جهة معينة.
شعارات المتظاهرين ضد إيران
ولقد أظهرت الشعارات أن المظاهرات للوطن فقط وللمطالبة بمحاكمة الفاسدين وطردهم وإنهاء النفوذ الإيراني وكذلك الهجوم على المرشد الأعلى علي خامنئي وهي المرة الأولى التي تحدث بهذ الطريقة ومن الشيعة أنفسهم معقل التحركات الإيرانية.
أما من حيث الطائفة فكانت صبغتها شيعية وإن وجدت بعض الطوائف إلا أنها تكاد لا تذكر وذلك خوفا من القمع والاختطاف والتصفية على يد الميلشيات التي تحمي حكومة عادل عبد المهدي.
كما أن المناطق ذات الأغلبية السنية سبق أن تظاهرت لكن القمع كان مروعا والقتلى بالمئات ودمرت مناطقهم بالكامل بعد أحداث داعش التي كانت الصفحة الثانية بعد التظاهرات للسيطرة على مناطقهم من قبل فصائل الحشد التي تأتمر بأوامر المرشد الأعلى، لذلك لم تشارك مرة ثانية واكتفت بالتأييد.
ولم تقتصر أهداف هذه التظاهرات على الفساد بل ذهبت بعيدا إلى المطالبة بإنهاء النفوذ الإيراني وطرد السفير ولم تكن فقط شعارات بل أحرقت مقرات الأحزاب الموالية لها وتطورت الأمور إلى اقتحام القنصليات الإيرانية وإحراقها في المحافظات الجنوبية، ومن خلال هذه الأحداث استشعرت إيران الخطر الحقيقي وأعطت الضوء الأخضر باستهداف الفصائل المسلحة للتظاهرات وتصفية المتظاهرين سواء بالاشتباك معهم أو عن طريق عمليات الخطف والتصفية وسقوط المئات من القتلى منهم وآلاف الجرحى.
المواجهة بين الطرفين
في تلك الأثناء كانت إيران تشعر بالخطر الحقيقي من هذه التظاهرات خاصة أنها اتهمت سفارة الولايات المتحدة بالوقوف ورائها وبدء صوت المتظاهرين يسمع في أنحاء العالم وباتوا يحظون باهتمام دولي وهي المرة الأولى التي استطاع المتظاهرون فيها إيصال صوتهم ومطالبهم إلى أروقة مجلس الأمن الدولي.
أحست إيران بالخطر الكبير ورأت أن الأمور قد تخرج عن سيطرة الحكومة والفصائل المسلحة ويمكن أن تؤدي إلى إسقاطها بالكامل وتولد لديها قناعة كاملة بأن العراق إذا خرج من نفوذها فلن تستطيع الصمود طويلا في وجه العقوبات الأمريكية.
في تلك الأثناء زاد ضغط المتظاهرين وقدموا مئات الأرواح منهم فداء لفكرة الحرية والعدالة وآلاف الجرحى يوما بعد يوم حتى اضطر عادل عبد المهدي في نهاية المطاف إلى أن يقدم استقالة حكومته في 30 نوفمبر 2019.
لم تنته الأمور عند هذا الحد بل طالب الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته الحكومة العراقية بالاستماع لطلبات المتظاهرين وتنفيذها وتطورت التظاهرات التي أحرقت صور المرشد الأعلى وقاسم سليماني في المحافظات المنتفضة وتبدلت أسماء الشوارع والأحياء التي كانت تحمل أسماء الرموز الإيرانية.
قصة اغتيال قاسم سليماني
ولغرض تشتيت الأنظار وإرباك الولايات المتحدة استهدفت إحدى الميلشيات التابعة لإيران بتاريخ 27 ديسمبر 2019 باستهداف قاعدة (كي وان) في كركوك والتي أسفرت عن مقتل متعاقد أمريكي، وقد أثار هذا الحادث انزعاج الولايات المتحدة الأمريكية.
ولم يتأخر الرد الأمريكي هذه المرة كثيرا فاستهدفت الطائرات الأمريكية بعد يومين من حادثة استهداف القاعدة وبشكل علني مواقع حزب الله العراقي في سوريا والعراق وأوقعت الضربة أكثر من 37 قتيلا وأعلنت رسميا عن استهداف هذا الفصيل وهي المرة الأولى التي تعترف فيها باستهدافها فصيل مسلح يتبع هيئة الحشد الشعبي.
