أدت العقوبات الأمريكية على إيران في السنوات السابقة إلى إجبار إيران على الجلوس على طاولة المفاوضات وإكراهها على التخلي عن برامجها النووية، ولو بشكل ظرفي، ما جعل من سياسة العقوبات الأمريكية على إيران أداة ناجحة وناجعة تم تجريبها في الخبرات السابقة؛ لإثناء طهران عن سياساتها في بيئتيها الداخلية والخارجية، لذلك تعتمد إدارة الرئيس الجمهوري دونالد ترامب على سياسة العقوبات نفسها، محاولة منها لإجلاس إيران مرة أخرى على طاولة المفاوضات ومناقشة اتفاق تكميلي يتعلق بتعديل البنود المعيبة في الاتفاق النووي المبرم في 14 يوليو 2015 فضلا عن إلزام إيران بوقف برنامجها الصاروخي الباليستي وثنيها عن دعم الجماعات المسلحة والانفصالية في الإقليم، لكن ما هو الفارق بين العقوبات السابقة والعقوبات التي توقعها إدارة ترامب على الجمهورية الإسلامية.
ملخص تنفيذي
- بعد قيام الثورة الإسلامية بقيادة آية الله روح الله الموسوي الخميني توترت العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية على نحو متسارع عقب أحداث السفارة الأمريكية بطهران، والتي تعتبر الحدث الأبرز في تاريخ العلاقات الثنائية، إذ احتل طلاب الجامعات الإيرانيون مقر السفارة الأمريكية واحتجزوا عددًا من العاملين فيها كرهائن، حتى تم الإفراج عنهم بعد 444 يوما من المفاوضات.
- أقرت واشنطن أكثر من حزمة من العقوبات الأمريكية على إيران أدت لتوتر الوضع شيئًا فشيئًا، إلا أنها لم تستطع القضاء على الاقتصاد والسياسة الإيرانية بشكل كامل، كما تفعل عقوبات «ترامب» الآن بعد انسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة إعلاميًا بـ«الاتفاق النووي» في الثامن من مايو الماضي، فضلًا عن تصريحاته المتتالية الهجومية بحق طهران ومسؤوليها التنفيذيين.
- هناك فارق جوهري بين العقوبات التي أقرها المجتمع الدولي على طهران بين عامي 1979 و2005، وأحداث ما قبل اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة بين طهران والسداسية الدولية، وبين ما أقره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من عقوبات، وما يتبعه من عقوبات على صادرات النفط الإيرانية وطبيعة تأثير ذلك على المجتمع الإيراني من الداخل والخارج في ضوء قرارات مجلس الأمن الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وقرارات الكونجرس الأمريكي، وقرارات البيت الأبيض.
- بمجرد وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم بدعم كامل من الحزب الجمهوري، تبادر إلى الذهن فورًا ما سيفعله الرجل في مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية ومستقبل دول الشرق الأوسط على السواء، إذ بدأ ترامب مرحلة الجدل بانسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة؛ ما وضع إيران في مأزق بعد أن كانت قد حسنت من وضعها الاقتصادي بموجب ذلك الاتفاق الذي نص على حصول الجمهورية الإسلامية على مبالغ مالية كدعم من الولايات المتحدة بالإضافة إلى التوقيع على عدة بروتوكولات وصفقات استثمارية مع دول الاتحاد الأوروبي.
- تعتبر دول أوروبا الموقعة على الاتفاق من أكثر الدول استيرادا للنفط الإيراني الخام، ما يجعل من الاتفاق النووي صفقة كبيرة لصالح إيران بموجب تصدير نفطها الخام لدول أوروبا، وصفقة رابحة لدول أوروبا في فتح آفاق جديدة لاستثماراتها في منطقة الشرق الأوسط والتي كانت محرمة عليها من قبل بسبب التحفظ السياسي والإقليمي بعد العقوبات التي سبقت التوقيع على خطة العمل المشتركة.
- أقدمت إدارة ترامب على تقديم دعم غير مسبوق لبعض فصائل المعارضة الإيرانية وتبني المجموعات التي تنادي بتغيير النظام ومنها بالطبع المعارضة الملكية ومنظمة مجاهدي خلق وجيش العدل البلوشي ومنظمات أحوازية تستهدف الاستقلال عن الحكومة المركزية في طهران، وتستثمر أخطاء إيران خصوصاً ما يتعلق بالتضييق على الحريات الاجتماعية وحقوق القوميات والأقليات.
- تختلف العقوبات الحالية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران عن سابقاتها في أنها وإن كانت أحادية، لا تحظى بتأييد أوروبي ولا أممي ومعظم دول العالم، عدا إسرائيل وعدد من الدول الإقليمية، إلا إنها تتوافق مع أزمات إيرانية داخليّة، ومظاهرات تتكرر هنا وهناك احتجاجاً على سوء الأوضاع الاقتصادية، والبطالة وهبوط الريال الإيراني بشكل حاد، ما يجعل البعض خصوصاً في المعارضة المقيمة في الخارج، يعول عليها لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية.
- فشلت كل المحاولات الإيرانية لتفادي العقوبات الأمريكية أو الالتفاف عليها؛ بسبب التعامل الأمريكي الحازم مع كل من يبادر بدعم إيران أو التعامل معه وإقرار معاقبته كذلك، بغض الطرف عن الاستثنائات المحدودة والمؤقتة والمشروطة لـ8 دول تتعامل نفطيا مع إيران.
- أدت الحزمة الأولى فقط من العقوبات إلى أن تخسر العملة المحلية كثيرا من قيمتها وتدهورت القوة الشرائية للطبقتين الوسطى والفقيرة، ومن المتوقع أن تؤدي الحزمة الثانية من العقوبات إلى كارثة اقتصادية محققة، لاستهدافها قطاعي البنوك والطاقة فضلا عن قطاع الموانئ وبذلك سيتم حرمان إيران من كل تعاملاتها التجارية مع العالم وحرمانها كذلك من عائدات النفط التي تشكل نحو 60 من دخلها القومي البالغ نحو 400 مليار دولار.
