نشر الباحث الإيراني “عابد اكبرى” مقالة في “معهد أبرار للدراسات والبحوث الدولية المعاصرة ـ طهران” بعنوان “جهانبینی اولاف شولتس”، أو “رؤية أولاف شولتس للعالم”، وقد رأى “المنتدى العربي لتحليل السياسي الإيرانية ـ أفايب”، ترجمتها؛ لتعريف القراء والمهتمين العرب بجانب من وجهة نظر مراكز الفكر الإيرانية ورؤيتها حيال انتقال السلطة في برلين، أخذا في الاعتبار أهمية ألمانيا في الاستراتيجية الإيرانية بحكم عضويتها في مفاوضات الملف النووي الجارية الآن في فيينا، مع التأكيد على أن المقالة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر المنتدى ولا وجهة نظر المترجمة.
***
وفقًا لإعلان النتائج الأولية للانتخابات في ألمانيا وفوز الحزب الاشتراكي الديمقراطي وهزيمة الأحزاب المسيحية، تشكل ائتلاف في ألمانيا اشتهر باسم إشارة المرور[1]؛ ما مكن أولاف شولتس من أن يحل محل ميركل في منصب المستشار الألماني.
بهذه المقدمة نبحث التوقعات حول سياسته الخارجية الضرورية المحتملة. شولتس يشبه ميركل، لن يكون لاعبًا أو وسيطًا للسياسة الخارجية لألمانيا، بل سيظهر بمثابة ممثل قوي. ما ستقرأونه في هذه المقالة هي أراء شولتس فيما يخص دور الاقتصاد، ومناهج تعددية الأطراف، والميل نحو الأوروبية، والأمن، والقوانين الدولية في السياسة القادمة المحتملة في ألمانيا.
من منطلق خبرة شولتس الفعالة في المجال الاقتصادي، فمن البديهي أن تكون الأمور الاقتصادية هي النقطة المحورية لاهتمامه الحالي. وبناءً على ذلك ستتم تنحية المثالية الألمانية المتبعة إلى أبعد الحدود جانبًا، والأخذ بضرورة انتخابه في منصب المستشار في ألمانيا في عين الاعتبار سواء من وجهة نظر الشعب، أو من وجهة نظر مؤيدي ميله نحو الأوروبية.
هذه الضرورة ناتجة عن أزمة كورونا، ثم الحرب التجارية بين الصين وبين أمريكا التي ستعمل على الإطاحة بأوروبا تحت قصفها. كان شولتس وزيرا للمالية، وأحد وزراء المالية لمجموعة السبع[2]، ومجموعة العشرين[3]، وكذلك مجموعة اليورو[4]. في محاولة من ألمانيا للإحاطة بالمجموعات الاقتصادية على مستوى العالم من أجل التأثير في القرارات الدولية التي لن تغفل عنها بلا شك من أجل دمج سياساتها عن طريق أخذ اللاعبين الصغار في عين الاعتبار مثل شرق أوروبا.
ردًا على جائحة كوفيد ١٩، قدم شولتس مجموعة من حزم الدعم غير المسبوق من أجل اقتصاد بلاده، والتي شملت ١٠ مليارات يورو كحزم تحفيزية في عام ٢٠٢٠م، وبصحبة حزم من الدعم للأعمال، والمستقلين، وكذلك وجود خطة بقاء المصانع مفتوحة، وتجنب الإخلاء الجماعي، أدى كل هذا إلى إدارة الأزمة بشكل أفضل بالمقارنة مع دول الجوار من ضمنها إيطاليا وفرنسا.
شولتس الرئيس التنفيذي لصندوق “الجيل الأوروبي القادم” وهو عبارة عن صندوق يحتوي على مدخرات تبلغ ٧٥٠ مليار يورو كميزانية تعافٍ؛ لحماية الاقتصاد الأوروبي والحيلولة من دون الركود وذلك عن طريق دعم أعضاء الاتحاد ضد تأثير الوباء، ويشمل الميزانية اللازمة لاتخاذ القرار في ألمانيا، والمبنية على إنفاق ٩٠٪ من ٢٨ مليار يورو لحماية البيئة والاتجاه نحو الرقمنة.
أهمية الميل نحو الأوروبية وتعددية الأطراف
سيكون الميل نحو الأوروبية وتعددية الأطراف من المناهج المهمة للسياسة الخارجية لشولتس. شولتس أحد المائلين إلى الأوروبية المتصفين بالعند، وتجلى ذلك من خلال طابعه السياسي.