وقد نددت الحكومة العراقية المستقيلة بالاستهداف وكذلك قادة الأحزاب الموالية لإيران أو تلك التي تخشى الفصائل من استهداف عناصرها ودعت فصائل الحشد إلى تشييع القتلى من المنطقة الخضراء التي توجد فيها السفارة الأمريكية، وفي أثناء التشييع حاولت عناصر من تلك الفصائل اقتحام السفارة الأمريكية وبالفعل تجاوز هؤلاء البوابة الخارجية بحضور بعض قادة تلك الفصائل ورفعوا صور قاسم سليماني وأعلام حزب الله.
قاسم سليماني تحت المجهر
كان قاسم سليماني في هذه الفترة يخطط لاختيار حكومة جديدة أكثر ولاء لإدارته ويضغط على الرئيس العراقي لتكليف شخصية جديدة وكانت خطته تقوم على أنه إن لم تنجح جهوده السياسية فإن الحشد الشعبي لديه القدرة للسيطرة على مفاصل الدولة وإدارتها عن طريق انقلاب داخلي.
في تلك الظروف رأت الإدارة الأمريكية أن إيران والموالين لها في العراق قد تجاوزوا الخطوط الحمراء بمحاولتهم اقتحام السفارة وتعريض موظفيها للخطر، ولابد أن يأتي حجم الرد متناسبا مع الاعتداء على السيادة الأمريكية ووضع حد لهذا التهور، ولم يأبه الإيرانيون للتهديدات الأمريكية ولم يأخذوها على محمل الجد خاصة الشخص المسؤول عن إدارة الملف العراقي وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني والرجل الثاني بعد المرشد الأعلى في إيران.
وبناء على أوامر عليا تم استهدافه ومعه أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي في العراق بتاريخ 3 يناير 2020، وتعقد المشهد كثيرا في العراق وتحولت المواجهة من الوكالة إلى المباشرة.
على إثر ذلك قصفت إيران السفارة الأمريكية وقاعدة عين الأسد في غربي العراق بعدة صواريخ لكن لم تكن هناك خسائر لأن الضربات الصاروخية كانت محدودة التأثير على قاعدة عين الأسد في غربي الأنبار ولم تكن تلك الضربات موفقة بل أظهرت عجز إيران الكامل عن الرد بما يساوي حجم استهداف قائد فيلق القدس، كما دفعت الأحزاب الشيعية الموالية لها في البرلمان إلى إصدار قرار بإخراج القوات الأمريكية في العراق وبغياب المكونات الأخرى مثل الأكراد والسنة. وفي الواقع لم يكن هذا القرار سوى حبر على ورق.
الأوضاع بعد مقتل قاسم سليماني
منذ مقتل سليماني في بداية العام الحالي والقوى الشيعية متشرذمة ولم تستطع الاتفاق على مرشح معين يقود المرحلة الانتقالية بعد تقديم عادل عبد المهدي استقالته، وتتصارع هذه القوى فيما بينها على المصالح الشخصية وأثبتت الوقائع أن تلك القوى ليس لديها رؤية واضحة وتخشى من القادم خاصة أن الرد الإيراني على مقتل سليماني خذلها كثيرا واتضح لها أن ما تتمتع به طهران من قوة ليس سوى دعاية وعلاقات عامة.
وجرت محاولة لترشيح محمد توفيق علاوي المقرب من إيران والذي كان يشغل منصب وزير الاتصالات في حكومة نوري المالكي وأحد قيادات حزب الدعوة إلا أن التأثير الأمريكي قد أفشل الاتفاق خاصة أن القوى الكردية والسنية وبعض القوى الشيعية رفضته ولم يستطع إكمال النصاب القانوني لعقد جلسة منح الثقة في البرلمان.