المستوى الأول:
خلفية تاريخية لعلاقة الولايات المتحدة الأمريكية بإيران
لم تسر العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران على وتيرة واحدة، إذا كانت كالخط المتعرج دائمًا بحسب المواقف السياسية وطبيعة المرحلة، وتباين مواقف الساسة الأمريكيين بين مؤيد للتفاهم مع إيران ومعارض له، لكن التباين يقع على خط تقاسم النفوذ مع إيران وحدود الدور الوظيفي الذي يجب أن تلعبه طهران في المنطقة، ولذلك تضع الولايات المتحدة الأمريكية دائمًا في اعتبارها أن إيران تتجه نحو استعادة الدور الإمبراطوري لها في المنطقة وحتى في العالم، ولا يهم إنْ كان بمقدور إيران الوصول إلى هذه المكانة أم لا بقدر ما تعمل جاهدة على تحقيق أهدافها من دون أية ممانعة دولية.
ولذلك من الضروري الحديث عن طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في خلال الحقبتين الملكية – «إبان حكم الشاه رضا بهلوي ونجله محمد» – وكذلك بعد إعلان الجمهورية الإسلامية الإيرانية عقب الثورة الخمينية 1979.
أولا: الحقبة البهلوية
بدأت العلاقات بين الطرفين بالصفة السياسية الرسمية والدبلوماسية عندما بعث شاه فارس ناصر الدين شاه أول سفير لفارس ميرزا أبو الحسن شيرازي إلى واشنطن في عام 1856، لتبادل بعد ذلك واشنطن في عام 1883 بالسفير صمويل بنجامين كأول مبعوث دبلوماسي رسمي للولايات المتحدة في إيران، وتم الإعلان عن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين رسميا في عام 1944، في أثناء فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي، الذي خلف والده رضا بهلوي عام 1941 والذي كان مولعًا بالغرب، وحلم بتحويل بلاده لدولة عظمى.
على إثر ذلك قدمت له الولايات المتحدة الأمريكية كل الدعم لينتهج سياسات الحفاظ على المصالح الأمريكية خلال السنوات الطويلة التي حكم فيها إيران، ومنح واشنطن في بلاده امتيازات لا حصر لها، وأدخل مستشارين عسكريين أمريكيين إلى بلاده لمراقبة الأوضاع في إيران بذريعة الحفاظ على مصالح أمريكا، كما كانت أمريكا تتحكم في تعيين نواب البرلمان وتحديد أدوارهم، وفرضت قانون الحصانة القضائية للأجانب «كابيتو لاسيون» الذي يعفى بموجبه الأجانب من التساؤل القانوني على أرض إيران حتى لو ارتكبوا جرائم، كما سمح بهلوي أيضًا للولايات المتحدة بأن تقيم قواعد لها في شمال إيران بالقرب من الحدود الروسية للتجسس على السوفيت في ذلك الوقت.
تأسست مملكة إيران عام 1925 على يد رضا بهلوي على أنقاض «الدولة القاجارية» التي كان آخر ملوكها أحمد ميرزا القاجاري، وظلت قائمة حتى أطاحت بها ثورة الخميني في 12 فبراير 1979، وهو العيد الرسمي لقيام الجمهورية الإسلامية، وقد تميز عهد الشاه بنزعة استبدادية متوحشة، وتغريبية فجة، على شاكلة صديقه التركي مصطفى كمال أتاتورك، بالإضافة إلى تغيير اسم البلاد من «فارس» إلى «إيران»، ليس بعدا عن فارس وتاريخها بل بوصفها أحد الشعوب الآرية المتفوقة، إذ إن الاسم مشتق من كلمة آري.
وبسبب علاقاته وتعاطفه مع الزعيم النازي، أدولف هتلر، خلال الحرب العالمية الثانية، اجتاحت القوات البريطانية والسوفيتية إيران سنة 1941، وفرّ الشاه منها، وخلت البلاد من حاكم حتى أعادت القوات الغازية ابنه محمد إلى الحكم ونصبته ملكا على البلاد، فاقترب من الغرب حتى انتهت إيران أشبه ما تكون بمقاطعة أمريكية، بواقع 900 معاهدة عسكرية وأمنية واقتصادية، و45 ألف مستشار وخبير ومتخصص أمريكي يتقاضون نحو أربعة مليارات دولار في السنة، و400 ألف جندي واقعون تحت السيطرة الأمريكية التامة، وعلاقات عسكرية وأمنية قوية مع «إسرائيل»، وسط طموح إمبراطوري بالتوسع إقليميا، ورغبة في الهيمنة والنفوذ، بما يكفي ليثير الفزع في الخليج والعراق، حتى إنه اشتهر بلقب «شرطي أمريكا في الخليج».[2]
ولابد أن غطرسة الشاه وثقته في قوته وظنه أن إيران في عهده هي جزيرة الاستقرار في المنطقة كان لها أكبر الأثر في نجاح الثورة، كما كانت ثقته التي كانت في غير محلها – في جهاز السافاك الأمني – كانت هي التربة الخصبة التي تحركت فوقها الثورة وكان اغترار الرجل بأمريكا هو المسمار الأخير في تابوت جنازته.
ولأن السياسة خداع فقد مارس الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر عملية خداع الشاه على أعلى مستوى إذ قال في عام 1978 وهو يناصر الشاه إن «إيران هي جزيرة الاستقرار في الشرق الأوسط المضطرب»، لكن بهلوي كان يغفل عما كان يحاك ضده في السر ومن الغريب أن فريق بريجينيسكي كان ينفذ على قدم وساق – وقت تصريحات كارتر المطمئنة للشاه – خطة تستهدف الإطاحة بالشاه صاحب التاج من فوق الحافة واستبداله بالعمائم السوداء.
أخذ موقف الشاه محمد رضا بهلوي في الانحدار قبل عام واحد فقط من الثورة الخمينية، حين سكت عن الفساد ثم عمد إلى تغيير بعض الوزراء من أصحاب الكفاءة والشعبية بآخرين كما كان الحال مع رئيس الوزراء عباس أمير هويدا، ليعين بدلًا منه جمشيد أموزيجار الذي شغل قبل ذلك مناصب وزير الداخلية ثم المالية ثم المياه ثم النفط.
وحين وضع أموزيجار يده على رأس الوزارة اتبع سياسة تحويل الاستثمارات إلى الزراعة بعيدًا عن الصناعة والتكنولوجيا المتطورة وفوق ذلك اتخذ موقفًا معاديا من رجال الدين بعد أن أوقف الأموال التي كان يدفعها النظام إلى رجال الدين وبذلك خرج الملالي من كهوفهم وسراديبهم وهجروا تحالفهم السري مع الشاه الذي أخذ يناصبهم العداء من خلال رئيس وزرائه، وبهذا ضمنت المخابرات الأمريكية دخول رجال الدين إلى رقعة الثورة التي بدأت تزداد اتساعًا.[3]
وبهذا الأداء عمدت الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم المساعدة والمساندة للثوار الإيرانيين الذين كان يباغتهم الخميني بخطبه الحماسية من وقت لآخر من أجل الثورة على الشاه وإسقاط حكمه.