لقد صرح في خلال حديث له بإحدى الجامعات في برلين أنه يعتبر أوروبا “أهم اهتمام قومي ألماني”. ويعتقد أن المصالح القومية الألمانية تتطلب التأكد من أن أوروبا قوية، وقادرة، وباحثة عن العدالة في المشهد الحالي.
لقد كانت وجهة نظره تجاه أوروبا تتشابه كثيرًا مع نظرة ميركل إليها، والتي تتركز على الاهتمام بشرقي أوروبا، والمخاطر الناجمة عنها بالنسبة لألمانيا، وبالأكثر على هبة تماسك الاتحاد وقدرات الدعم مع شرق أوروبا وجنوبها. يخشى الغرق أو القضاء على ألمانيا في مقابل القوى الناشئة، ويرى الحل في اتساع أوروبا بدلًا من ألمانيا.
أكد شولتس عندما كان وزيرا للمالية مرات عدة على وجوب التركيز على محور بروكسل الرئيس، ومحور فرنسا الفرعي، وتوجيه ألمانيا وإرشادها للتيارات في الاتحاد الأوروبي. ويبدو أنه مثل ميركل يعطى أهمية خاصة للدولة الجارة فرنسا لمزيد من المصادقة في القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية الألمانية.
يلتقيان هو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الفكر نفسه، والفهم المشترك إذ ينظر كلاهما إلى السياسة من الناحية الاقتصادية، لكن شولتس ينظر إلى الأمور بواقعية أكبر، ويستخدم الجين البراجماتي الألماني بأسلوب موثوق.
حتى ربما يستطيع شولتس في الدقائق الأخيرة أن ينقذ الحياة السياسية لماكرون وجزءًا من أهدافه العقلية المتعلقة بالجمهورية والمواطنة، وذلك قبل أن يدع ماكرون المجال السياسي الفرنسي جانبًا ويقضي باقي عمره في زي الفيلسوف السياسي.
بلا شك في التشكيل الجديد لهذا الثنائي، سيكون ماكرون بلا خبرة وغير ماهر مجددًا، بينما شولتس وجه خبير مخضرم في العمل السياسي مثل ميركل. يتعاون شولتس مع فرنسا حتى الآن حيث يشمل هذا التعاون مساعٍ لاستحداث الحد الأدنى للضريبة على الشركات ووضع قواعد جديدة للضرائب على نشاط عمالقة التكنولوجيا في أوروبا.
يناسب هذا النموذج كذلك مجموعة السياسات المتعلقة بتعددية الأطراف الأوروبية الألمانية. ومع ذلك، يدرك شولتس أن أوروبا وألمانيا تؤديان دورًا ضئيلًا في الجغرافيا السياسية وسياسات العالم.
من هذا المنطلق، اقترح المستشار الألماني أن تبدل فرنسا مقعد مجلس الأمن لـ”مقعد أوروبي”، وبدلًا من ذلك سيُسمح لفرنسا بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي في الأمم المتحدة بصورة مستمرة.
وجهات النظر الأمنية لدى شولتس
يعد شولتس ضمن السياسيين الأوروبيين المراقبين والقلقين بشأن نفوذ الصين، وروسيا، والهند، وبعض الدول الأخرى، بالإضافة إلى النهج أحادي الجانب المُتبع من قبل أمريكا.
ويمثل هذا التغيير لغزا جيوسياسيا دوليا بالنسبة له بمعنى قدرة تماسك ٤٥٠ مليون شخص من سكان أوروبا في قالب واحد، أو قبول احتمال انهيار حكومة الدول الأوروبية. وهو من هذا كله، يدافع ضد روسيا بشكل خاص. ويأمل أن تجد أوروبا حائلًا من دون التوسع الروسي في الشرق وحل الأزمة في شبه جزيرة القرم.
أهم أداة من وجهة نظره هي اتساع المشاركة وجوار الشرق تحت لواء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ومع ذلك أكد شولتس في بيانه على أن روسيا قوة عظمى في القرن الحادي والعشرين، ومن خلال هذه النظرة هناك ارتباط تقليدي وثيق في العلاقات بين ألمانيا وبين روسيا. وشأنه شأن ماكرون من حيث الموافقة على إقرار العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي وبين روسيا.
من وجهة نظر شولتس، أي تزعزع بين شرقي أوروبا وغربيها أو شمالي أوروبا وجنوبيها بمثابة تهديد للأمن وحتى أنه أسلوب معياري ضد أوروبا. كما يعتبر ألمانيا مسؤولة “مسؤولية اجتماعية” لضمان نجاح المشروع الأوروبي. وبناءً على ذلك مطالب بالمساواة، وحق وجود جميع اللغات، والأقوام، والدول الأوروبية في سائر القرارات.