وانتقل اختيار شخصية رئيس الوزراء إلى رئيس الجمهورية برهم صالح، حسب الدستور العراقي فاختار عدنان الزرفي محافظ النجف سابقا صاحب الشخصية المثيرة للجدل كونه أحد قيادات حزب الدعوة وقدم مع القوات الأمريكية في أثناء احتلال العراق في العام 2003، وعمل مترجما معها ثم شغل منصب محافظ النجف لفترة ليست بالقليلة، وعرف عنه انتقاده للقوى الشيعية وتقديم مصلحة
إيران على العراق وكذلك عن قيامها بتكوين فصائل مسلحة تتبع الحرس الثوري الإيراني.
مرحلة عدنان الزرفي
أثار ترشيح عدنان الزرفي حفيظة القوى الشيعية واتهمته القوى السياسية بأنه مرشح السفارة الأمريكية وأنه من أدخل الفساد إلى المحافظة المقدسة حسب رأيهم، والحقيقة أن الرجل معروف بالحزم والبعد عن الأجندة الإيرانية لذلك تخشى القوى الشيعية ومن تحالف معها بأنه سيقلب الطاولة في حال فوزه بثقة البرلمان، خاصة أنه كثير الانتقاد للأحزاب والفصائل التي ترعاها إيران.
ومن خلال تحري الأوضاع ميدانيا اتضح أن هناك ضغطا إيرانيا كبيرا من أجل الإبقاء على حكومة عادل عبد المهدي وعدم تمرير حكومة الزرفي والدليل أن إيران أرسلت علي شمخاني (الأحوازي وأمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني) إلى العراق للقاء القوى الشيعية من أجل منع تمرير حكومة الزرفي ويبدو أن جهود الرجل لم تحظ بالنجاح لأن الأمر لم يحسم حتى الآن.
إن تطورات الأوضاع أماطت اللثام عن تموضح القوى الشيعية التي تنخرط في حيرة من أمرها ولا تستطيع الاتفاق فيما بينها، وتخشى من المجهول مع انعدام الثقة بحلفائها من الأكراد والسنة، فالأمريكيون يختلفون هذه المرة عن المرات السابقة وأصبح الرد مباشرا وقد ردوا على استهداف قاعدتهم في معسكر التاجي بضرب مقرات حزب الله العراقي وهو الفصيل الأقوى في الحشد الشعبي والذي يتدخل في فرض شخصية رئيس الوزراء.
وقد استهدفت مقراته في ناحية جرف الصخر في بابل وكانت الضربة عنيفة ومدمرة والهدف منها إرسال رسالة مفادها أن الولايات المتحدة هي صاحبة الكلمة الفصل في العراق ولم يعد العراق كما كان قبل مقتل سليماني، بمعنى أن أمريكا لن تقبل أي خصم من رصيد نفوذها في العراق لصالح القوى المدعومة من إيران.
أما رئيس الوزراء المكلف عدنان الزرفي، فيجري مفاوضات مع الكتل السياسية من منطلق القوة وكأن الموضوع قد حسمته الولايات المتحدة في توليه المنصب على اعتبار أن شخصية غير مقربة من إيران.
ومع ذلك فإن تجارب السنوات التي مضت أثبتت أن إيران قد استطاعت اختراق القوى المقربة من الولايات المتحدة وتجنيدها للعمل من أجل مصلحتها، مع تغيير نسب في المعادلة الراهنة وهي أن أمريكا وحلفاءها لديهم الرغبة الجادة في التغيير لذلك بدأت تقليص وجودها في العراق باستثناء الوجود الدبلوماسي والعسكري من أجل توفير حماية وعدم إعطاء فرصة لاستهدافه رعاياها، مع زيادة حدة العقوبات على إيران.
خاتمة
تشير الأوضاع الراهنة إلى أن البنتاجون يستعد لتغيير الوضع في العراق عن طريق تشكيل حكومة عراقية لا تمتثل لأوامر ولاية الفقيه أو من خلال مساعدة القوى العسكرية في السيطرة على مقاليد السلطة، وهذا يعني أن الولايات المتحدة وصلت إلى قناعة تامة أن الوضع في العراق لا يحتمل المزيد من التصعيد وأن التغيير قادم مهما كانت النتائج، وأنها تستعد لأي احتمال ممكن خاصة أنها استوعبت الأحداث بعد مقتل سليماني مع فقد إيران الكثير من حلفائها الشيعة بسبب نهجها المتمثل في فرض فصائل مسلحة وشخصيات فاسدة تعمل من أجل مصلحتها فحسب.