ثانيًا: الحقبة الخمينية
بعد أن تمت الإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي في 16 يناير 1979 بتواطؤ أمريكي مع الثوار الإيرانيين، لم يكن من الصعب أن تمتد يد الولايات المتحدة الأمريكية لمساندة النظام الجديد واستعدادها على إقامة علاقات طبيعية معه مع ضرورة الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعد خافيًا على أحد مدى الدعم اللوجيستي الذي قدمته واشنطن من أجل الخلاص من حليفها السابق وتصعيد حليف جديد بعد أن انتهت مهمة الشاه، واضطرت لإحلال نظام إسلامي محل الملكية ضمن خطة «why not» التي نفذها زينيجيو بريجينسكي، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للأمن القومي وقتها ورجاله بحرفية شديدة.
وليس أدل على ذلك من الوثائق التي رفعت الولايات المتحدة الأمريكية السرية عنها في شهر يونيو من عام 2016 والتي كشفت النقاب عن المراسلات التي أرسلها الخميني أثناء فترة وجوده في فرنسا إلى البيت الأبيض وقتها، والتي تشير إلى تعهد الخميني المحافظة على مصالح واشنطن واستقرار المنطقة مقابل إفساح الطريق له لتولي مسؤولية البلاد، إذ أكدت الوثائق أن الخميني كان دعا الرئيس الأمريكي الأسبق جون كندي في أثناء وجوده تحت الإقامة الجبرية في طهران في العام 1963، إلى عدم تفسير هجومه على سياسة الشاه، بأنه يعادي واشنطن، مؤكدا أنه ليس ضد المصالح الأمريكية في إيران، ويعتبر الوجود الأمريكي ضروري لمعادلة التوازن للنفوذ السوفياتي وربما البريطاني، ويؤمن بضرورة التعاون المقرب بين الإسلام وبقية الأديان في العالم وخاصة المسيحية.
وتفيد الوثائق بأنه قبيل سقوط الشاه بوقت قصير تواصل الخميني مع إدارة الرئيس جيمي كارتر، من خلال وسطاء في 19 كانون الثاني (يناير) العام 1979، أي قبل أسابيع من انطلاق الثورة، وتعهد حينها أنه لن يقطع النفط عن الغرب، ولن يصدر الثورة إلى دول المنطقة، وأنه سيقيم علاقات ودية مع الحكومة الأمريكية.[4]
وبالرغم من ذلك فقد قالت الإدارة الأمريكية إن المخابرات المركزية قصّرت في مهمتها وإن بعض المسؤولين فيها يستجوبون من قبل البيت الأبيض وهيئة المحققين في الكونجرس وهي الأخبار التي تم تداولها في صحيفة واشنطن بوست في ذلك الوقت، إلا أن هذه الرواية ثبت زيفها مع الوقت خاصة أن إيران كان بها أكثر من 40 ألف عسكري أمريكي يعملون كخبراء في وزارتي الداخلية والخارجية الإيرانية وفي دوائر الأمن والسافاك وشركات النفط ويمتلكون أحدث أجهزة التجسس، كما أن نسبتهم داخل الجيش الإيراني وقتها كانت 1/7، وفي كل طائرة من طائرات «f14»15 كان يوجد 15 خبيرًا عسكريًا.
ولذلك فحينما أجرى الشاه حديثًا مع مجلة التايم الأمريكية الأسبوعية انتقد وكالة الاستخبارات الأمريكية وقال إنها بدأت منذ 15 عامًا بإقامة اتصالات مع المنشقين عنه للاحتفاظ بنفوذ لدى أي واحد قد يتمكن من الإطاحة به.[5]
ولقد شكلت فتاوى الخميني وتصريحاته المتكررة بشأن استخدام مبدأ «التقية» في التعامل مع الثورة الإيرانية وانحياز الخميني للولايات المتحدة منطلقا للوصول إلى كرسي الحكم بعد سقوط الشاه، إذ قال الخميني في إحدى فتاواه: “طبيعي أن يسمح الإسلام بالدخول في أجهزة الجائرين إذا كان الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو الحد من المظالم أو إحداث انقلاب على القائمين بالأمر، بل إن ذلك الدخول قد يكون واجبًا، وليس عندنا في ذلك خلاف”.[6]
المستوى الثاني:
مدى نجاح سياسة العقوبات في التضييق على النظام الإيراني
بدأت العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الجديد في إيران في التوتر السريع بعد احتلال الطلبة الإيرانيين مقر السفارة الأمريكية في طهران، ما استتبعه حظر كامل للتعامل مع الجانب الإيراني حتى عام 1995، فيما لم تكتف الولايات المتحدة الأمريكية بذلك وتمادت في التصعيد ضد طهران ما دعا مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إلى إصدار عدة قرارات متعلقة بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران، جاءت تلك العقوبات في القرارات الدولية كما يلي:
1- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1696 الصادر في 31 يوليو 2006 يطالب إيران بوقف جميع الأنشطة المتعلقة بإعادة المعالجة والتنشيط، استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لكن لم يُفرض عقوبات.
2- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1737 الصادر في 23 ديسمبر 2006، يمنع الإمداد بالمواد والتكنولوجيا النووية وتجميد أصول الشركات والأفراد الرئيسيين المرتبطين بالبرنامج النووي.
3- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1747 الصادر في 24 مارس 2007 بفرض حظر على الأسلحة وتوسيع تجميد الأصول الإيرانية.
4- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1803 الصادر في 3 مارس 2008 بتوسيع تجميد الأصول الإيرانية ودعت الدول لمراقبة أنشطة البنوك الإيرانية، وتفتيش السفن والطائرات الإيرانية، ومراقبة حركة الأفراد المرتبطين بالبرنامج النووي في بلدانهم.
5- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1835 – صدر في 27 سبتمبر 2008.
6- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929 – صدر في 9 يونيو 2010 ويقضي بمنع إيران من المشاركة في الأنشطة المتعلقة بالصواريخ الباليستية، وتشديد الحظر المفروض على الأسلحة، وفرض الحظر على سفر الأفراد المشاركين في البرنامج، وتجميد التمويل والأصول الخاصة بالحرس الثوري الإيراني وخطوط الشحن الإيرانية، وتوصية الدول بتفتيش سفن الشحن الإيرانية، وحظر تقديم الخدمات لسفن إيرانية تشارك في أنشطة محظورة، ومنع تقديم الخدمات المالية المستخدمة في النشاطات النووية الحساسة، والمراقبة عن كثب للأفراد والكيانات الإيرانية عند التعامل معهم، وحظر فتح البنوك الإيرانية في أراضيهم ومنع البنوك الإيرانية من الدخول في علاقة مع بنوكهم، حيث يمكن أن تكون مشاركة في البرنامج النووي الإيراني، منع المؤسسات المالية من العمل في أراضيهم من خلال مكاتب وحسابات مفتوحة في إيران.
بجانب كل ذلك كانت هناك عقوبات أحادية الجانب من الولايات المتحدة الأمريكية ففي عام 1996 أصدر الكونجرس الأمريكي قانون العقوبات على إيران وليبيا، وتحت هذا القانون فرضت الولايات المتحدة عقوبتين من أصل سبع عقوبات على جميع الشركات الأجنبية التي تستثمر بأكثر من 20 مليون دولار في مجال تنمية موارد النفط في إيران، وجاءت أبرز تلك العقوبات متمثلة في «الحرمان من المساعدة في بنك التصدير والاستيراد، والحرمان من ترخيص التصدير لصادرات الشركات المعاقبة، وحظر على قروض أو ائتمانات المؤسسات المالية الأمريكية لأكثر من 10 مليون دولار لفترة 12 شهر، وحظر تصنيف تلك الشركات كتاجر أساسي لصكوك الدين الحكومي الأمريكي، ومنع خدمته كعميل للولايات المتحدة أو كمستحق للتمويل من قبل الحكومة الأمريكية، والحرمان من فرص المشتريات الحكومية الأمريكية (بما يتفق مع التزامات منظمة التجارة العالمية)، ومنع جميع أو بعض واردات تلك الشركات.
وفي يوليو 2012، أصدرت الإدارة الأمريكية قرارها بتطبيق دفعة جديدة من العقوبات على إيران متهمة إياها بالمضي قدما في تنفيذ برنامج نووي عسكري وتصدير الإرهاب، إذ تنطبق العقوبات الجديدة على منظمات عسكرية إيرانية ومصارف وأفراد، كما تم تجميد كل الحسابات الأمريكية لهذه الجهات ومنع المواطنين الأمريكيين من أي تعامل معها.
ورغم قسوة تلك العقوبات وفداحتها على الوضعين الإيراني الداخلي والخارجي، إلا أن دراسات عديدة نشرت في أوساط إيرانية مختلفة أكدت أن أصواتًا داخل الولايات المتحدة الأمريكية طالبت بضرورة فك الحظر ولو بطريقة محدودة على التعامل النفطي مع طهران، وأبرز ما جاء في ذلك الصدد تصريحات رئيس مجلس إدارة شركة «موبيل» الأمريكية الشهيرة العاملة في مجال النفط لوسيو توتو خلال اجتماع عام عقد في واشنطن تلك التي قال فيها: «إن العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران تشكل عقبات في منطقة نرغب أن يتعزز الحضور الأمريكي فيها».
كما اقترح «توتو» وقتها على السلطات الأمريكية رفع الحظر بشكل محدود على التعامل النفطي مع طهران من خلال السماح باستخدام أجهزة الحفر الإيرانية في منطقة بحر قزوين ومنح الترخيص بمقايضة النفط الخام الآتي من كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان بالبترول الإيراني».[7]
عقوبات ترامب 2018
كل تلك العقوبات أدت في مجملها إلى تدهور الوضع الاقتصادي الداخلي لإيران، فضلًا عن تدهور قيمة العملة المحلية التي فقدت أضعاف قيمتها، ولكن هناك عقوبات جديدة فرضت نفسها على الواقع الإيراني بشكل كبير جدًا، وهي تلك التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب انسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة مع طهران، والتي رعتها السداسية الدولية، فبعد أن أعلن ترامب عن انسحابه من الاتفاق النووي بدأ حزمة جديدة من العقوبات على طهران تمثلت في:
1- حظر تبادل الدولار مع الحكومة الإيرانية، إضافة لحظر التعاملات التجارية المتعلقة بالمعادن النفيسة، ولاسيما الذهب، وفرض عقوبات على المؤسسات والحكومات، التي تتعامل بالريال الإيراني أو سندات حكومية إيرانية.
2- حظر توريد أو شراء قائمة من المعادن أبرزها الألومنيوم والحديد والصلب، وفرض قيود على قطاعي صناعة السيارات والسجاد في إيران.
3- حظر استيراد أو تصدير التكنولوجيا المرتبطة بالبرامج التقنية الصناعية، ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري.
فيما تستعد الولايات المتحدة لفرض حزمة جديدة من العقوبات بدءا من يوم الاثنين الموافق 5 نوفمبر 2018 وتتعلق بفرض مزيد من القيود على قطاعي النفط والطاقة في إيران، وتتمثل في:
1- فرض عقوبات ضد الشركات، التي تدير الموانئ الإيرانية، إلى جانب الشركات العاملة في الشحن البحري وصناعة السفن.
2- فرض عقوبات شاملة على قطاع الطاقة الإيراني، وخاصة قطاع النفط.
3- فرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني وتعاملاته المالية.[8]
وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب شكّل ما سماها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف «إدارة حرب» وهو يعلن مراراً مع وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون أن الهدف من العقوبات ليس تغيير النّظام، إلا أن هذه الادارة أقدمت مؤخراً على تقديم دعم غير مسبوق لبعض فصائل المعارضة الإيرانية وتبني المجموعات التي تنادي بتغيير النظام ومنها بالطبع المعارضة الملكية ومنظمة مجاهدي خلق وجيش العدل البلوشي ومنظمات أحوازية تستهدف الاستقلال عن الحكومة المركزية في طهران، وتستثمر أخطاء إيران خصوصاً ما يتعلق بالتضييق على الحريات الاجتماعية وحقوق القوميات والأقليات.