كما يتوقع الرؤية نفسها من قبل فرنسا، ويستنبط من خلال حديث فرنسا المتمثلة في ماكرون عن الماضي المشترك للحضارة الأوروبية من أجل دمج الاتحاد أنه مجرد كلام، في الوقت الذي فيه يمكن أن يكون تحقيق المقعد الأوروبي في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بمثابة خطوة عملية وملهمة لإنقاذ أوروبا من التزعزع.
من وجهة نظر شولتس، يجب على الاتحاد التماسك في الأمور الدفاعية. العضوية في الناتو فقط والتكلفة الجزئية من الناتج المحلي الإجمالي غير كافيتين، بل يقترح أن يفكر أعضاء أوروبا في تقليل وجود ١٨٠ نظام سلاح في أوروبا مثل أمريكا التي تمتلك ٣٠ نظام سلاح فقط.
بلا شك لدى شولتس نظرة نحو مصانع الأسلحة واقتصادها أيضًا، ويريد تغيير وثيقة التحالف الأوروبي المستدام (بسكو). بالإضافة إلى أن تأمين الحدود وقبول نظام التأشيرة الإلكتروني المتكامل في منطقة شنجن الأوروبية[5] ضمن مقترحاته الأخرى.
القانون الدولي وحقوق الإنسان
يتلخص نمط الحياة الأوروبي من وجهة نظر شولتس في: احترام الكرامة الإنسانية، الحرية، الديمقراطية، المساواة، تطبيق القانون، واحترام حقوق الإنسان، ومن ضمنها احترام حقوق الأقليات. ومع ذلك، لدى شولتس نظرة عامة تجاه القانون الدولي مثله مثل سائر نظرائه الأوروبيين، وهي وجوب احترامه، ومعرفة سبل الهروب الضرورية منه.
ويمكن القول إنه يتمتع بشخصية محافظة مثل ميركل، وقد أكد على إحدى التحديات الأكثر استفزازية في سياسات عهد ميركل أي سياسة الحدود المفتوحة التي تسببت في سقوط أنجيلا عام ٢٠١٥م، والقائمة على التمييز بين المهاجر واللاجئ بحيث تقبل الأول، وحتى تعتبر ألمانيا وأوروبا بحاجة إلى مراجعة التخصصات؛ لكن الثاني يعني انتقال الأزمة من غربي أسيا وأسيا الوسطى إلى أوروبا.
وإن كان تحت مسؤولية الحماية، يعتبر التكامل الأوروبي كله مسؤولًا، ويعتقد أنه يجب على ألمانيا إنجاز مهامها. والجدير بالذكر أن عبء اللجوء إلى الاتحاد لا يجب أن يؤثر على لقاحات البلدان الحدودية مثل أسبانيا واليونان، لكن تفضل ألمانيا تقديم الدعم المالي إلى هذه الدول بالمقارنة مع فتح أبوابها مرة أخرى.
ربما تصنع شخصية شولتس المحافظة وجهًا ديكتاتوريًا في بعض الأحيان حيث تظهر لطافة الرسام وعنف الرايخ[6] في آن واحد. وقد اعترض شولتس سابقًا على محاولات انتهاك حرية التعبير واستغلال السلطة لحذف تصريحاته من إحدى المقابلات.
مع ذلك، للمستشار الألماني الجديد أحاديث حول حرية التعبير، والحريات، ووضع حقوق الإنسان وخاصة في الصين، ويجد خلال ممارساته مع وضع حقوق البشر انتهاكًا له في بولندا والمجر.
ومن الأمور المثيرة للإعجاب في رؤى شولتس الحزبية إلى حد ما، أن الدعم الأوروبي حق اجتماعي، والعمل به سيجعله يحصل على شعبية أكثر إلى حد ما. كما يعتبر الحقوق الاجتماعية، وشمولية العمل، والمرتبات، والرفاه، ودعم الحكومة ونظائر ذلك تحولًا في الاتحاد المصرفي يمكن الحصول عليه من خلال زيادة مرونة النظام النقدي باليورو وتطويره إلى عملة دولية.
يبدو أن شولتس سيكون لديه مشاغل كثيرة في منصب المستشار، لكن يمكن في بعض الأحيان أن يكون لديه توصيات بصدد حقوق الإنسان، وكانت لديه في السابق مواقف محافظة.
على سبيل المثال: صرح بمعارضته لبعض الأمور مثل الوجود الأمريكي بالقرب من مضيق هرمز، كما قام بتوصية الكيان الصهيوني بأن التعامل مع الاتفاق النووي من قبل مجموعة (5+1) مع إيران سيصب في مصلحتها.
