في الثالث عشر من يوليو 2022 جاء الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى منطقة الشرق الأوسط، في زيارة تستغرق عدة أيام، وقد تركزت مباحثاته مع الجانب الإسرائيلي على الاتفاق النووي مع إيران، وهو يعرف أن الأخيرة تدير مفاوضاتها غير المباشرة معه في فيينا بمبدأ “التَّقِيَّة”.
وبالرغم من أن المفاوضات النووية مع دول 4+1 ما تزال سارية، فضلًا عن استضافة قطر مفاوضات ثنائية غير مباشرة بين واشنطن وطهران لم تسفر أيضًا عن جديد في مضمار التفاوض وتنهي حالة الجدل حول المماطلة المتعمدة من الجانب الإيراني في العودة لاتفاق 2015 أو حتى التوقيع على اتفاق جديد.
ومع أن الجانب الإيراني تعتريه الحاجة الملحة لعقد اتفاق سريع يضمن رفع الولايات المتحدة الأمريكية العقوبات الاقتصادية عن إيران والتي قد تساهم في خفض نسبة التضخم وإعادة تصدير إيران نفطها في ظل ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، ما يسهل ترميم الاقتصاد الإيراني المتهالك بفعل العقوبات، إلا أن حالة التماسك الكبيرة التي يظهر عليها المفاوض الإيراني في مراحل التفاوض المختلفة تشير إلى قواعد راسخة من الأفكار التي يسير المفاوضون على هداها خلال مراحل التفاوض وأبرزها “المماطلة والتسويف” المتعمدين، وكذلك فكرة “التَّقِيَّة”.
نظرة تاريخية
يحفل تاريخ إيران بالكثير من الأحداث السياسية التي من شأنها أن تنبئ عن صفات الشخصية الإيرانية وطبيعتها في حالات التفاوض السياسي وإبرام المعاهدات، إذ اتسم تاريخ التفاوض الإيراني بالمماطلة والتسويف الذي من شأنه أن يساهم في وصول الإيرانيين إلى مبتغاهم بالرغم من استمرارهم في عملية التفاوض.
وقد وصف تلك الظاهرة الفيلسوف والرحالة الهولندي “ليونهارت راوولف” الذي زار إيران سنة 1573م في كتابه “رحلة المشرق” في مسألة المعاهدات والمفاوضات السياسية بالتحديد قائلًا: “إن الفرس شديدو المساومة وأنهم لا يتوصلون لاتفاق إلا بعد وقت طويل، وقد جربتهم بنفسي مرات عديدة”.
وتشير تلك الدلائل التاريخية إلى أن الإيرانيين ليسوا فقط ماهرين في المماطلة في المفاوضات، لكن أيضًا لديهم مهارة أخرى تتمثل في الالتفاف على المعاهدات أو نقضها إذا لزم الأمر.
وقد حفل التاريخ أيضًا بسلسلة من الأحداث التي وثقت نقض الإيرانيين للمعاهدات، والتي كان أبرزها نقض المعاهدة الإيرانية ــ العراقية التي أبرمت عام 1937 بعد أن أعلنت طهران عام 1969 اتخاذ خطوات توسعية خلافًا لما نصت عليه تلك المعاهدة. والأمر نفسه مارسته إيران بعد التوقيع على معاهدة الجزائر عام 1975 بعد أن نفذ العراق كل التزاماته، رفضت إيران تنفيذ البند الخاص بالحدود البرية رغم استئثارها بنصف شط العرب طبقًا للاتفاقية.
ولعل أبرز ما يشير إلى استمرار الجانب الإيراني في سلك النهج نفسه ما أعلنه بهروز كمالوندي، المتحدث باسم وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، في عام 2020، من أن بلاده عملت على تغيير أنابيب الوقود في مفاعل آراك، والتي كان تم صب الأسمنت فيها بموجب التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015، وأنه بعد توقيع الاتفاق تم استبدال بعض تلك الأنابيب ليستمر المفاعل في إنتاج الماء الثقيل، وهو ما يشكل خرقًا للاتفاق الذي وقعت عليه إيران.
ووقتها عمد كمالوندي إلى الإعلان عن أن السلطات الإيرانية كانت تملك أنابيب وقود أخرى غير تلك الموجودة في المفاعل، ما عزز إمكانية إعادة تشغيل المفاعل بقوته الكاملة في غضون شهرين فقط، وبالتالي يكون قادرا على إعادة إنتاج الماء الثقيل اللازم لتصنيع البلوتونيوم الذي يستخدم في إنتاج أحد أنواع القنابل النووية.
التَّقِيَّة والتستر الاحترازي
يرى المتابع للمفاوضات الجارية بين إيران ودول 4 + 1 نوعًا من الازدواجية الإيرانية في التعامل مع تلك المفاوضات، فبالرغم من التأكيدات التي تصدر من وقت لآخر من الجانب الإيراني عن رغبته في ضرورة التوصل لاتفاق حول القضايا العالقة، إلا أن المشهد لا يزال محيرًا أمام تلك الرغبة التي لا تعززها التحركات الإيرانية للمفاوض القادم من طهران وحالة الازدواجية بين الرغبة في التوقيع على اتفاق والرغبة الخفية المقابلة في التسويف والمماطلة من أجل التستر على إجراءات أخرى.