فيما تختلف العقوبات الأخيرة التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران عن سابقاتها في أنها وإن كانت أحادية، لا تحظى بتأييد أوروبي ولا أممي ومعظم دول العالم، عدا إسرائيل وعدد من الدول الإقليمية، إلا إنها تتوافق مع أزمات إيرانية داخليّة، ومظاهرات تتكرر هنا وهناك احتجاجاً على سوء الأوضاع الاقتصادية والبطالة وهبوط الريال الإيراني بشكل حاد، ما يجعل البعض خصوصاً في المعارضة المقيمة في الخارج، يعول عليها لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية.[9]
الأمر الأخر يتمثل فيما وصل له الوضع الاقتصادي الداخلي مقارنة ما كان عليه في عقوبات ما قبل الاتفاق النووي، حيث تدهورت العملة المحلية الإيرانية الان حتى أصبح الدولار الواحد يوازي أكثر من 100 ألف ريال إيراني، فيما كان قبل ذلك وبالتحديد في عام 2011 وكان الدولار يساوي 9200 ريال إيراني، لكن تشديد العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي اعتبارا من نهاية 2011، أدى إلى تراجع العملة الإيرانية، إلى أن وصل إلى 47800.
وفي كل الأحوال فإن ما حدث من عقوبات سواء تلك التي فرضت عقب احتلال السفارة الأمريكية أو حتى ما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية أظهرت مدى ضعف الجهات التنفيذية وعدم قدرتها على مواجهة تلك الضغوط الاقتصادية المقصودة، فضلًا عن أن النظام الإيراني لم يجد حلًا واقعيًا لمواجهة تلك العقوبات إلا الحديث الدائم عن أن تلك العقوبات لن تؤثر بأي حال من الأحوال على المجتمع الإيراني الداخلي، وتظهر تلك التطمينات الدائمة في خطب المسؤولين وعلى لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الإيرانية على خامنئي نفسه فضلًا عن تطمينات الرئيس حسن روحاني.
بالإضافة إلى ذلك لم يتخذ النظام الإيراني أية ضمانات من أجل الحد من أثر تلك العقوبات خاصة وأن المدن الإيرانية أصبحت تعج بالتظاهرات المناهضة للنظام، بسبب أثر تلك العقوبات حتى رفع المتظاهرون أصواتهم بهتافات «الموت لروحاني» و«الموت لخامنئي».
الأمر الأخر والمتمثل في مدى الضعف الأمني الذي وصل له الجهاز الأمني الإيراني المتمثل في الحرس الثوري، بعد حادث المنصة الشهير، الذي راح ضحيته أكثر من 40 شخصا خلال هجوم مسلح على عرض عسكري في منطقة الأحواز بحضور الرئيس حسن روحاني، يدلل على مدى الانهيار والضعف الكبير الذي أصبح يعاني منه الجهاز التنفيذي الداخلي ومراكز صناعة القرار داخل النظام الإيراني.
كل تلك الشواهد تؤكد على أن النظام الإيراني لم يفلح في التصدي للمجتمع الدولي لا فيما سبق ولن ينجح فيما بعد، في ظل التدهور الشديد للعملة المحلية، وفي ظل الحصار الاقتصادي الشديد على الدولة الإيرانية، ومنعها من تصدير النفط الذي يمثل 60% من إجمالي ناتج الدخل القومي الإيراني، على الأقل.
المستوى الثالث:
خيارات إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية
يمكن تقسيم مدى فهم ونجاح إيران في الالتفاف على العقوبات التي فرضت عليها من قبل سواء في عقوبات ما قبل الاتفاق النووي أو حتى عقوبات ما بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي في مايو الماضي وما سيعقب ذلك من إجراءات صارمة قد تفرضها الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي فيما يخص الحد من صادرات إيران من النفط، إلى قسمين:
أولًا: سياسات إيران لمواجهة عقوبات ما قبل الاتفاق النووي
عقب الأزمات الطاحنة التي منيت بها إيران في أعقاب العقوبات الاقتصادية التي طبقتها الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترات السابقة على توقيع خطة العمل الشاملة أطلقت طهران خطة ترشيد البنزين في إيران في عام 2007 من قبل مجلس وزراء حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد لتقليل استهلاك الوقود، على الرغم من أن إيران هي واحدة من أكبر المنتجين في العالم للنفط، إلا أن التزايد السريع على طلبه والسعة المحدودة للتكرير أجبرت الدولة على استيراد ما يقرب من 40% من احتياجها من البنزين، بتكلفة سنوية تصل إلى 7 مليارات دولار.[10]
في بداية تطبيق الخطة عانى المواطنون في إيران بعض الشيء من سطوة تلك الإجراءات الاقتصادية الصعبة على المجتمع الداخلي إلا أن الحكومة الإيرانية كانت تأمل في أن يكون الحد من واردات البنزين سيساعد في تحرير البلاد من الضغوط الدولية المتعلقة ببرنامجها النووي.
وفي ذلك الوقت اتخذت إيران إجراءات للحد من اعتمادها على البنزين من الدول الأجنبية من خلال استراتيجية تشمل توسع كبير في طاقة التكرير بإيران وتأمين واردات البنزين من حلفاء غير معادين، وتقليل استخدام البنزين، وتطوير نظام النقل العام.
جاءت اللجنة الخاصة التي شكلتها الحكومة ببرنامج من أربع نقاط والذي يشمل:
1- تحويل معظم السيارات الموجودة لتعمل بالغاز الطبيعي بمعدل 1.2 مليون سنويًا في غضون خمس سنوات. وسيبدأ بتحويل 600000 سيارة من السيارات العامة والحكومية إلى سيارات تعمل بالغاز الطبيعي.
2- التخلص التدريجي من السيارات القديمة (حوالي 1.2 مليون) بحلول عام 2010.
3- بداية من يونيو 2007، يجب أن تكون معظم السيارات المصنعة حديثًا قادرة على العمل بالغاز الطبيعي.
4- في غضون خمس سنوات سوف يتم تحديث وتعديل معظم محطات التزود بالوقود في إيران والبالغ عددها 10000 محطة لتقدم الغاز الطبيعي.
وفي تلك الأثناء قامت الحكومة الإيرانية بتقديم حوافز لمشتريي السيارات التي تعمل بالغاز الطبيعي المضغوط، وقللت في الوقت نفسه من دعم البنزين، حيث تعتبر إيران مصنعًاً رياديًا للسيارات في الشرق الأوسط.
