نظم السفير الأفغاني بالقاهرة فضل الرحمن فاضل احتفالية يوم الإثنين الموافق أغسطس الجاري بحديقة الحرية بالزمالك لإزاحة الستار عن تمثال جمال الدين الأفغاني بمناسبة ذكرى مرور مئة وثمانين عاماً على مولده، وتسعين عاماً على توقيع معاهدة المودة والصداقة بين مصر وأفغانستان. وحضر الحفل نائب محافظ القاهرة، ورئيس جمعية الصداقة المصرية ـ الأفغانية، ومساعد وزير الخارجية الأفغاني للشئون الثقافية، ومستشار وزير الثقافة والإعلام الأفغاني، ولفيف من أساتذة الجامعات المصرية والإعلاميين.
بهذه المناسبة، رأيت أنه من الضروري الإشارة إلى الدور المهم والفعال الذي قام به جمال الدين الأفغاني ليقظة الشعب الإيراني في أكثر العهود ظلماً واستبداداً، ألا وهو عصر ناصر الدين شاه الملك القاجاري الذي حكم في الفترة من 1848 حتى 1896م.
فقد وجه الدعوة إلى جمال الدين لزيارة إيران عام 1866م بعدما ذاع صيته في أوربا، واحتفى باستقباله في طهران، وجعله مستشاراً خاصاً له، لكن على عكس ما توقع الشاه، راح الأفغاني يبذر بذور الحرية والفكر الثوري، وتحدث في كل محفل حول ضرورة الإصلاح، ومحاربة الفساد، والقضاء على الاستبداد، وحرية الفكر والقلم، وحتمية معرفة القانون، والمطالبة بالحقوق وفقاً للدستور، الأمر الذي أدى إلى تغير الشاه من ناحيته، ما أفضى بجمال الدين إلى طلب الهجرة عن إيران، وتوجه منها إلى روسيا، وهناك كانت الفرصة سانحة لشن الهجوم على نظام الحكم في إيران.
بعد فترة، وتحديداً في عام 1889م، التقى الشاه ثانية بجمال الدين في ميونخ، وسعى بنفسه لإزالة أسباب الخلاف بينهما، ونظراً لعلمه بعلاقات الأفغاني الجيدة مع صناع القرار في البلاط الروسي، كلفه بمهمة لصالح إيران في روسيا لبحث بعض الأمور الشائكة بين البلدين، وبعدها عاد الأفغاني إلى إيران عام 1890م، إلا أن الشاه تجاهله هذه المرة، وغيّر موقفه من مهمته، فما كان من الأفغاني إلا أن استأنف نشاطه السياسي، وركّز جهوده في تلك الفترة على ثلاثة محاور، وهي:
1 ـ مقاومة الظلم والاستبداد والمطالبة بإقامة حكم دستوري.
2 ـ مقاومة التدخل الأجنبي المتزايد وإثارة الوعي القومي.
3 ـ دعوة الإيرانيين إلى الاتحاد مع الأفغان.
وازداد الوضع سوءاً بينه وبين الشاه بعد قيامه بتدوين دستور لإيران، يجعلها دولة ذات حكم نيابي، تتحدد فيه سلطة الشاه، وتزداد قوة الشعب بواسطة نوابه في مجلس الشورى الوطني. وخشي الشاه من ضياع هيبته، ورأى رجال بلاطه في وجود الأفغاني خطراً يهددهم، فجعلوا يألبون الشاه ضده ويحثونه على قتله، ما أدى إلى مغادرة الأفغاني طهران، ولجوئه إلى ضريح الشاه عبد العظيم.
هناك، تبعه عددٌ غفير من العلماء والأدباء، وكان يخطب فيهم ويحثهم على إصلاح نظام الحكم، كما أبرق إلى رجال الدين في ولايات إيران المختلفة ينتقد سلوك الشاه، والنفوذ الأجنبي والتطاول على حقوق المسلمين، ودعاهم إلى توحيد كلمتهم لمجابهة الفساد حتى لو اقتضى الأمر خلع الشاه.
كما قام عددٌ من أتباعه بكتابة المنشورات وتوزيعها، ما دفع الشاه إلى إرسال جنده لطرده من ضريح الشاه عبد العظيم ونفيه خارج البلاد. وتمكن رجال الدين المتأثرون بفكره من جذب تأييد طبقة التجار بعد أن أحاطوهم علماً بمخاطر الامتيازات الأجنبية على التجارة الإيرانية، وأفضى ذلك إلى وجود تحالف ظل قائماً بين طبقة العلماء من رجال الدين وطبقة التجار طيلة فترة الصراع الذي انتهى بإعلان الحكم النيابي في إيران عام 1906م.
من البصرة، كتب الأفغاني رسالته الشهيرة إلى مرجع تقليد الشيعة آنذاك ـ آية الله الحاج ميرزا حسن الشيرازي ـ فضح فيها نظام الحكم في إيران، وما جلبته سياسة الشاه من فقر ومعاناة على الشعب الإيراني وتزايد النفوذ الأجنبي في أرجاء البلاد.
الحق أن هذه الرسالة كانت دافعاً قوياً لميرزا حسن الشيرازي كي يصدر فتواه الشهيرة بتحريم الدخان، وبالتالى دفع العامة إلى القيام بثورة عارمة، مطالبين بإلغاء منح الامتياز إلى أحد المسئولين الإنجليز، وأجبرت هذه الثورة الشاه على إلغاء الامتياز، وتهيأ الشعب للقيام بثورة أعظم في سبيل نيل حريته، وبذلك أنقذ الأفغاني إيران من مقدمات الاحتلال الانجليزي عن طريق هذا الامتياز.
في عام 1891م، توجه السيد جمال الدين إلى لندن، وهناك استأنف نشاطه ضد سياسة الشاه وصدره الأعظم، وندد بسلوكهما في المملكة، وما آل إليه حال البلاد في عهدهما، وقام بإصدار صحيفة “ضياء الخافقين” باللغتين العربية والإنجليزية، كثف في مقالاتها الحديث حول الأوضاع في فارس، والتنديد بالشاه وحاشيته، ما أدى إلى تكوين انطباع سيئ لدى الرأي العام في لندن عن نظام الحكم في إيران، وهذا ما أثار الشاه فسعى لإقناع الحكومة البريطانية بمصادرة الصحيفة.
لم يقف جمال الدين مكتوف الأيدي أمام هذا الأمر إذ أرسل إلى الملكة فيكتوريا ـ ملكة بريطانيا ـ يشرح لها الوضع السيئ في إيران، ومدى الجور والغبن الذي يتعرض له الشعب الإيراني في ظل حكم الشاه المستبد. وتوجه من بعد إلى الأستانة، ونتيجة لتأثيره العميق في نفوس العديد من رجال إيران، نهض أحد الإيرانيين ـ يُدعي ميرزا رضا كرماني ـ وقتل ناصر الدين شاه في أثناء الاحتفال بالذكرى الخمسين لملكه في حضرة الشاه عبد العظيم، وتلى ذلك بشهور قليلة أن دُس السم في طعام السيد جمال الدين وتوفي عام 1897م بعد قصة كفاح طويلة ليست في إيران فقط بل في البلدان الإسلامية كافة.