من الأمور الغربية للقارئ العربي أنه يتابع وسائل الإعلام الإيرانية الموجهة إليه ويجد فيها بطبيعة الحال مواد مكثفة تخص قضايا بلاده، غير أنه قد لا يجد مبررا لكل هذا الاهتمام الإيراني بقضايا العالم العربي، لاسيما أن إيران تخاطبه بلغته العربية من خلال منصات مخصصة لذلك.
فكثير من القراء العرب يحارون في تفسير سلوك إيران وأسباب المعالجات الإيرانية الإعلامية لتطورات الأوضاع في بلادهم في فترة ما بعد شتاء العام 2011م، لاسيما ما بعد المقاطعة العربية لإيران على خلفية اعتداء عناصر من تنظيم الباسيج على المقرات الدبلوماسية للمملكة العربية السعودية في العاصمة طهران وفي مدينة مشهد، عاصمة محافظة خراسان رضوي، مطلع العام 2016.
اقرأ أيضا:
لشرح ذلك للقراء العرب ينبغي التأكيد على أن الإعلام يحتل مكانة متقدمة في أولويات النظام الإيراني وهو ــ أي نظام ولاية الفقيه الحاكم لإيران ــ يعتمد على آلة ضخمة من الوكالات الإخبارية والصحف اليومية المطبوعة والمواقع الإلكترونية والأقنية الفضائية في مصفوفة سياساته الداخلية والخارجية على حد سواء.
بالرغم من أن الإعلام أخذ موقعه في صدارة تراتبية صنع القرار بالنظام السياسي الإيراني؛ إلا أن موقعه أكثر تقدما خاصة في رسائله تجاه العالم العربي من حيث معالجته الرؤية الرسمية لسياسات الدول العربية أو حتى إبداء الرأي في القضايا محل الاهتمام في هذا الصدد.
وتعتمد إيران على الإعلام اعتمادا مركزيا في إيصال رسائلها إلى العالم الخارجي عموما وإلى العالم العربي على وجه التحديد، كما تعتمد كذلك على الإعلام في التمهيد لقراراتها قبل اتخاذها، ثم تبرير هذه القرارات وشرحها وتفسيرها بعد اتخاذها.
لتحقيق هذا الغرض دشنت إيران وأسست عددا كبيرا من الوكالات الإخبارية الرسمية وشبه الرسمية إلى جانب الصحف متعددة الاتجاهات والسياسات تجاه العالم العربي، فضلا عن ما يوليه اتحاد الإذاعة والتلفزيون الرسمي الإيراني لهذا الشأن من اهتمام بالغ، وتحديدا تجاه القضايا الأساسية في سياسة الجمهورية الإسلامية الخارجية إزاء العالم العربي، خاصة تجاه سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين ودول الخليج العربي وغيرها من مناطق الاهتمام ومن ميادين التنافس والصراع.
ومن خلال تحليل المحتوى الإعلامي الإيراني يتضح أن طهران حرصت على أن تسيطر على جانب من الوعي العربي العام عن طريق وسائل إعلامها الناطقة بالعربية التي تنشر مباشرة المواد الموجهة للعالم العربي أو تقوم بترجمة المواد الفارسية من وسائل الإعلام الحكومية الإيرانية إلى اللغة العربية، وهي تنافس بهذه الآلية الدول الكبرى في العالم والدول الإقليمية غير العربية (تركيا ــ إسرائيل) التي دشنت هي الأخرى منصات باللغة العربية لمخاطبة الرأي العام العربي والتأثير فيه.
لعل التنوع الكبير في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية الإيرانية يشير إلى الإنفاق الإيراني الواسع على هذا القطاع المستهدف أن يكون عائده المباشر هو التأثير السياسي لتحقيق المصالح الجيوستراتيجية والمنافع الاقتصادية.
كما يشير إلى تعدد الأطياف الفكرية والسياسية داخل بنية النظام نفسه؛ لسبب بسيط وهو أن إيران لا يوجد بها معارضة بالمعنى المتعارف عليه في الأنظمة ذات الحكم الديمقراطي الراسخ، وهو ما يعني أن كل تلك الوسائل الإعلامية الإيرانية على اختلاف مشاربها تختلف فقط في الآليات لكنها تتفق في الولاء لمبدء ولاية الفقيه الحاكم، وتتفق كذلك في الاستراتيجيات العامة والمرامي الكلية.
وفي إيران تعاني وسائل الإعلام الإصلاحية من قرارات تعسفية بالحجب أو الإيقاف، ولا يعني صدور قرارات متعددة بحجب بعض وسائل الإعلام رفض النظام لها، بل على العكس تماما، فالنظام السياسي يحقق منها الاستفادة السياسية القصوى خاصة أن كثيرا من وسائل الإعلام العربي تتلقف هذا النوع من المخاتلة وتقوم من جانبها بترجمة ما ينشر في وسائل الإعلام الإصلاحية على اعتبار أنه معارضة لنظام الحكم، على غير الحقيقة بطبيعة الحال.
فبتحليل المحتوى الخبري والتقريري للصحف الإصلاحية يمكن البرهنة ــ دون كبير عناء ــ على اتفاقها كليا مع أهداف النظام وسياساته الإقليمية تجاه العالم العربي، بل إن كثيرا من المفكرين الإصلاحيين هم أكثر تشددا تجاه الدول العربية من المفكرين المحسوبين على تيار الأصوليين غير أنهم يجيدون صياغة أفكارهم بعبارات أقل حدة وأكثر نعومة.
وبتدقيق النظر إلى المحتوى الإعلامي لدى وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية وغير الرسمية يتضح أنها تعالج كل القضايا العربية وتهتم بها، لكنها تركز على نوعين من المعالجات في هذا الصدد، وهما:
أولا: مناطق الصراع، بحيث تفرد مساحات من صفحاتها ومحتواها للقضايا السائلة، مثل الوضع في السودان في مرحلة ما بعد عمر البشير، أو التعديلات الدستورية في تونس، أو أي حركات احتجاجية في دول الخليج العربي، أو الوضع في ليبيا قبل سياسة الخط الأحمر التي أقرتها مصر.
ثانيا: المناطق ذات التموضع الإيراني، وهي العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين. ومن الملاحظ في هذا الصدد أن تناولها لقضايا الدول المستقرة مثل مصر وسلطنة عُمان شحيح بالقياس إلى تناولها للقضايا محل الذكر.
كما تنتهج إيران مبدأ “الإثنينية” في سياساتها، أي إنها تستخدم الإعلام كإحدى ذراعين في هذه الثنائية التي تشير إلى التكامل وليس الازدواجية، بمعنى تزامن تعاملها مع الملفات المختلفة من خلال أداتين:
أ ــ الحرس الثوري والإعلام.
ب ــ الدبلوماسية والإعلام.
وهو ما يتضح من معالجة إعلامها للوضع في اليمن الذي ينخرط فيها الحرس الثوري ويمهد له الإعلام ويبرر سلوكه، ومن خلال تناولها للشؤون السعودية على سبيل المثال.
يشير ذلك في المحصلة النهائية إلى أهمية الإعلام كأداة أساسية في عملية صنع السياسات العامة للنظام الإيراني عموما وتجاه العالم العربي على وجه الخصوص.