ففي عام 2005، أنتجت شركات صناعة السيارات الإيرانية ما يقرب من مليون سيارة من بينها 884000 سيارة ركاب و104000 من السيارات الثقيلة، بقيمة 11.6 مليار دولار.
وعلى تلك الأسس بدأت الحكومة في تطبيق تلك القيود وقد تم وضعها لتستمر لمدة أربعة أشهر، والتي من خلالها يتم السماح لنظام الترشيد لسائقي السيارات الخاصة بالتزود بـ100 لتر (26 جالونًا) فقط من الوقود شهريًا بالسعر المدعم، وتحصل سيارات الأجرة على 800 لتر (211 جالونًا) شهريًا، وفيما عدا ذلك، سيباع الوقود بسعر أعلى.[11]
ثانيًا: سياسات إيران لمواجهة عقوبات ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي
1- استخدام عملة البيتكوين
في يوليو من العام الجاري أعلنت طهران عن استخدام العملة الرقمية «البيتكوين» في تعاملاتها المالية العالمية بعد العقوبات المالية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانسحاب الأحادي الجانب من الاتفاق النووي مطلع مايو الماضي، إلا أن ذلك الإجراء الذي أعلنت عنه الجهات التنفيذية في إيران لم يلق رواجًا ولا قبولًا بسبب عدة اعتبارات أبرزها أن البيتكوين مجرد عملة رقمية افتراضية ليس لها أي غطاء مالي ولا تعترف بها البنوك العالمية التي سرعان ما أصدرت بيانات عاجلة تفيد بعدم اعترافها بتلك العملة الافتراضية، حتى أن البنك المركزي الإيراني أصدر بيانًا في شهر إبريل الماضي وقبل شهر واحد فقط من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي يحظر التعامل بالعملات المشفرة بما فيها البيتكوين، بسبب مخاوف تتعلق بغسل الأموال في الوقت الذي تسعى فيه إيران لإنهاء أزمة العملة[12].
وبعد اعتراف إيران بتعدين العملات الرقمية كصناعة في البلاد، تشير التقارير إلى أن سعر البيتكوين في بعض البورصات المحلية مثل Exir بلغ ذروته بأكثر من 24,000 دولار، متجاوزًا المتوسط العالمي المرتفع على الإطلاق الذي بلغ 20000 دولار في ديسمبر الماضي، بينما كانت الأسعار في أماكن آخرى أمس الأربعاء حوالي 7,000 دولار.
فشلت الحكومة الإيرانية في ذلك المسعى بسبب عدة أوجه وهي:
أ – العملات الرقمية وعلى رأسها البيتكوين تعد سوقا ضخمة لتحويل الأموال والتبادل التجاري بعيدا عن أعين المصارف الدولية.
ب – العملات الرقمية وضعت أساسا لتكون بديلا عن العملات التي تتحكم بها الحكومات ما يعني مزيدا من الانهيار للعملة والاقتصاد الإيراني سيئ السمعة.
ج – ستصبح إيران البلد الوحيد في العالم الذي يستعين بالعملات الرقمية بشكل علني للقيام بعمليات غسيل أموال دولية.
د – ارتفع سعر البيتكوين في الجمهورية الإسلامية بحوالي 40 في المئة في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وارتفع أسرع بكثير من المتوسط العالمي ما زاد من نسبة التضخم الاقتصادي الذي تحاول إيران أن تتفاداه بكل تلك الإجراءات.
ه – ازداد الانهيار في سعر العملة المحلية الإيرانية “الريال” ما دعا طهران إلى التراجع عن قرارها بتداول تلك العملة مرة أخرى.
2- النفط مقابل البضائع
كانت تلك هي الاستراتيجية الثانية التي اعتمدت عليها طهران في الالتفاف على العقوبات الأمريكية من خلال التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي الذي سبق وأعلن عن رفضه للإجراء الأمريكي الخاص بالانسحاب الأحادي الجانب من الاتفاق النووي، حيث تم الإعلان في سبتمبر الماضي عن إنشاء «كيان قانوني» بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي عقب اجتماع ضم ممثلين عن بريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا وإيران، يهدف إلى تسهيل المعاملات المالية القانونية مع إيران في ظل العقوبات الأمريكية.
وتهدف تلك الاستراتيجية إلى أنه إذا باعت إيران نفطا إلى إسبانيا مثلا وباعت ألمانيا أجهزة إلى طهران، فإن عائدات الشحنة النفطية تستخدم في دفع المبلغ المترتب للشركة الألمانية، وهذه الآلية – من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي – تحصن الشارين والبائعين عبر تجنب صفقات بالدولار يمكن أن تفتح الباب لعقوبات أميركية، حيث سيكون النفط هو المقابل الوحيد الذي يمكن لإيران تقديمه.[13]
تمثل تلك الاستراتيجية إحدى المحاولات للهروب من المأزق الأمريكي الذي تابع تلك الإجراءات بمزيد من الحذر وأكد على أنها إجراءات غير بناءة كما وصفها برايان هوك المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون إيران، خاصة وأن كافة المقايضات الدولية تتم من خلال العملة الأمريكية «الدولار» – طبقًا لاتفاقية بريتون وودز[14].
فشلت هذه الاستراتيجية بسبب التهديدات الأمريكية المتلاحقة لكل من يبادر بدعم إيران بأنه سيتم توقيع عقوبات اقتصادية لا تستثني الولايات المتحدة الأمريكية منها أحد لكل من يتعامل مع إيران ويمكنها من الالتفاف على العقوبات الأمريكية.
3- تصدير النفط قبل توقيع العقوبات
حاولت طهران الإسراع في تصدير أكبر كمية من النفط إلى الدول التي سبق ووقعت معها بروتوكولات تصدير ومنها الصين، حيث أفاد مصدر ملاحي إيراني بأن كمية غير مسبوقة من النفط الإيراني ستصل إلى ميناء داليان بشمال شرق الصين هذا الشهر وفي أوائل نوفمبر قبل أن تدخل العقوبات الأمريكية على إيران حيز التنفيذ المقرر لها الرابع من نوفمبر، حيث شحنت شركة الناقلات الوطنية الإيرانية أكثر من 20 مليون برميل من النفط إلى داليان الصيني، وهي كمية غير مسبوقة لنسبة الصادرات الإيرانية إلى الصين[15].
