تسببت العقوبات الأمريكية المفروضة مؤخراً على إيران وتركيا، في خلق حالة من الجدل بشأن تدهور الوضع الاقتصادي للبلدين، ومستقبل الدولتين الملبد بالغيوم في حيزي المال والاجتماع، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه الدولتان إقليميا في إطار صراعات منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في سوريا واليمن والعراق وفلسطين ولبنان ولييبا.
بين المجد والثأر
فبين المجد العثماني الذي يحلم أردوغان باستعادته والثأر الطائفي الذي تسعى إيران إليه، تلتقي مصالح البلدين إلى خارج حدودهما الجغرافية، في ظل تشابك مناطق النفوذ بينهما، إذ بلغت العلاقات الثنائية بينهما ذروتها، في العديد من المجالات العسكرية والتجارية والسياسية، حيث تقدم تركيا موقفا داعما غير مسبوق لحليفتها إيران، لإنقاذ اقتصادها، وهو الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات بشأن الأهداف التي ترغب تركيا في تحقيقها من وراء التضحيات التي تقدمها لطهران.
لم يكن من السهل على تركيا أن تقوم بهذا الموقف المتمرد تجاه حليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، إذ خرجت تعلن بقوة أنها لن تخضع للتهديدات الأمريكية وتتراجع بالتالي عن صفقة “إس 400” الروسية التي ستتسلمها العام المقبل، كما أنها لن تلتزم بالعقوبات الأمريكية التي ستفرض حظرا على استيراد النفط من إيران، وستتحرك وفقا لمصالحها الاقتصادية، فإيران دولة جارة، وشريك اقتصادي مهم بالنسبة لها من وجهة نظر صانعي القرار بأنقرة بطبيعة الحال.
وهذا يعني في أحد مضامينه أن تركيا رأت في خسران حليف كأمريكا مكاسب أخرى من خلال الدعم الذي تقدمه لإيران، إذ إن تركيا لم تعد تعول كثيرا على علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وباتت تتجه شمالا نحو روسيا، وشرقا نحو العراق وإيران والصين والهند، فإيران شريك تجاري ضخم لها، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين حوالي 11 مليار دولار سنويا، وجرى الاتفاق على رفعه إلى 35 مليار دولار في السنوات الأربع المقبلات.
دوافع العلاقات بين البلدين
التناقض الذي تشهده العلاقات التركية الإيرانية بين الماضي المقطوع والحاضر الموصول، يحفل بعدة مفارقات يمكن إبرازها على النحو التالي:
أولا: الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلقت حالة من التقارب والتحالف بين ضحاياه، فبعد أن أطلق حملة عقوبات عصفت بالعملة التركية من خلال تعقيدات متعلقة بالتعريفات على صادرات الصلب والألومنيوم، وأعاد فرض العقوبات على إيران فهبط الريال الإيراني وتنتظر طهران تدهورا أشد مع بدأ الحظر النفطي بدايات نوفمبر المقبل، وكذلك انخفضت قيمة الروبل الروسي أكثر، كما فرض تعريفات صارمة على الصادرات الصينية، ومازال يحاول استنزاف القوى الاقتصادية لكوريا الشمالية بهدف تركيعها.
يمكن الخروج من هذا بأن سياسة العقوبات التي تتبعها الولايات المتحدة قد تدفع الدول المتضررة اقتصاديا من هذه العقوبات إلى تشكيل حلف اقتصادي جديد في الشرق الأوسط، خاصة بين تركيا وإيران وروسيا والصين والهند، وفي هذه الحالة ستكون تركيا قد ربحت رهانها على إيران، وتخلصت من التحكم الأمريكي في اقتصادها، إذ تسعى أنقرة إلى إخضاع أمريكا أمام قوة هذا التحالف الاقتصادي، وفي هذة الحالة ستعاد هيكلة موازين القوى وفقا لمصالحها.