بشكل عام، بالمقارنة مع باقي الشخصيات التي كانت مرشحة لمنصب المستشار، فإنه سيتدخل في الشؤون الداخلية لسائر الدول الأخرى في نطاق محدود، بالإضافة إلى توطيد العلاقات الاقتصادية. كما يبدو أنه سيكون أسير لعبة التسييس بشكل يقل عن الجميع.
خاتمة
مفهوم أن شولتس أكثر من أنه يريد التغيير في السياسة الخارجية لألمانيا، وهو بصدد خلق تحول في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي بشكل دقيق من موقع القيادة الألمانية بالنسبة لأوروبا.
فبالنسبة له هو مثل ميركل، يعتقد في كون السياسة الخارجية الألمانية دليل للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، على الرغم من إعجابه بالفروق الدقيقة بين ما تمثله ألمانيا لنفسها، وبين ما تمثله لأوروبا، ويتجلى ذلك بوضوح في المجال الاقتصادي.
على كل حال، يظهر شولتس اقتناعه بالاستقلال العملي بالنسبة للدول الأوروبية الأخرى. كما يعد ضمن الموافقين على “نورد ستريم ٢”[7]، ومن ثم اتهمته منافسته السابقة ووزيرة الخارجية الحالية آنالينا بايربوك بتسييس الاقتصاد، لكن “نورد ستريم ٢” واقع جيوسياسي من أجل الحياة الأوروبية من الناحية الأمنية.
على هذا المنوال يمكن تلخيص السياسات المحتملة لألمانيا مع المستشار شولتس كالآتي:
ــ تغيير معايير سياسة الاقتصاد العالمي للاتحاد الأوروبي وخاصة في المواجهة مع أمريكا.
ــ الحفاظ على التكامل الأوروبي لـ٤٥٠ مليون مواطن أوروبي.
ــ الحفاظ على الركائز الحالية للنظام الدولي التي تعطي امتيازات بحد أدنى من أجل أوروبا التي أوشكت على الغرق.
ــ الاعتماد على تعددية الأطراف لعدم إزالة أوروبا من ساحة صنع القرار الدولي.
ــ محاولة إحداث إصلاحات هيكلية ونظامية واقتصادية في الاتحاد الأوروبي.
ــ تذكير العالم بالهوية والقيم الأوروبية.
ــ الحفاظ على المؤسسات، والمعايير، والقوانين الدولية، وسائر منجزات السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ائتلاف إشارة المرور أو الإشارة الضوئية هو مصطلح ناشئ في السياسة الألمانية إذ يصف الحكومة الائتلافية بين الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، والحزب الديمقراطي الحر، وحزب الخضر الألماني. وقد نشأ من الألوان التقليدية للأحزاب، الأحمر، الأصفر، والأخضر على التوالي، تشبه تسلسل اللون العادي في الإشارة الضوئية / المترجمة.
[2] يقصد مجموعة الدول الصناعية السبع، وهي عبارة عن اجتماع وزراء المالية من الدول السبع: فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، إنجلترا، أمريكا، كندا، اليابان / المترجمة.
[3] هي منتدي دولي يجمع بين الحكومات ومحافظي البنوك المركزية من ١٩ دولة زائد الاتحاد الأوروبي. وتأسست بهدف مناقشة السياسات المتعلقة بتعزيز الاستقرار المالي الدولي / المترجمة.
[4] هي مصطلح جماعي معترف به للاجتماعات لوزراء مالية منطقة اليورو – تلك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي تبنت اليورو كعملة رسمية لها. وتحوي المجموعة على ١٩ عضوًا / المترجمة.
[5] هي منطقة تضم ٢٦ دولة أوروبية، قامت بإلغاء جواز السفر وضوابط الهجرة على الحدود الداخلية المشتركة بينها. وهي بمثابة دولة واحدة لأغراض السفر الدولي، مع وجود سياسة تأشيرات مشتركة. وسميت بمنطقة شنجن بعد الانتهاء من اتفاق شنجن / المترجمة.
[6] الرايخ الألماني هو الاسم الرسمي لألمانيا في الفترة من ١٨٧١ إلى ١٩٤٥م، ترجمته الحرفية الإمبراطورية الألمانية، وتخلت عنه بعد الحرب العالمية الأولى وتحول الاسم الرسمي بصورة غير رسمية ببساطة إلى ألمانيا / المترجمة.
[7] هو اسم خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من مدينة فيبورغ في روسيا إلى مدينة غرايفسفالد في ألمانيا / المترجمة.