وسبق لإيران أن خزنت النفط في داليان خلال الجولة السابقة من العقوبات في 2014، حيث جرى بيعه لاحقا إلى مشترين في كوريا الجنوبية والهند، وتضم داليان بعض أكبر مصافي التكرير ومنشآت تخزين النفط التجارية في الصين، حيث تستهدف إيران الإسراع بتصدير أكبر كمية من النفط قبل توقيع العقوبات الأمريكية عليها في الرابع من نوفمبر المقبل، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية تستهد أن يبلغ حصيلة إيرادات إيران من النفط «صفر» بمجرد توقيع العقوبات التي ستؤدي إلى كارثة محققة حال تنفيذ ذلك الإجراء نظرًا لاعتماد الميزانية الإيرانية على تلك الصادرات النفطية التي تقدر بـ 60 % من الدخل الإيراني النقدي.
جملة القول أن إيران فشلت في كل المحاولات التي تشبثت بها من أجل الهروب من الضغط الأمريكي الكبير على الاقتصاد الداخلي أو التعاون الدولي بين إيران ودول الجوار أو الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد العزلة الدولية التي وضعت طهران فيها بفعل العقوبات الأمريكية، لكن الداخل الإيراني يشهد مزيدًا من الأزمات الطاحنة في ذلك الوقت بالتحديد، حيث لم تعاني إيران من سطوة تلك العقوبات فيما سبق.
وذلك لعدة أسباب أهمها:
1- لم يصل تدهور العملة المحلية في العقوبات السابقة إلى هذا الحد الذي أوصل الدولار الواحد حاليًا لأكثر من 170 الف ريال خلال الشهر الجاري.
2- خسرت العملة المحلية أكثر من 76 % من قيمته خلال عام واحد فقط.
3- لم تكن قد وصلت نسبة التضخم في إيران إلى هذا الحد حتى وصل خلال الشهر الحالي إلى 31.4% وهي نسبة غير مسبوقة طبقًا للمؤشر الاقتصادي العالمي.
4- لم تصل الحالة الأمنية للحرس الثوري إلى هذا الحد من التدهور والخلل الذي أدى إلى حدوث حادث المنصة الشهير الذي راح ضحيته أكثر من 40 شخص من قوات الحرس الثوري في عرض عسكري بالأحواز بحضور حسن روحاني نفسه.
5- حالة الغليان الداخلي من الإجراءات الاقتصادية الصعبة للنظام الإيراني ومدى القمع الأمني للمتظاهرين الذين خرجوا في تظاهرات عارمة في أكثر من 150 مدينة إيرانية تنادي لأول مرة بـ«الموت لروحاني» و«الموت لخامنئي».
6- انخفاض القدرة الشرائية للعمال بنسبة 90% خلال الأشهر الستة الماضية.
7- القفزة الجنونية في أسعار السلع والمواد الغذائية، بين 50% و100% وفقا للأرقام الرسمية ما دفع بالحكومة أن تفكر في توزيع 10 ملايين بطاقة تموينية بقيمة 7 دولارات شهريا على المواطنين وسط انتقادات بأنه إجراء غير كاف ولا يحل الأزمة المعيشية.
المستوى الرابع:
مستقبل العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية في ضوء العقوبات
بعد أن وصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى كرسي الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية بعد فوزه في الانتخابات السابقة، بدأت الأنظار تتجه إلى طبيعة العلاقة الأمريكية ـ الإيرانية، خاصة أن ترامب وعد خلال برنامجه الانتخابي بضرورة إعادة النظر في الاتفاق الذي أبرمته الإدارة الأمريكية السابقة مع طهران بخصوص البرنامج النووي الإيراني، حيث رأى ترامب أن هذا الاتفاق ينقصه العديد من القضايا التي يجب إدراجها ضمن الاتفاق بعيدًا عن «النووي الإيراني»، والتي حددها ترامب في تطوير إيران لمنظومة الصواريخ الباليستية ودعمها لميليشيات تابعة لها تنتشر في منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد في اليمن والعراق ولبنان وسوريا وغزة، ولذلك وبعد أن خرج ترامب من الاتفاق النووي لتهذيب السلوك الحكومي الإيراني فإنه يجب النظر إلى السيناريوهات المحتملة التي سيمكن من خلالها تحديد العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في الفترة المقبلة في ضوء تنفيذ الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية القاسية على طهران من عدة أوجه تتمثل في:
1- إعادة التفاوض
قد تجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنه من الضروري العودة مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات خوفًا على أركان النظام الإيراني الذي دخل مرحلة الانهيار التدريجي، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت في وقت سابق استعدادها للتفاوض مرة أخرى مع النظام الإيراني وبدون شروط، كما حاول وزير خارجية سلطنة عمان يوسف بن علوي التوسط لدى الطرفين لرأب الصدع عقب انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، وهو ما رفضته طهران بقوة بسبب عدم الثقة في الإدارة الأمريكية الجديدة التي انسحبت من الاتفاق النووي.
وتطلب الولايات المتحدة لكي تعود إلى التفاوض مرة أخرى حول الاتفاق النووي ضرورة اتخاذ طهران مواقف غير متعارضة مع توجهات السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، مثل توقف إيران عن دعم الجماعات المسلحة، والتجاوب مع مفتشي الوكالة الدولية بشكل كامل وتوقف برامج تطوير الصواريخ الباليستية، ودعم توجهات واشنطن في إيجاد حل للقضية الفلسطينية[16]، وبذلك تضمن الولايات المتحدة الأمريكية عدم وجود أي قوة في الشرق الأوسط قد تعرقل من تحركات الولايات المتحدة في القضايا الخاصة بالاستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لذلك فقد يرى البعض أن الإجراءات الأمريكية مجرد مراوغة لترويض النظام الإيراني فقط.
2- التصعيد الأمريكي ضد إيران
بدأ التصعيد بين طهران وواشنطن بالفعل قبل ساعات من إعلان الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من الاتفاق النووي، وهو ما جعل الرئيس الإيراني حسن روحاني يعقد مؤتمر صحفيًا للرد على ذلك الموقف الأمريكي الذي وضع الاقتصاد الإيراني على حافة الهاوية بسبب العقوبات الاقتصادية التي أعلنت عنها الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى التصريحات العدائية بين الطرفين فور خروج ترامب من الاتفاق النووي مباشرة، حيث تتمثل أبرز تلك التصريحات في أن الحرس الثوري الإيراني أعلن عن غلق مضيق هرمز في حال عرقلة الولايات المتحدة الأمريكية توريدات النفط الإيراني، وهو ما جعل قائد القيادة المركزية الأمريكية يهدد بالدخول في مواجهة مباشرة مع قوات الحرس الثوري المتمركزة في منطقة البحر الأحمر في حال تحركت قوات الحرس لتنفيذ تهديدها، كما هدد الحرس الثوري على لسان قائد فيلق القدس قاسم سليماني باستهداف القواعد الأمريكية المتمركزة في تلك المنطقة أيضًا في حال استمرارها في الضغط على طهران وتقويض الجمهورية الإسلامية اقتصاديًا ودوليًا، وهو ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تدرج الحرس الثوري وتنظيماته على قوائم الإرهاب.