ثانيا: الانهيارات الاقتصادية التي تعانيها طهران وأنقرة، كانت سببا للتقارب بين البلدين، إذ إن تركيا تعيش حالياً أسوأ أزمة اقتصادية في العقد الأخير، وسقوط الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، حيث انخفض سعرها مقابل الدولار منذ مطلع العام الحالي حوالي 20%، وارتفاع الدين الخارجي لـ400 مليار دولار.
في هذه الحالة فضلت أنقرة الوقوف بوجه ترامب ومعارضته ومساندة طهران في مقابل التمتع بالأموال الإيرانية وتطوير العلاقات التجارية، حيث بلغ حجم التبادل بين البلدين خلال سبتمبر الماضي أكثر من 899 مليون دولار.
ويسعى البلدان إلى رفع حجم التبادل التجاري فيما بينهما إلى 30 مليار دولار، بدلا من 20 مليار دولار حاليا، غالبيتها لسد احتياجات أنقرة من الغاز الطبيعي الذي يستخدم في إنتاج نحو 40% من الكهرباء في تركيا.
ثالثا: الأسباب الحقيقية التي دفعت بالعلاقات التركية الأمريكية إلى هذا المنحدر برغم تعدد المصالح المشتركة بينهما، ليس كما هو معلن بسبب رفض الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته التهديدات الأمريكية في حالِ إقدام حكومته على إكمال صفقة شراء صواريخ “إس 400” الروسية، وإنما بسبب دعم أمريكا لقوات الحماية الشعبية الكردية، وحزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السياسي لأكراد سوريا، وهو نفسه سبب وفاق أنقرة وطهران للتخلص من أزمة الأكراد.
وفي السنوات الأخيرة، حوّلت تركيا تركيز جهودها الأمنية نحو التهديد الكردي، المتمثل في حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي، حيث حاول الأكراد تأسيس دولة كردية في الأراضي السورية على طول خط الحدود التركية تضم الأكراد الترك، بعد أن رسم أكراد العراق دولتهم القادمة شمالي العراق، تضم أكراد إيران.
منذ ذلك الوقت وحتى الآن تحرص تركيا على تعزيز علاقتها بطهران للاستقواء بها على الأكراد والدعم الأمريكي لهم، إذ بدء تعاون مشترك بين البلدين ضد المسلحين الأكراد في منطقتي قنديل وسنجار في شمال العراق لاستئصال أي نفوذ كردي.
رابعا: في العراق وسوريا، يبقى جزء من العلاقات بين أنقرة وطهران قائم على مخاوف أردوغان من النفوذ الإيراني ومدى تأثيره على مصالحه الإقليمية، لذا كانت العقوبات الأمريكية هى بوابة أردوغان للتقرب أكثر من إيران وإثبات ولائه لهم من خلال دعمهم اقتصاديا.
وتعتبر تركيا أن إيران تحاول أن تفرض هيمنتها في البحر المتوسط في العراق وسوريا ولبنان من خلال المجموعات الشيعية؛ لذا قررت أنقرة تبديل موقفها تجاه إيران، بالإنضمام إليها في محادثات أستانة حول الصراع السوري، بعد أن حاربت الميليشيات الشيعية المؤيدة لإيران في عفرين وإدلب، ولكنها أدركت أن إيران تفوقها قوة ونفوذا.
ومؤخرا تحاول تركيا استثمار صداقتها مع إيران للسيطرة على مدينة إدلب وتقوية نفوذها في الشمال السوري، معتمدة على الميليشيات الإيرانية التي توغلت في الشمال السوري.
خاتمة
تبدو الأسباب التي دعت تركيا إلى عدم الالتزام بالعقوبات الأمريكية الاقتصادية على إيران كثيرة، وأكثر من أن تحصى، خاصة إذ تم النظر بعين الاعتبار إلى تعقيدات العلاقات التاريخية والآنية بين أنقرة وطهران والدول الإقليمية الدائرة في فلكهما، فضلا عن سياسات البيت الأبيض التي إلى جانب شدتها وحزمها إلا أنها تجمع الأضداد في قوالب واحدة تحاول تشكيل جبهة ما للحد من تأثير العقوبات الأمريكية العامة على تلك البلدان.