دشنت إيران في الأسابيع الأخيرة ثنائية جديدة في سياساتها الإقليمية، باستخدام أداتي الدبلوماسية والحرس الثوري، وقد فُهم من تلك الثنائية أن رسائل طهران إلى العالم الخارجي تكتبها الدبلوماسية وتمهد لها من خلال التصريحات الرسمية والزيارات والاتصالات واستقبال الوفود وطاولات التفاوض، لكن الحرس الثوري هو الذي يتكفل بتسليم تلك الرسائل المحمولة جوا عبر الصواريخ الباليستية.
محاولة اختبار النفوذ الأمريكي في أربيل
إن “إيران لن تتخلى عن وجودها الإقليمي”، بهذه الكلمات عبر المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، عن نوايا إيران في الفترة المقبلة، وتشير كلمات آية الله العظمى إلى سياسة تستمر فيها إيران في دعم الجماعات الموالية لها في الدول المجاورة.
هذه الجماعات التي تمثل النفوذ الإيراني في المنطقة، لكن وفي خطوة غير عادية في فجر الأحد الثالث عشر من مارس تم قصف محيط القنصلية الأمريكية في مدينة “أربيل”، عاصمة إقليم كردستان العراق بأكثر من عشرة صواريخ باليستية قادمة من الأراضي الإيرانية.
وقد اعتادت طهران تنفيذ أجنداتها في المنطقة من خلال دعم الجماعات والميليشيا المسلحة، غير أنها كشفت عن وجه مغاير مرة أخرى وراحت تطلق الصواريخ من أراضيها ثم أعلنت تبني الحدث عبر قوات الحرس الثوري الإيراني، في موقف تبعث فيه برسائل متعددة إلى الداخل والخارج على حد سواء.
إحدى هذه الرسائل هي القول إن الولايات المتحدة قد أصابها العجز أن ترد على هذا العمل المهدد لنفوذها في المنطقة، حتى لا تفتح واشنطن أكثر من جبهة مواجهة مع أعدائها فتسمح لهم بالتحالف معا ضدها.
ولعل الرسالة الأخرى هي تنبيه للاعب الروسي، في محاولة لدفعه لتقديم عروض قوية لتحالف جديد بالأخص في ظل العقوبات التي لا تكف العواصم الغربية عن إعلان الجديد منها كل يوم على حكومة يقودها الرئيس بوتين.
والرسالة الثالثة هي لإسرائيل إذ جاء القصف فيما صورته إيران ردا على مقتل قياديين من الحرس الثوري في قصف إسرائيلي للأراضي السورية يوم الأربعاء 9 مارس، وجاء الرد بهذه الصواريخ على ما وصفه مسؤولو إيران بأنه “مركز استراتيجي إسرائيلي” وتتوعد طهران من خلال هذه الرسالة بردود حاسمة إذا ما تكرر الاعتداء.
موقف طهران من الحرب الروسية ــ الأوكرانية
يشهد شهر مارس الحالي أحداثا كبيرة تتعلق بالحرب الروسية ــ الأوكرانية، وفيه جمعت العواصم الغربية الدول الصديقة وضغطت على حكومات أخرى والتقت مصالحها مع فئة ثالثة لتبني قرار أممي لإدانة الاعتداء الروسي على أوكرانيا.
وقد استطاعت جمع أغلبية 141 دولة من إجمالي 193 دولة عضوا في الأمم المتحدة، ونجحت في استصدار قرار يطالب روسيا بالتوقف فورا عن استخدام القوة ضد أوكرانيا، بينما عارضته 5 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت من بينها إيران.
لعل موقف إيران من هذا التصويت يبعث بالكثير من الإشارات، ومنها أن طهران لم تنس الخلفية التاريخية المتأزمة لعلاقاتها مع موسكو، فقد كانت روسيا حتى سنوات قريبة من منتصف القرن العشرين تسيطر على أغلب الأجزاء الشمالية من إيران.
وفي معاهدة تركمانجي “عهدنامه ترکمنچای” المهينة والمذلة أجبرت الإمبراطورية الروسية الحكومة الإيرانية القاجارية عام ١٨٢٨م، على التوقيع على التنازل عن أراضيها ودفع شيء يشبه الجزية لروسيا؛ مما يعنى أن التعاون الذي دشنته إيران مع روسيا هو تحالفا استراتيجيا وإنما مجرد التقاء تكتيكي مرحلي.
موقف موسكو من مفاوضات فيينا
بعد أن كانت مفاوضات فيينا قد اقتربت من الحسم، حسبما أوضح كبار المفاوضين من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، تدخلت روسيا لعرقلتها على خلفية العقوبات المفروضة عليها إثر حربها في أوكرانيا.
جاء المطلب الروسي بعدم خضوع العلاقات التجارية بين موسكو وبين طهران لعقوبات مماثلة، فمن المعروف أن روسيا تتلقى اليورانيوم المخصب الزائد من إيران وتوفر الوقود النووي لمحطة بوشهر الإيرانية، وكان من المقرر إحياء مثل هذا الدور في أي اتفاق نووي جديد.
الملاحظ هنا أن روسيا لم تستخدم حقها في توقيف قرارات بفرض عقوبات جديدة على إيران، وكانت تستفيد من مثل هذه العقوبات خاصة النفطية منها، بما يسمح لها بالتوسع في بيع نفطها، وبالتالي ليس من مصلحتها امتلاك الجمهورية الإسلامية لسلاح نووي، ومن هنا تظهر نتيجة كيف أن العلاقة الروسية مع إيران ليست تحالفا قائما على دعم قيم مشتركة ولكنها تحالفا تكتيكيا، في إطار بعض المصالح المشتركة وليس الأهداف الاستراتيجية البعيدة.
خاتمة
فيما أعلاه عرض لجانب مما يجري في مفاوضات الملف النووي الإيراني ومحاولة العواصم الغربية التوصل لاتفاق بشكل سريع، وأسلوب روسيا في فرض مطالب جديدة والضغط عبر عرقلة مسار المفاوضات، وإعلان إيران أن تأخير المفاوضات يأتي في صالحها، وأسلوب الجمهورية الإسلامية في التعدي على النفوذ الأمريكي عبر صواريخها الباليستية، لإثبات عجزها عن مواجهة الجميع واستغلال ذلك لصالح موقفها من المفاوضات، وموقف إيران من قرار أممي ضد روسيا وكيف أنها وقت الحسم تفلت جميع الحبال من يديها في سبيل الحفاظ على مصالحها وتحقيق أهدافها.