3- حرب باردة
تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن المواجهة المسلحة قد تضعها في موقف لا تحسد عليه، وقد تتشابه تلك التجربة مع التجربة العراقية، لذا قد تتمحور الاتجاهات الأمريكية ـ الإيرانية حول الحرب الباردة التي قد ينتهجها الطرفان عقب تطبيق الولايات المتحدة الأمريكية مزيد من العقوبات، وقد تتمثل المرحلة الحالية بين الطرفين في هذا السيناريو الذي يقوم على العداء الصريح في التصريحات والإجراءات الأمريكية الصارمة، والعنترية الإيرانية في مواجهة الغطرسة الأمريكية والإجراءات الاقتصادية التي تحد من نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل التمويل المالي لميليشيا حزب الله في لبنان، والحوثي في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وغيرها من التنظيمات المسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني.
وقد رأت الولايات المتحدة ضرورة استخدام قدرتها على الحشد الدولي ضد طهران، فضلًا عن العقوبات القاسية على الاقتصاد الإيراني بدلًا من خيار المواجهة المسلحة، الذي جعلته فقط مجرد تهديد على التهديدات الإيرانية المتعلقة بتهديدات الحرس الثوري ضد القواعد الأمريكية وإغلاق مضيق هرمز.
خاتمة
تبدو للوهلة الأولى أن نسبة العقوبات التي طبقها المجتمع الدولي على إيران في الفترة ما بعد 1979 وحتى ما قبل توقيع الاتفاق النووي كانت أكبر بكثير ووقعها أكبر من الحزمة الأولى التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية عقب الانسحاب الأمريكي الشهير من الاتفاق النووي، وانتظار العالم للحزمة الثانية المتعلقة بالنفط، والتي قد تؤدي ـ طبقًا للتقديرات الاقتصادية ـ إلى أزمة طاحنة قد يعاني منها النظام، بمعنى أن النظام الإيراني الحالي يعيش أزمة وجود تتعلق ببقائه.
وبالرغم من أنه لم تطبق إلا حزمة واحدة من العقوبات الأمريكية وتنتظر إيران الحزمة الثانية، إلا أن تلك الحزمة أوصلت إيران إلى أزمة كبيرة حيث تدهورت العملة المحلية إلى درجة غير مسبوقة، وخسرت أكثر من 76% من قيمتها كما أسلفنا الذكر، بالإضافة إلى زيادة نسبة التضخم، الذي لم تستطع الحكومة مواجهته في الفترات الماضية، ناهيك عن الخلل الأمني الذي يعاني منه النظام الداخلي وصفوف الحرس الثوري الحارس الأمين على النظام، فضلًا عن الأزمات الاقتصادية الداخلية للمجتمع الإيراني الذي خرج في تظاهرات عارمة نادت بتحسن الأحوال أو رحيل النظام، الذي فشل في مواجهة الزيادة الكبيرة لأسعار السلع الغذائية الهامة والأساسية، وبالتالي أية أزمة صغيرة تتعلق بالاقتصاد أصبحت أيضًا تتعلق بالسياسة وبمدى بقاء النظام الحالي الذي يعاني من كارثة محققة حاليًا وسيعاني أيضًا من أزمة وجود حال فرض العقوبات النفطية في الرابع من نوفمبر المقبل.
ـــــــــ
[1] أئمة الشر.. «ثروت الخرباوي» – دار نهضة مصر – الطبعة الأولى 2013 – ص 33
[2] د. أكرم حجازي – المربط الصفوي: مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية – دراسة نقدية – مركز المراقب للدراسات والأبحاث الاجتماعية – 2016 https://bit.ly/2mVtoID
[3] المرجع سابق.
[4] وثائق سرية فجرت غضب خامنئي ضد لندن وواشنطن.. هل كانت ثورة الخميني أميركية؟ – موقع إيلاف – 03 يونيو 2016 – https://bit.ly/2OrrUHo
[5] د. عبد الله محمد الغريب – وجاء دور المجوس الأبعاد التاريخية والعقائدية والسياسية للثورة الإيرانية – الطبعة الرابعة – 1985 – ص 232
[6] ولاية الفقيه – الخميني – ص 142 – 143
[7] محمد صادق الحسيني – إيران سباق الإصلاح من الرئاسة إلى البرلمان – الطبعة الأولى – يناير 2001 – ص 74
[8] روسيا اليوم – تفاصيل العقوبات الأمريكية على إيران – https://bit.ly/2EoPEqW
[9] نجاح محمد علي – العقوبات الأمريكية على إيران: الضربة التي لا تقتلك تقويك – مقال صحفي – القدس العربي – 11 – أغسطس – 2018 – https://bit.ly/2CJHqrF
[10] Iran bans negative petrol stories – 28 june 2007 – bbc news – http://news.bbc.co.uk/2/hi/middle_east/6249222.stm
[11] Public resentment with Ahmadinejad grows over fuel rationing, rising prices – Herald Tribune – June 29, 2007 – https://bit.ly/2PKSasJ
[12] – البنك المركزي الإيراني يحظر التعامل بالعملات المشفرة – الحياة اللندنية – ابريل 2018 – https://bit.ly/2NQTGaZ
[13] الاتحاد الأوروبي ينشئ نظام مقايضة للالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران – فرانس 24 – 25 سبتمبر 2018 – https://bit.ly/2Dqf470
[14] اتفاقية تأسيس النظام المصرفي العالمي – بريتون وودز 1944- https://www.imf.org/external/pubs/ft/aa/ara/index.pdf
[15] إيران تراوغ للالتفاف على العقوبات الأمريكية – روسيا اليوم – 18 أكتوبر 2018 – https://bit.ly/2CwzFof
[16] منصور أبو كريم – مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية في ضوء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إيران – المركز الديمقراطي العربي https://democraticac.de/?p=50869