إن مبدأ “التقية” الذي يلازم الفكر الفلسفي الشيعي هو أحد أبرز تلك العوامل التي تفسر حالة الازدواجية التي لازمت الشخصية الإيرانية منذ فجر التاريخ ولازمتها أيضًا خلال المفاوضات المتعلقة بالاتفاق النووي في فيينا والدوحة، وأظهرت حالة من الثنائية في الموقف الإيراني بين الإقدام والإحجام بالرغم من الاستمرار في المفاوضات التي دامت لأكثر من عام.
وعلى الرغم من أن المراجع الشيعية تذكر “التقية” على أنها تعني أن يظهر المواطن علانية عكس ما يضمره في قلبه خوفًا من بطش السلطان واستبداده، إلا أن ذلك المبدأ تجاوز عامة الناس واستقر في أعماق قلوب القادة فمارسوا “التقية” حتى في مفاوضاتهم الدولية.
وقد برز ذلك المبدأ في تأكيد بعض الأصوات الإيرانية على أن برنامج إيران النووي هو برنامج سلمي، وسط تقارير أخرى تؤكد وصول نسب التخصيب لليورانيوم إلى ما يزيد عن 60 بالمئة، فضلا عن الإجراءات الكثيرة التي تؤكد سير إيران نحو امتلاك السلاح النووي.
وتسمي بعض المراجع أيضًا “التقية” بـ”التستر الاحترازي”، وهو التستر الذي يمارس مع العدو في كل الحالات سواء في السلم أو الحرب أو حتى في مرحلة المفاوضات، وهو المتسبب في إضفاء حالة من الازدواجية على الشخصية الإيرانية، هذه الازدواجية طغت على النخب الحاكمة في مساعيها السياسية مع العالم، فبرزت رغبة إيرانية في التفاوض والعودة للاتفاق كما تذكر وسائل الإعلام، إلا أن هناك رغبة أخرى في الوصول للعتبة النووية.
ولعل هذا ما فسره إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن وصول إيران لنسب عالية من تخصيب اليورانيوم ما يمكنها من الوقوف على العتبة النووية وأنها باتت في انتظار القرار السياسي والدخول في مراحل التفجير الاختباري للقنبلة وبعدها تعلن إيران عن نفسها كقوة نووية.
وفي تلك الأثناء قد لا تجد إيران غضاضة من وضع المجتمع الدولي بين شقي رحى خلال مفاوضاتها الجارية بين فيينا والدوحة، وتضع أمام دول المواجهة خيارين لا ثالث لهما، إما التسليم بإيران كقوة نووية في العالم وانسحابها من معاهدة الحد من الانتشار النووي وهو قرار له توابعه في دعم الميليشيات الإيرانية وتزويدها بالتكنولوجيا الجديدة والمتطورة، وإما القبول بالشروط الإيرانية التي تحول دون ذلك.
خاتمة وتوصية
تتحكم الفلسفة ووقائع التاريخ في سيرورة التحركات الإيرانية وديناميكيتها مع العالم على كل المستويات، وهو ما يظهر جليًا في استنساخ الجانب الإيراني واستحضاره وقائع التاريخ وإسقاطها على الكثير من مجريات الأحداث في الحقبة المعاصرة، والتي كان الحدث الأبرز فيها المفاوضات النووية الإيرانية ما بين 2015، والمفاوضات الجارية حاليًا للعودة إلى الاتفاق الموقع عام 2015 بعد الانسحاب الأمريكي منه وتفريغ إيران ذلك الاتفاق من محتواه.
وبالرغم من الحاجة الملحة لعودة إيران لمربع الاتفاق النووي 2015، إلا أن الكبرياء الوطني الإيراني يأبى التوصل لاتفاق بدون الوصول إلى نسبة معقولة من الامتيازات التي قد تضاهي نظيرتها في اتفاق 2015 أو تزيد، وهو ما يفسر التأخير والمماطلة والتسويف في التوصل لتوقيع نهائي على مسودة الاتفاق الجديد بين القوى الكبرى وإيران.
وبالرغم من جاهزية تلك المسودة، إلا أن إيران تضغط من جانبها من أجل التوصل لأكبر قدر من الامتيازات بمطالب يصعب على الجانب الأمريكي والأوروبي التوافق عليها، في ظل ضغوط من الجانب الإسرائيلي والأطراف العربية بسبب تخوفات تتعلق باستمرار إيران في نهجها التصعيدي في منطقة الشرق الأوسط.
في تلك الأثناء فإن على دول المواجهة مع إيران أن تعي جيدًا أن التوقيع على اتفاق جديد أو حتى العودة لاتفاق 2015 ستحدث عاجلًا أم آجلًا، إلا أن العامل الأبرز في تلك المجريات هي ضرورة اليقظة التي يجب أن تتحلى بها الدول العربية التي تقع في مرمى الفكر الإيراني التوسعي سواء وقعت إيران على اتفاق أو لم توقع.
ومن الجدير ذكره في هذا المقام أن الفكر الإيراني قائم بالأساس على التوسع تجاه الغرب من الجغرافيا الإيرانية من ناحية، كما يحفل الفكر والتاريخ الإيراني بالكثير من الوقائع التي تشير إلى التفاف إيران ونقضها الكثير من المعاهدات التي أبرمتها مع القوى العالمية، استنادًا إلى أفكار كـ”التقية” من جهة، والتراكم التاريخي المتعلق بالعداء مع العرب والقوى العالمية من جهة أخرى.